لا يهم من أنت .. غزال أم أسد المهم عندما تشرق الشمس عليك أن تركض أعلى المدن السبت: هنا «بوفالو» أعلى مدينة أمريكية تقع فى غرب نيويورك وتعد من أشهر مدن ولاية نيويورك، موقعها على السواحل الشرقية من بحيرة إيرى على رأس نهر نياجرا، الذى تنبعث منه أشهر شلالات فى العالم، جعلها قبلة لملايين السائحين الذين يقصدونها سنويا للتمتع بالشلالات. تواجه بوفالو على الناحية الأخرى مدينة فورت ايرى الكندية، بوفالو هى المقر الإدارى لمقاطعة إيري. زرت بوفالو خلال رحلة سابقة للولايات المتحدة لمدة عدة ساعات بدعوة من الصديق الباكستانى محمد عاقب قدرى المقيم فيها منذ زمن والذى جمعنا القدر سوياً فى رحلة عمل بنيويورك، لم أستطع وقتها مقاومة إغراء مشاهدة شلالات نياجرا، رغم ارتباطى بموعد سفر إلى فيرجينيا فى اليوم التالى غير أن إلحاح صديقى «عاقب» جعلنى أقبل الدعوة التى زاد من إغرائها بالنسبة لى أنها ستكون بسيارته، ساعات السفر الطويلة بين المدن والولايات المختلفة بالسيارة، وليس بالطائرة، من اللحظات التى أشعر فيها بالمتعة حيث الخضرة الممتدة على جانبى الطرق وحتى على الجبال ناهيك عن الطرق الفسيحة التى تشعرك براحة نفسية كبيرة، تتجسد فى ذهنى معانى كلمة «البراح» الذى يحتاجه الإنسان سواء نفسياً أو جسدياً. اختفاء السيارة الأحد: المسافة بالسيارة بين نيويورك وبوفالو حوالى سبع ساعات بالسيارة ولأن الوقت كان أيضاً شتاءً مثل هذه الأيام، فقد داهمنا الليل سريعاً، فوجئت بعاقب يقول بحزم وحسم: سنبيت ليلتنا فى «ألباني» وسننطلق صباحا إلى بوفالو، لم يدع لى صديقى أى فرصة للاعتراض ولم أكن لأعترض، فالرجل مرهق والقيادة فى مثل تلك الظروف مغامرة لا داعى لها حتى لو كان الثمن ارتباك مواعيدي، فالمخاطرة بعدم السفر إلى فيرجينيا فى الموعد أقل ضرراً من السفر مع عدم الأمان نظراً للظروف الجوية ولتعب الرجل الواضح. «ألباني» هى عاصمة ولاية نيويورك، من الظواهر الغريبة هنا أن عواصمالولايات ليست مدنها الشهيرة بل الأقل شهرة ومساحة وعدد سكان وكل شيء. تليفون سريع من عاقب فهمت منه أنه يتصل بصديق له باكستانى أيضاً ويسكن فى «ألبانى «اسمه عادل ليرتب لنا مبيت ليلتنا.وفوجئنا بالرجل يستقبلنا بوليمة من الطعام الساخن الذى جاء فى وقته تماماً فقد كان القلب يحتاجه قبل الجسد. أكلنا وقبل أن نستسلم للنوم خرجنا لنحضر من السيارة ما يكفى من ملابس نحتاجها للمبيت، كانت الثلوج قد أحاطت بالسيارة من جميع الجهات ونجحنا بأعجوبة فى أخذ ما نريده منها، لكن فى الصباح وبينما نحن نستعد لمواصلة الزحف نحو بوفالو كان فى انتظارنا مفاجأة صادمة، اختفت السيارة تماماً، معقولة تكون الثلوج الكثيفة قد ابتلعت السيارة، أم ماذا حدث؟. هل أغرت حقيبة ملابسى التى تركتها داخل السيارة لصوص الليل فسرقوا السيارة كلها لأجلها؟ يا لهم من حمقي، ابتسمت وأنا أتخيل هؤلاء الأغبياء يفتحون الحقيبة ليتلقوا صدمة ربما تجعلهم يسلمون أنفسهم أو يتوبون. وبعد لحظات تلقى رسالة تليفونية موجعة لمحفظته، السيارة تم سحبها، حيث إن هطول الثلوج يمنعك من ركن السيارة بالشارع حتى لو فى المكان المخصص لك أمام بيتك لأن ذلك معناه أنك ستعطل حركة السيارات المختصة برش الملح على الثلج لإذابته حتى لا تتعطل حركة المرور وتصاب المدينة بالشلل، كاد الرجل يكلم نفسه من الغيط فحتى يتسلم السيارة عليه بسداد ثلاثمائة دولار. قلت له مداعباً لتخفيف وطأة الأمر عليه: فى داهية حقيبة ملابسى لو كنت ترغب فى استعادة السيارة فقط من أجلها، فضحك وقال مجاملاً إن ملابسى أغلى وأقيم لكننا نريد السيارة لنكمل رحلتنا نحو بوفالو ونياجرا وشلالتها. وفاءً بالوعد الإثنين: أفقت من سرحانى مع ذكرياتى على صوت عاقب الذى ما إن عرف بوصولى لنيويورك إلا وبدأ يطاردنى لتنفيذ وعدى له بأن تكون اقامتى فى مدينته الجميلة هذه المرة على الأقل ثلاثة أيام.ورغم أنى كنت قد وصلت من نيويورك لولاية ميرلاند القريبة منها نسبياً لكن هذا لم يشفع لى عنده وأصر أن أفى بوعدي،بل ورتب لى طريقة الانتقال بصحبة صديق مشترك شاء الله أن يكون متجها إلى بوفالو فى نفس يوم انتهاء مهمتى بميرلاند.المسافة بين ميرلاند وبوفالو حوالى ست ساعات بالسيارة لكن مع هطول الثلوج والإضطرار للتوقف كثيراً استغرقت الرحلة ما يقرب من عشر ساعات. تحركنا العاشرة صباحاً ووصلنا تقريبا الساعة الثامنة مساء، حيث كان فى انتظارنا عاقب ومجموعة جميلة من أعز الأصدقاء الذين تعرفت عليهم فى زيارات سابقة للولايات المتحدة، منهم فريد وعبد المنعم من بنجلاديش. أُضيف إليهم هذه المرة صديق جديد كان مفاجأة رحلة هذا العام، ألا وهو الصديق الباكستانى «أنجُم» أى جمع نجوم، شخصية فريدة فى حبه لعائلته وتصميمه على جمع شملها بل ولأنه مقاول متخصص فى المبانى اشترى لكل أقربائه قطعا من الأراضى فى شارع واحد وقام ببناء مساكن لهم عليها ليوفر لهم ما لا يقل عن سبعين بالمائة من التكلفة لو لجأوا للطرق العادية من خلال البنوك. صياد ماهر الثلاثاء: أصدقائى فى بوفالو كانوا قد أعدوا مأدبة غذاء فخمة وقبل أن نبدأ فى تناول الطعام تلقى أنجم مكالمة جعلته يتوقف عن الأكل ويقوم فى التو واللحظة وهو يقول انتظرني، سآتى لك حالاً، مسافة السكة، شرح لى بسرعة كيف أن شقيقه نجح فى حصار غزالة فى منطقة شلالات نياجرا التى تبعد عن بيته حوالى ربع ساعة وعليه أن يسرع ليساعده بخبرته فى اصطيادها أولا ثم ذبحها وسلخها ثانيا، لم أشأ أن أضيع فرصة معايشة هذه التجربة المثيرة فنفضت يدى من الطعام بسرعة وطلبت أن أصطحبه لمشاهدة تلك التجربة المثيرة ولم أدع له فرصة ليثنينى عن عزمى وهكذا قفزنا فى السيارة وأسرع أنجم يبحر بها غمام الثلج بعد أن جاء من شنطة السيارة - المليئة بكل أدوات صيد الغزلان - ببندقية براغى من المخصصة لهذا النوع من الصيد وحذاء جلدى سميك له وألقى لى بآخر مع نظارات مزودة بعدسات مضيئة مخصصة للرؤية فى الظلام وبعد أن وصلنا إلى حيث شقيقه أشار له فى صمت لمكان الغزالة التى بدا أنها ضلت طريقها ودخلت منطقة كثيفة الثلوج، وفى لحظات جهز أنجم البندقية وابتسم لى وهو يهمس إن كنت قوياً فى التنشين فضحكت قائلاً: نعم ولكن باستخدام القوس والسهم، وفى لحظات كانت الغزالة ممدة بلا حراك، وبدا الرجل مزهواً لنفسه وهو يسارع بالإجهاز على الغزالة بالسكين ثم يسحبها لإتمام السلخ والتقطيع فى بيته الفسيح، وفى اليوم التالى كنت على موعد مع طبق شهى من لحم غزالة شاركت بشكل أو بآخر فى اصطيادها! نهاية الرحلة فى كل صباح يستيقظ غزال يجب عليه أن يركض أسرع من الأسد وإلا سيموت، وفى كل صباح يستيقظ أسد يجب عليه أن يركض أسرع من الغزال، وإلا سيموت من الجوع، لا يهم من أنت، غزال أم أسد، المهم عندما تشرق الشمس عليك أن تركض. ( توماس فريدمان)