هل سبق لك أن استمعت إلى زميل عمل يتباهى بقائمة مهام لا تنتهي؟ هل شعرت يومًا بأنك مضطر إلى المُبالغة في الحديث عن انشغالك لتثبت أهميتك؟ في عالمنا السريع، أصبح التفاخر بالانشغال وكأنه وسام شرف، يُعلقه الناس على صدورهم؛ فكلما زاد عدد المهام التي نقوم بها، وقل وقت الفراغ لدينا، زاد شعورنا بالإنجاز والأهمية، لكن خلف هذا القناع يكمن سؤال مهم هل هذا الانشغال المتزايد يؤدي بالفعل إلى نتائج أفضل؟ أم أنه يخفي وراءه فشلًا في إدارة الوقت وتحديد الأولويات؟ في هذا المقال، سنتناول ظاهرة التفاخر بالانشغال، وسنحاول فهم أسبابها وآثارها، وسنستكشف البدائل الصحية لتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية. التفاخر بالانشغال (Busy Bragging)، مصطلح يستخدمه الخبراء لوصف الموظفين الذين يتحدثون باستمرار عن أعباء العمل، ويبالغون في وصف مهامهم، مهما كانت بسيطة أو عادية، بغرض إظهار انشغالهم الدائم، وفي الوقت نفسه لا ينجزون المهام التي تقع ضمن نطاق مسئوليتهم. وتكمن النية وراء ذلك السلوك عادة ما تكون إسقاط صورة عن كون الموظف لا غنى عنه ومجتهدًا، ورغبة حقيقة في تأكيد الذات والاعتراف بالإنجازات، والبحث عن الإعجاب والتقدير من قبل الزملاء والرؤساء. وبالرغم اعتقاد بعض الموظفين أن التباهي المستمر بضغوط العمل يعكس تفانيهم، كشفت دراسات حديثة نشرت في مجلة "علم النفس الوظيفي" أن هذا السلوك ينعكس سلبًا على صورتهم المهنية، فقد وجدت الدراسة التي قادتها جيسيكا روديل، أستاذة الإدارة في جامعة جورجيا، أن الزملاء يميلون إلى النظر إلى "المتباهين بالانشغال" على أنهم أقل كفاءة وأقل قبولاً. وذلك في تجربة شملت 360 مشاركًا، طلب الباحثون من المشاركين تقييم بعض زملائهم، أظهرت النتائج أن أولئك الذين يشتكون باستمرار من زيادة أعباء العمل، حصلوا على تقييمات أقل من زملائهم الذين عبروا عن استمتاعهم بعملهم. وتقول روديل: "هذا السلوك شائع، وقد نلجأ إليه جميعًا في بعض الأحيان، لكنه يؤدي عادة إلى نتائج عكسية، بدلاً من إظهار الكفاءة، قد ينظر الزملاء إلينا على أننا غير قادرين على إدارة وقتنا ومهامنا بشكل فعال. إن التركيز المفرط على إبراز الانشغالات الشخصية وتجاهل مساهمات الزملاء قد يؤثر على روح الفريق، فقد يشعر الزملاء بتقليل قيمتهم، خاصة إذا كانوا يبذلون جهدًا مُماثلاً دون الحصول على التقدير الكافي، هذا بدوره يزرع بذور الاستياء والحسد، مما يخلق بيئة عمل سامة وغير منتجة. علاوة على ذلك، فإن التفاخر بالانشغال ليس سوى وهم يضر بصاحبه؛ فبدلاً من استثمار الوقت في تحقيق الإنجازات الحقيقية، يهدره الشخص في محاولة إظهار انشغاله الزائف، هذا السلوك لا يولد إلا التوتر والإرهاق، كما أنه يؤدي إلى القلق والضغط النفسي لدى المُتباهي نفسه. لذا فإن التفاخر بالانشغال هو أكثر من مجرد عادة مزعجة؛ أنه سلوك يؤثر سلبًا على الفرد والمجتمع، فهو لا يؤدي فقط إلى التوتر والضغط، بل إلى علاقات عمل غير صحية، كما أنه يقلل من الإنتاجية. وعلى الرغم من أن التباهي بالانشغال قد يبدو إستراتيجية لجذب الانتباه، إلا أن الدراسات العلمية تؤكد أن التواضع هو السلاح الحقيقي لكسب القلوب والعقول؛ فالتواضع لا يقتصر على كونه سمة شخصية جذابة، بل هو أيضًا أداة فعالة لبناء علاقات قوية ومُستدامة. يمكن القول إن التفاخر بالانشغال هو ظاهرة مُعقدة تشكل جزءًا من واقع مجتمعنا المعاصر، فوراء هذا التباهي، تكمن رغبة عميقة لدى الفرد في الظهور بمظهر الشخص المهم والمطلوب، وهو ما يعكس تأثيرات ثقافية ونفسية واجتماعية مُتداخلة؛ وعلى الرغم من أن هذا السلوك قد يبدو انعكاسًا لإنتاجية عالية، إلا أنه في الحقيقة يؤدي إلى تدهور العلاقات الاجتماعية وتراكم الإجهاد النفسي. لذا، من الضروري فهم الجذور النفسية والاجتماعية لهذه الظاهرة وآثارها السلبية، والسعي نحو تغيير هذا النمط السلوكي، ويتطلب ذلك الاعتراف بأهمية التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، والتركيز على جودة الإنتاج بدلاً من الكم. كاتبة المقال: باحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة