ربما هى كلمة واحدة، بسيطة فى لفظها، لكنها رحبة فيما تبثه من ارتياح. والاطمئنان شعور داخلى منبعه الثقة، فلا اطمئنان بغير ثقة، وعندما يصر الرئيس عبد الفتاح السيسى على تكرار الكلمة فى أكثر من مناسبة، فهو حريص على بث روح الطمأنينة فى نفوس المصريين جميعًا فى مواجهة عواصف وأنواء تجتاح المنطقة من حولنا، مستندًا إلى العديد من العوامل التى تدفع القيادة والمواطن على حد سواء إلى الثقة فى قدرة الدولة المصرية على توفير ذلك الاطمئنان. والاطمئنان فى قاموس القيادة السياسية مرده الأول إلى الثقة بالله العزيز القادر، الذى يحفظ بعينه التى لا تنام مصر وأهلها الطيبين، وإلا لما أصدر الله تعالى حكمًا أزليًا فى كتابه العزيز على لسان نبيه يوسف الصديق: «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين»، فقرن جل فى علاه اسم مصر بمشيئته قبل أن يمنحها صفة الأمان. ولا أنسى إصرار الرئيس السيسى خلال لقائه عددًا من الإعلاميين بمقر القيادة الاستراتيجية فى أكتوبر الماضى، وكان لى شرف أن أكون بينهم، على أن ينسب فضل الحفاظ على مصر وإنقاذها من كل التحديات الهائلة التى واجهتها طيلة العقد الماضى لله وحده، رافضًا أن يَنسب فضلًا فى ذلك لإنسان، حتى هو نفسه. لكن تلك الثقة لا تأتى فقط من ذلك الإيمان العميق بالله وحفظه لمصر وأهلها وأن الله «لا يصلح عمل المفسدين» من أهل الشر الذين يكيدون لمصر وشعبها طمعًا فى سلطة أو رغبة فى علو بالأرض، ولكنها تأتى أيضا من خلال الأخذ بأسباب القوة، وامتلاك القدرة على العمل الجاد والدءوب من أجل الإصلاح الشامل لكل مناحى الحياة، فالإيمان غير المصحوب بعمل هو درب من دروب التواكل. ■ ■ ■ وثانى بواعث الثقة الداعية إلى الاطمئنان، يكمن فى أن الدولة المصرية وعلى مدى عقد كامل اتخذت من الإصلاح الشامل منهجًا ومسارًا، بدأت بإصلاح لاقتصاد تضرر كثيرًا جراء الأزمات وتأجيل الحلول الناجعة، وربما كانت بعض قرارات ذلك الإصلاح ذات تكلفة اجتماعية، وخاصة على الطبقة المتوسطة، لكنها تبقى أقرب إلى الدواء المر الذى ينبغى تجرعه أملًا فى شفاء مستدام. كما بدأت الدولة المصرية إصلاحًا للبنية التحتية التى تمثل ضرورة لتسهيل وتحسين حياة الناس، فى بلد كثيف السكان، ليس بالنظر إلى العدد أو معدل الزيادة، ولكن أخذًا فى الاعتبار نمط انتشار هؤلاء السكان على الخريطة الجغرافية للبلاد، إذ لم تكن المساحة المأهولة بالسكان تزيد على 6 فى المائة من المساحة، فإذا بها تتضاعف فى عقد واحد، وهو إنجاز يجب أن نتوقف أمامه لندرك حجم ما حققناه، فدولة عاشت لآلاف السنين على شريط ضيق من الوادى والدلتا، يتجاوز تعدادها اليوم 100 مليون نسمة، تحتاج أن تبنى مساحة مأهولة جديدة قادرة على استيعاب ما يقارب تعداد السكان الحالى فى أقل من 25 عامًا، إذ من المتوقع أن يصل عدد المصريين فى 2050 إلى 180 مليون نسمة. ولنتخيل الواقع إذا لم تتحرك الدولة بهذه الوتيرة السريعة من العمل والإنجاز لاستيعاب زيادة سكانية تجاوزت 25 مليون نسمة منذ 2011 فقط، فضلا عن استضافة نحو 9 ملايين ضيف وافد من دول الجوار، ولنتصور كيف يمكن أن تكون صورة المستقبل خلال ربع قرن فقط عندما يتضاعف تقريبًا تعداد السكان الراهن، ساعتها سندرك أننا بحاجة إلى مضاعفة ما ننجزه اليوم مرات ومرات، فقط للحفاظ على مستوى المعيشة الذى نعرفه اليوم، فماذا لو أردنا التحديث والتغيير للأفضل؟ علاوة على مساعى جذب الاستثمار وتهيئة المناخ الجاذب فى ظل منافسة شرسة على استقطاب الاستثمارات بشتى السبل ومن بينها توفير بنية تحتية ومرافق متكاملة وحديثة ومواكبة لأعلى المعايير العالمية. ■ ■ ■ هذا الإصلاح امتد كذلك لكل مؤسسات الدولة، عبر بناء للإنسان وتحديث للنظم، وكان للقوات المسلحة والشرطة المصرية حظ وافر من ذلك التحديث، فهاتان المؤسستان اللتان أعتبرهما ذراعى الأمة، ودرعها وسيفها لمواجهة المخاطر والتهديدات، تحملتا فى السنوات الماضية عبئًا ثقيلاً ومسئولية وطنية هائلة لحماية مقدرات الشعب المصرى والحفاظ على أمن وسلامة الحدود، فضلًا عن تطهير الجبهة الداخلية من تنظيمات التكفير والتطرف والحفاظ على أمن المواطن وفق مفهوم شامل للأمن القومى. لم تكتف الدولة بتحديث منظومة تسليح القوات المسلحة والشرطة، بل الأهم كان الارتقاء بتأهيل الفرد المقاتل ضابطًا أو جنديًا، وفق منظومة علمية حديثة تكسبه قدرات ذهنية وفكرية إضافية للقدرات التقليدية النفسية والجسمانية، وتجعل منه قادرًا على استباق الجريمة وتوقع مصادر التهديد والخطر، وليس فقط التعامل كرد فعل لتلك المهددات. ولعل الجاهزية الكبيرة واليقظة المستمرة، وما تحقق فى منظومة التأهيل والتدريب المتواصل للمؤسستين العسكرية والأمنية، يمثل أحد بواعث الطمأنينة التى تحرص القيادة السياسية على بثها فى نفوسنا جميعًا، وتأكيدها كلما سنحت الفرصة، وكان الاحتفال بعيد الشرطة أحد تلك المناسبات التى برهنت بالقول والفعل على ما باتت تتمتع به مؤسساتنا من قدرات على الحفاظ على مصر واحة للأمن والأمان. ■ ■ ■ أسباب الطمأنينة لا تقتصر فقط على العوامل السابقة، بل ينبغى أن نضيف إليها كذلك رشد الإدارة وحكمة القيادة المصرية، فهذا الرشد والرغبة الصادقة فى الإصلاح، وبناء دور للدولة المصرية فى محيطها الإقليمى يعتمد على أن تكون القاهرة قوة دفع لجهود السلام والاستقرار، ومركزًا لجهود التنمية والبناء، منحنا مصداقية واضحة للعب أدوار إقليمية ودولية أكثر موثوقية فى محيط مضطرب. وإضافة إلى ما تتمتع به مصر تاريخيًا من تأثير فى محيطها الجغرافى والحضارى، أضيف إلى ذلك دبلوماسية نشطة ذات رؤية ومحددات وثوابت واضحة، تعتمد على تعزيز قدرات الدولة الوطنية فى مواجهة الميلشيات والتنظيمات والفواعل دون الدولة، التى تحولت فى العقود الأخيرة إلى ما يشبه «السوس» الذى ينخر فى عظام دول الإقليم ويستخدم لتفكيك مفاصل الدولة الوطنية، وإشعال الصراعات المذهبية والطائفية والعرقية، استنادًا إلى مكامن الضعف فى المجتمعات المستهدفة. واليوم مع كل ما يعانيه محيطنا الإقليمى من اضطراب وارتباك، تضاعف الدولة المصرية من جهودها، ليس فقط لبناء نفسها وقدراتها الشاملة داخل حدودها، ولكن أيضًا تمد يد العون للأشقاء الذين يحتاجون تلك المساندة والدعم، فمصر دائما كانت -وستظل بإذن ربها- الملاذ الآمن لمن يواجهون المحن والشدائد من حولنا، فهذا قَدَرُها وقدْرها. كما أن مصادر التهديد والخطر لا تقتصر على دولة دون غيرها، فحالة الاضطراب الراهنة قد تشجع تنظيمات توارت وكادت أن تتلاشى فى جحورها على العودة إلى السطح، مستغلة الظروف الأمنية وحالة السيولة التى تعانيها بعض الدول، كما قد تغرى تلك الأجواء الذئاب المنفردة على ارتكاب عمليات إرهابية تستهدف بها إثبات الوجود، وهو ما يستوجب مضاعفة درجات اليقظة والحذر، والحذر ليس مبعثه الخوف، بل الإصرار والتمسك باستمرار حالة الأمان. ولا أبالغ إذا قلت إن قلق المصريين على وطنهم هو أحد العوامل التى تبعث على الاطمئنان، فحالة القلق على الوطن مؤشر صادق على أن المناعة الاجتماعية لا تزال بخير، وأن الخشية من وقوع ما يكدر صفو الحاضر هو علامة واضحة على حرص المصريين على مستقبلهم، وتمسكهم بأن يواصلوا بناءه على أساس وطنى وبأدوات حديثة تضع بلادهم فى مكانتها الصحيحة، فمن ينتابه القلق لديه دائمًا ما يخشى عليه ويحرص على التمسك به، بينما الخوف الحقيقى يأتى ممن ليس لديهم ما يخسرونه، واليوم لدى المصريين - ورغم كل ما واجهوه من صعاب وتحديات- ما يجب أن يتمسكوا به، فلدينا وطن مستقر آمن فى محيط تتهاوى فيه الدول كأوراق شجرة فى خريف عاصف، ولدينا مستقبل نبنيه بأيدينا كى نترك لأبنائنا وأحفادنا ما يليق بوطن صنع تاريخًا ينحنى العالم أمامه إلى اليوم.