إنجاز الهدنة ووقف إطلاق النار فى قطاع غزة، كان منذ اللحظة الأولى التى اندلع فيها زلزال السابع من أكتوبر هدفًا مصريًّا وأولوية قصوى. فى تحليله الوافى لشخصية مصر الاستراتيجية، يكتب الدكتور جمال حمدان فى الفصل الخامس والعشرين من موسوعته الخالدة «شخصية مصر» أن ثمة خاصية واحدة فى شخصية مصر الاستراتيجية مستمرة ومشتركة بين عصرى الإمبراطورية والمستعمرة، على ما بينهما من تناقض جذرى، تلك الخاصية تكمن فى أن مصر كانت دائمًا مركز دائرة، قلّت أو كبرت تلك الدائرة، ضاقت أو اتسعت، ولكنها دائمًا دائرة لها محيط وأبعاد، وهى دائمًا- أى مصر- مركز جاذبيته وثقله، ولها الدور القيادى فيه، وبإيجاز حاسم يكتب حمدان «كانت مصر باستمرار قطب قوة وقلب إقليم». واللافت أن الدكتور جمال حمدان فى تحليله القيّم لشخصية مصر الاستراتيجية، لم يقتصر على الحديث عن الدور المصرى، بل صك مصطلحًا أراه لا يزال صالحًا للاستخدام والتعبير عما نواجهه فى عصرنا الراهن وهو «خريطة الخطر»، إذ يخلص إلى أن مصر عاشت دائمًا أو غالبًا فى خطر، ويكاد الخطر الخارجى يتناسب طرديًّا مع خطورة الموقع وأهميته وغناه. ويضيف حمدان أن الحياة فى ظل الخطر لم تكن شرًا مطلقًا، بل اعتبرها «ظاهرة صحية أحيانًا» لأنها «منذ وقت مبكر شحذت الوعى القومى وأرهفت الحساسية واليقظة الوطنية واستبعدت احتمالات الانغلاق على الذات واللامبالاة بالعالم الخارجى»، وأنها باختصار «أنضجت شخصية مصر ونمّتها». هذا التحليل الذى يستند إلى قراءة متعمقة للتاريخ والجغرافيا ما أحوجنا إلى إعادة فهمه اليوم، ونحن نجتاز واحدة من أعقد وأعمق مراحل «الخطر» التى تجتاح خرائط الإقليم من حولنا، ولأننا مركز الدائرة دائمًا، فكان لزامًا علينا أن نكون فى قلب المواجهة، وسط مساعٍ خبيثة تحاول أن تمحو حدودًا استقرت، وأوطانًا دامت لأهلها قرونًا، وتفرض واقعًا صاغته عقول استعمارية جديدة لا تختلف فى منهجها وفكرها عن مخططى الاستعمار القديم، لكنها تستعين بوسائل وأدوات جديدة، استحدثها العلم ووفرتها التكنولوجيا، فإذا بها تتحول إلى سلاح ذى حدين. ■■■ واليوم تدخل الهدنة فى قطاع غزة حيّز التنفيذ، بعد أكثر من 14 شهرًا من المعاناة والألم والترقب منذ نهاية الهدنة الوحيدة التى عرفها القطاع فى نوفمبر من عام 2023، عاش القطاع المنكوب كل لحظة فيها على وقع الموت والجوع والحاجة، لم يجد الفلسطينيون حتى الوقت ولا الفرصة المناسبة ليشيعوا موتاهم بالشكل اللائق. هذه الهدنة وإن بدا أنها نقطة ضوء فى نهاية نفق مظلم من الوجع، ليس فقط لغزة، بل للإقليم كله، إلا أنها ستكون بداية لأسئلة كبيرة لا تفلح معها الإجابات الجاهزة، ولا تصلح فى مواجهتها السيناريوهات المعلبة، بل سيتطلب الأمر معالجة عقلانية ودقيقة لما بعد الهدنة، أو وفق المصطلح الأمريكى- الإسرائيلى «اليوم التالى»، وإن كنت أخشى أن بعض الأطراف فى داخل إسرائيل لا تريد لذلك اليوم التالى أن يأتى، ولا تريد للحرب أن تتوقف من الأساس. هدنة غزة انتصار لإرادة الحياة التى عبّر عنها الفلسطينيون بصمودهم الأسطورى فى وجه آلة القتل الممنهج الإسرائيلية، وإن كان من الصعب الحديث عن انتصار وسط حجم الدمار الهائل الذى مُنى به القطاع على يد جيش الاحتلال الذى لم يقرأ فى كتاب المواثيق الإنسانية سوى فصل الانتهاكات (!!)، لكن مجرد البقاء على قيد الحياة فى الأراضى الفلسطينية اليوم وفى مواجهة أفدح جريمة ضد الإنسانية فى القرن الحادى والعشرين بات بحد ذاته انتصارًا. الهدنة أيضًا انتصار لإرادة مصرية صادقة وشريفة فى زمن عز فيه الشرف بحق، وباتت مصائر الشعوب رهينة للغة المصالح والمكاسب الصغيرة، لكن مصر الكبيرة أعلت ومنذ البداية ثوابتها فى وجه كل المتاجرين بالقضية، وتمسكت بمواقف لم تتزحزح قيد أنملة فى مواجهة مخططات تهجير خبيثة تسعى إليها حكومة اليمين الإسرائيلية منذ سنوات، وليس فقط منذ أحداث السابع من أكتوبر 2023. تصدت مصر بحزم وحسم لمخططات التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، ورفضت أية محاولات للمناورة أو المداورة أو التلاعب بأية صورة من الصور، فالحق الفلسطينى فى البقاء غير قابل للتفاوض، والدولة الفلسطينية حتى وإن بدت فى ظل البيئة الدولية الراهنة حلمًا بعيدًا، لكنه ليس حلمًا مستحيلًا، ولا ينبغى أن يدخل قائمة النسيان، بل يجب أن يبقى ذلك الحق ساطعًا وقادرًا على وخز ضمير العالم المستنيم للهيمنة الأحادية. ■■■ هذه المواقف المبدئية والمتمسكة بثوابت السياسة المصرية الراسخة تجاه القضية الفلسطينية التى تمثل بالنسبة لكل مصرى «قضية عقيدة»، وهو التعبير الذى استخدمه الرئيس عبد الفتاح السيسى بعد أيام قليلة من اندلاع أحداث 7 أكتوبر ليعبّر عن مكانة القضية الفلسطينية فى نفوس المصريين، ترافقت مع احترافية وحنكة بالغة اتسمت بها الإدارة المصرية للأزمة، فنجحت القاهرة فى التعبير بقوة عن مواقفها الراسخة، دون أن تفقد مصداقيتها لدى مختلف الأطراف حتى المتحاربة منها، وهذه مسألة بالغة الصعوبة والدقة، ففى الحروب والصراعات المسلحة يسود الاعتقاد بأن من ليس معى فهو ضدى، لكن الحفاظ على المصداقية والقيام بدور فعّال وإيجابى لم يكن أمرًا هينًا، وتطلب احترافية بالغة، وسياسة واعية تدرك مخاطر التورط فى الأزمة، وتعى خطورة الانحراف عن مسار الحل السياسى، وتتمسك بطريق قويم يقتضى فى المقام الأول حقن دماء الشعب الفلسطينى واستعادة حالة الاستقرار الإقليمى المفتقدة. إنجاز الهدنة ووقف إطلاق النار فى قطاع غزة، كان منذ اللحظة الأولى التى اندلع فيها زلزال السابع من أكتوبر هدفًا مصريًّا وأولوية قصوى، لم تتزحزح القاهرة عن السعى من أجل إدراكها، بصبر وتؤدة، وحكمة وحِنكة، تكللت أخيرًا بالنجاح بفضل الإرادة الصلبة للدولة المصرية واحترافية المفاوض المصرى، رغم محاولات المراوغة والتنصل التى سعت بها بعض الأطراف لتمديد الحرب واختلاق أسباب وذرائع لا تنتهى لمواصلة الصراع. أعلنت القاهرة منذ البداية أن الحل السياسى، والالتزام بتفاوض جاد هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة، ورغم كل العراقيل التى وضعت فى سبيل إنجاز هذه الهدنة التى تقود إلى وقف الحرب، لم تفقد القاهرة إيمانها بهذا المسار، ولم ينفد صبرها إزاء محاولات الالتفاف على جهود صياغة اتفاق يحظى بموافقة مختلف الأطراف ويصمد للتطبيق على الأرض، بل كانت مع كل محاولة لإجهاض الهدنة تضاعف الجهد والعمل من أجل إعادة الجميع إلى طاولة تفاوض غير مباشر. وعبر أيام وأسابيع طويلة من العمل الشاق والمضنى والدقيق، نجحت إرادة القاهرة وإدارتها فى أن تنجز تصورًا فى 27 مايو من العام الماضى يحاول أن يحقق مكاسب للطرفين المتحاربين، ويمكن وضع آليات عملية لتطبيقه، واستطاعت الجهود المصرية عبر عمل دبلوماسى وسياسى بالغ الاحترافية أن تحشد الجهود من أجل وضع المقترح المصرى موضع التطبيق، وانفتحت على مختلف الأفكار والمقترحات سواء من الوسطاء (قطر والولايات المتحدة) أو من طرفى الصراع (إسرائيل والفصائل الفلسطينية)، واليوم نشهد ثمرة تلك الإرادة والإدارة المصرية اتفاقًا يمنح أشقاءنا الفلسطينيين الفرصة لالتقاط الأنفاس، ويحفظ لهم حقهم فى العودة إلى مساكنهم، والأهم فى تصورى هو البقاء على أراضيهم، فبقاء الفلسطينى على أرضه وتمسكه بالحياة عليها هو إعلان ناصع بأن الحق لا يموت مهما تكالبت عليه أدوات القتل والحصار. ■■■ التوصل إلى الهدنة فى غزة يحمل دلالات عديدة وعميقة يجب أن تُقرأ فى السياق الصحيح، أولها أن الدور المصرى لا غنى عنه، ولا بديل له، وأن الرهان على الحِكمة المصرية دائمًا رهان رابح، وأن الرؤية المصرية تثبت صوابها فى نهاية المطاف، حتى رغم محاولات التشويه والتضليل التى تبدو متعمدة فى كثير من الأحيان من جانب بعض الأطراف التى تحاول لعب أدوار إقليمية على حساب المواقف والدور المصرى، لكن فى النهاية يدرك الجميع أن القاهرة بما لديها من إدراك عميق لواقع وتاريخ الصراع، وبما لديها من إحاطة شاملة بطبيعة المواقف المعلنة وغير المعلنة من مختلف الأطراف، وبما تملكه من علاقات قوية إقليميًا ودوليًا، والأهم بما لديها من مصداقية ووضوح للرؤية وتجرد فى التعامل، هى دائمًا الأقدر على قيادة الإقليم نحو بر السلام. الحقيقة الثانية التى ينبغى أن نتوقف أمامها، بينما دخان الحرب فى غزة ينقشع تدريجيًا، هى أن الحرب لم تنتهِ بعد، وأننا لا نزال فى الخطوات الأولى على طريق هش وملىء بالألغام القابلة للانفجار فى أية لحظة، وأن حالة التوجس والترقب لا تزال تسيطر على كثيرين، تحسبًا من المواقف الإسرائيلية التى باتت «عرضًا متكررًا» فى الشهور الماضية بمحاولة التنصل وتغليب المصالح الشخصية لاستدامة الحرب على المصالح الإقليمية الرامية إلى وقف تلك الحرب وتبريد تداعياتها التى ذهبت أبعد كثيرًا من نطاق قطاع غزة أو حتى الأراضى الفلسطينية. وهنا نأمل أن يكون ترافق دخول الهدنة مع مجىء إدارة جديدة للبيت الأبيض إيذانًا ببدء مرحلة جديدة من الالتزام الإسرائيلى، صحيح لا ينبغى أن نفرط فى التفاؤل بأن تمارس إدارة الرئيس دونالد ترامب ضغوطًا حاسمة على حكومة بنيامين نتنياهو، لكن على الأقل نأمل أن يكون هناك حد أدنى من إدراك مخاطر استمرار السلوك الإسرائيلى الراغب فى استمرار وتوسيع نطاق الحرب، وإضراره حتى بالمصالح الأمريكية قبل تهديده للمصالح الإقليمية والدولية. وتكمن الحقيقة الثالثة التى ينبغى التنبّه إليها فى أن الأصعب فى إدارة أزمات الإقليم قد لا يكون قد مر بعد، فالإقليم من حولنا يموج بمتغيرات غير مسبوقة، جعلتنا ودون أى مبالغة فى «قلب العاصفة»، صحيح أن تلك العاصفة بدأت تخبو قليلاً فى الأيام والأسابيع الأخيرة، فهدنة غزة تدخل حيّز التنفيذ، ولبنان ينتخب رئيسًا ويستعد لتشكيل حكومة جديدة بعد طول انتظار، وسوريا الشقيقة تشهد حالة من الهدوء الحذر بعدما حسم فصيل الصراع لصالحه، لكن الأوضاع هناك لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات، ولا نأمل للأشقاء فى سوريا سوى الأمن والسلامة، وفى السودان يحقق الجيش الوطنى انتصارات حاسمة ربما تقرّبه من إنهاء الصراع مع ميليشيا «الدعم السريع»، وتؤذن بهدوء يمكّن الأشقاء فى جنوب وادى النيل من لملمة الجراح وإعادة إعمار ما خرّبته تلك الحرب الطاحنة. لكن تلك الموجة من «التهدئات» وإن بدت مبشّرة بفرصة لالتقاط الأنفاس بعد ماراثون دامٍ خاضته العديد من شعوب المنطقة على درب الآلام، لا ينبغى أن تغفلنا أو تقلل من درجة اليقظة والحذر، فقد تكون تلك «التهدئات» بداية الانفراج، وهذا ما نأمله ونرجوه، وقد تكون - لا قدر الله - الهدوء الذى يسبق العاصفة. وللأسف عالم السياسة وصناعة العلاقات الدولية لا تحكمه الأمنيات، ولا تُستجاب فيه الدعوات الطيبة، ولكن تتحكم به إرادة الأقوياء وترسم خطوطه وملامحه المصالح والتوازنات. الحقيقة الرابعة التى ينبغى أن نلتفت إليها نحن كعرب هى أن أوان التماسك والالتفاف حول رؤية عربية مشتركة تترجم المصالح القومية قد حان، وأن بناء رؤية عربية جماعية إزاء ما يجرى من حولنا، لم يعد ترفًا أو شعارًا نبيلًا فى مواجهة الملمات، لكنه بات قضية حياة أو موت للحقوق والشعوب العربية، فحجم ما يدور من حولنا من تحديات يصعب مواجهته فرادى، ويتطلب تنسيقًا جماعيًا على أعلى المستويات. وهنا أعود مجددًا للرؤية والدور المصرى، ليس انحيازًا لوطنى، فهذا شرف بحد ذاته، ولكنه إدراك لحقائق التاريخ وضرورات الواقع، فالقاهرة كانت ولا تزال قلب العروبة النابض، ولديها من اعتبارات التاريخ والجغرافيا والوجود والعلاقات الوطيدة مع مختلف الأشقاء ما يمكّنها من القيام بالتنسيق مع العديد من الدول الوازنة من قيادة موقف عربى موحد، قادر على مجابهة التحديات، وتعظيم القدر على مواجهة صياغة أقدار المنطقة بأيادٍ ترسم المستقبل بأحرف غير عربية. وفى هذا السياق أيضًا أقرأ عشرات اللقاءات والقمم والاتصالات التى يجريها الرئيس عبد الفتاح السيسى مع زعماء وقادة المنطقة العربية الإقليم والعالم، والاتصالات التى تجرى على مختلف الأصعدة من أجل تنسيق المواقف العربية، وربما سنشهد تكثيفًا واضحًا لتلك التحركات خلال الأيام المقبلة. ■■■ حقائق الواقع من حولنا تُشير دون أدنى شك إلى أن العالم مقبل على منعطفات وتحولات يستعد الجميع ويتحسّب لها، والعاقل هو من يبنى لنفسه سفينة نجاة، تعتمد على تعظيم قدرات دولته، وترسيخ أواصر تماسك مجتمعه، وتعزيز فاعلية مؤسساته، وتحفيز دوره وعلاقاته الخارجية، وكما نجحت مصر عبر تاريخها فى درء المخاطر والتهديدات، ستنجح بعون الله وتوفيقه، وتماسك شعبها، وحكمة قيادتها، وصلابة مؤسساتها، فى مواجهة المخاطر والتحديات الراهنة. مرحلة التحول وانتقال القوة التى يشهدها النظام الدولى الراهن تحوّل العالم من حولنا إلى محيط صاخب وساحة اضطراب، يُعاد فيها رسم خرائط النفوذ والوجود على الساحة الدولية، بل قد يُعاد فيها رسم خرائط الجغرافيا التى ظن كثيرون أنها باتت من الثوابت، إلا أن الثابت الوحيد فى عالم السياسة والعلاقات الدولية هو أن كل شىء فيها يتغير، ولا وجود أو بقاء إلا لمن يمتلكون إرادة لا تلين من أجل الحفاظ على مقدراتهم وحماية مصالحهم، وقدرة وفهم عميقين لمجريات الأحداث واتجاهاتها حتى يمكن الوصول إلى بر الأمان. جنّبنا الله ووقانا شر الفتن... وحمى أوطاننا وحفظها من كل شر.