التركيز على الوعى الثقافى الجمعى قادر على إذابة أى تكلسات لهذه الأبواق الزاعقة فى آذاننا وفى وسائل تواصلنا انطلقت أمس فعاليات معرض القاهرة الدولى للكتاب؛ وهو العرس الثقافى الحاشد مصريا وعربيا؛ وفى الوقت نفسه لا يكفّ المغرضون عن إطلاق الشائعات على مصر وتشويه دورها الكبير فى ضبط الإيقاع فى منطقة ملتاثة بمجانين الخراب وذوى العاهات المرَضية؛ وهى مفارقة تقول إن التركيز على الوعى الثقافى الجمعى قادر على إذابة أى تكلسات لهذه الأبواق الزاعقة فى آذاننا وفى وسائل تواصلنا؛ ليس هذا فقط؛ بل إن الثقافة هى البداية الحقيقية التى يجب التركيز عليها والانطلاق من خلالها فى عملية البناء الوطني؛ وبالطبع فإننا نقصد الثقافة بمفهومها الأشمل لمتطلبات العصر، والتى تضم بين فروعها الكثيرة الثقافة الدينية وأفكار التجديد ومحاولات إنتاج فقه يُناسب العصر ولا ينقطع مع تراثنا الفقهى العتيد فى الوقت نفسه؛ وإنما يكون محاولة للبناء ولا بديل عن المزيد من البناء. ولهذا فإن رصد التحولات الثقافية التى أسست لريادتنا الأولى يصبح أمرًا لازمًا لدراسة ما كان وأين نحن وما يجب أن يكون، للتعلم من إيجابيات تجاربنا السابقة من ناحية، وتجنب العثرات التى أركستنا فى مهاوى «الحظيرة الثقافية» التى أصبحت فيها الثقافة خادمة لأهداف ورؤى الفقاعات السياسية السابقة، من ناحية أخرى؛ وأضحى تعليب الأفكار الجاهزة أمرًا واجبًا على كل مثقف قبل تعليبه فى تلك البوتقة الآسنة.. ولا أشك أبدًا أن مؤسساتنا الثقافية العتيدة قادرة على سد الكثير من الثغرات التى انفتقت منذ الخريف العربى العاصف بالثوابت الوطنية الراسخة؛ وهو ما يدعو إلى أن نكون أكثر وعيًا بما يُحاك لنا من أعدائنا؛ لأن اختراق الفكر الوطنى هو الوباء الذى ليس له دواء. ولكل ذلك يأتى كتاب صديقى الشاعر والروائى صبحى موسى: (تحولات الثقافة فى مصر) ليسد تلك الثغرة المعرفية فى تاريخنا الثقافى، وليطرح الكثير من التوصيف والتأريخ للثقافة المصرية بصورة تفصيلية؛ وهو ما لا يستوعبه كتاب واحد؛ لذلك كنت أحبذ لو قام «صبحي» بالتركيز على نقطة واحدة والتعمق فيها، ولتكن «قصور الثقافة» التى نقلت الثقافة الجماهيرية إلى النجوع والقرى على يد مؤسسها ثروت عكاشة؛ ثم تراجع دورها بعد ذلك لعدم وجود خطة واضحة لاستغلال هذه الأبنية الفخمة وتفعيل ما تم إنفاقه عليها من قوت الشعب. تبنى «صبحى موسى» فى كتابه تعريف مؤسس علم الأنثربولوجيا الثقافية «إدوارد تايلور» للثقافة؛ والذى ذهب فيه إلى أن: الثقافة هى ذلك الكل المعقد الذى يشمل المعرفة والعقيدة والفن والتقاليد وأية قدرات وعادات أخرى يتعلمها الإنسان كعضو فى المجتمع.. ولهذا علينا أن نفهم الثقافة على أنها كل ما يخص بناء عقل ووعى المواطن، وهو ما يجب أن تهتم به أى خطة ثقافية تهدف إلى بناء مجتمع قادر على التفاعل مع التحديات التى تواجهه؛ ويرفض «صبحي» أن ينحصر دور وزارة الثقافة فى رعاية الفنون والآداب؛ لأنها رأس حربة لمجموعة من المؤسسات والوزارات التى تقوم طبيعة عملها على الإسهام فى بناء عقل ووعى المواطن، ولا يمكن إغفال تاريخ وقدرات أى منها فى وضع وتنفيذ خطط الثقافة. ورغم الملاحظات العديدة التى ملأتُ بها هوامش نسختى من هذا الكتاب؛ فإننى قد استمتعتُ بقراءته، وأفدت منه معلومات جديدة لم أكن أعرفها عن الهيئات الثقافية المصرية وفروعها المتشابكة، ولجانها العديدة التى دائمًا ما تنبثق عنها لجان ولجان ولجان.. وإن كنا نزجى تحية مستحقة إلى «صبحى موسى» وتحولاته الثقافية؛ فإننا نعلم أن هذا الكتاب كان مجرد البداية لسلسلة كتب كاشفة عن مستقبل الثقافة المصرية والعربية وكيفية الخروج من مآزقها العديدة.