كيف كانت مشاعره وهو يمسك بيديه هذا المولود الصامت، الصاخب، النابض الذى يتحرك فوق السطور ويصارع الحياة بين الصفحات؟ تعيش ذكريات الكتاب الأول فى وجدان الكاتب مثل الحب الأول، المولود الأول، الدهشة الأولى. تظل محفوظة فى مكان خاص فى أعماقه يذهب إليه من حين إلى آخر كلما زاره الحنين للبدايات. كيف عاش تلك المشاعر المختلطة: القلق، الرهبة، الخوف، المعاناة، العذاب، الترقب. ثم متى حانت اللحظة أخيرًا؟، وانطلقت الفرحة مع الولادة وصرخة الجنين، يوم دفعت المطبعة بالنسخة الأولى من رحمها، وكتبت شهادة ميلاد مختلفة وجديدة لهذا الكائن؟ كيف كانت مشاعره وهو يمسك بيديه هذا المولود الصامت، الصاخب، النابض الذى يتحرك فوق السطور ويصارع الحياة بين الصفحات؟ ثم متى بدأ الاشتباك مع الواقع بعدما تحقق الحلم؟ كيف استقبل آراء القراء المشجعة أحيانًا، المحطمة أحيانًا أخرى، كيف تعامل النقاد مع مولوده الأول؟ هل احتفوا به أم تجاهلوه؟ إنها رحلة شاقة وممتعة فى آن معًا، عاشها كل كاتب تقريبًا فى العالم قبل أن يحصل على صك الاعتراف من الناشرين أولًا، ثم من القراء والنقاد بأنه «كاتب». مؤلفة «هارى بوتر» جى كى رولينج داخت السبع دوخات حتى وجدت ناشرًا يوافق على نشر كتابها، 12 دار نشر قالت لها: روايتك سخيفة ولن يهتم بقراءتها أحد! لكن القدر لعب لعبته عندما قرأت الجزء الأول من السلسلة ابنة صاحب دار النشر رقم 13 وكانت طفلة عمرها 8 سنوات، شدتها جدًا، فألحت على والدها أن ينشرها، اضطر الرجل أن ينشرها على مضض! لست «مطبعجيًا» حكايات الكتاب الأول، أو البدايات فى حياة الكاتب والناشر كانت هى المحور الذى دارت حوله جلسات الصالون الثامن لروايات مصرية مساء الأحد الماضى. استمتعت جدًا بالتعرف على تجارب غنية بالدروس المهمة لأى إنسان وليس للكتاب والناشرين فحسب. قصة محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين العرب، ومؤسس الدار المصرية اللبنانية، حكى كيف بدأ المهنة بالصدفة، لكنه عشقها، وأخلص لها. فدرس كل ما يتعلق بها: القراءة المتعمقة، الطباعة، التوزيع، المعارض، التسويق للكاتب والكتاب. قدم كذلك خلال هذه الأمسية الاستثنائية من أمسيات «صالون روايات مصرية للجيب» خبراته المهمة لشباب الكتاب والناشرين، لا تتعجل فى النشر، ادرس مشروعك الإبداعى واشتغل عليه مرة واثنتين وثلاثًا، تعامل مع روايتك باعتبارها منتجًا تريد أن تقنعنى بنشره، ادرس السوق، وتعلم من الآخرين. الناشر ليس «مطبعجيًا» بل هو شريك الكاتب فى صنع الكتاب وتسويقه والعمل على وصوله للقارئ فى أحسن صورة من حيث المحتوى والشكل، الإخراج والقطع المناسب لكل لون أدبى، ولكل كتاب حسب موضوعه. قصة مصطفى حمدى الذى قادته الأقدار إلى تولى مسئولية إرث عريق ومهم، روايات مصرية للجيب التى أسسها والده حمدى مصطفى - رحمه الله - لتحدث وقتها فى ثمانينات القرن الماضى ثورة فى عالم القراءة عند الشباب. سلاسل «رجل المستحيل» و»ملف المستقبل» و»ما وراء الطبيعة» و»سفارى» و»فلاش» و»سماش». تلك السلاسل وغيرها التى قدمت كتَّابًا لم يكن يعرفهم أحد وقتها، ليصبحوا نجوم الكتابة بالنسبة لأجيال متعاقبة حتى الآن: دكتور نبيل فاروق، دكتور أحمد خالد توفيق، وخالد الصفتى. حكى مصطفى حمدى عن التحديات اللى قابلها وكيف حاول استغلال التكنولوجيا، ووسائل النشر الإليكترونية من أجل الوصول إلى الشباب واليافعين الذين اختلفت ذائقتهم فى القراءة والتلقى عن شباب زمان. وتحدث عن تحويل أكثر من 300 عنوان من الكتب الورقية إلى كتب صوتية وإليكترونية، قررنا نروح لهم فى المكان اللى بيقضوا معظم وقتهم عليه». يقصد الموبايل والتطبيقات والمنصات الإليكترونية. شركاء الحلم أسعدنى جدًا اقتحام النساء بقوة وثقة مجال النشر، نيفين التهامى وزوجها محمد جميل، شركاء فى الحياة وفى الحلم، قررا أن يتبعا شغفهما ويؤسسا معًا دار نشر «كيان» بدأوا بأعمال للدكتور نبيل فاروق والدكتور أحمد خالد توفيق، ثم توسعا تدريجيًا لتضم دارهما كتبًا فى التنمية البشرية، والترجمة، وغيرها من المجالات التى تجذب الشباب. نيفين حكت بحب كيف تحرك شغفها تجاه عالم النشر عندما دعاها محمد لزيارة معرض الكتاب، ذهبت معه ولم يكن لها علاقة قبل ذلك بهذا المجال على الإطلاق، كانت محامية، لكن نداهة الثقافة والقراءة وصناعة الكتب خطفتها من المحاماة ورمت بها فى بحار النشر. نجحت مع زميلها الذى أصبح زوجها وشريكها وأثبتا معًا أن الشباب قادر على تأسيس «كيان» ناجح، مستمر، وطموح. هانى عبد الله، صاحب دار الرواق، التى اعتبرها من أنجح دور النشر التى تلفت الأنظار فى المعرض، بذكاء اختيار عناوينها وكتابها وموضوعاتها. الغلاف نفسه تشعر أن وراءه قصة، تعبًا، تفكير، دراسة. قال هانى: أنا بدأت «بياع كتب» ولا أخجل من ذلك بل افتخر، مهنة التوزيع التى بدأتها فى عمر 18 سنة أفادتنى جدًا وجعلتنى أفهم سوق الكتب وأتعلم من الناشرين مفاتيحه. غامرت مع كتاب غير معروفين، وأصبحوا نجومًا الآن ومنهم: شيرين هنائى وأسامة الشاذلى. أنت كاتب حكايات الأدباء كانت مختلفة بعض الشيء، فهم يقفون عند الجانب الآخر من النهر. يعيشون حلم النشر لرواية عاشت معهم سنوات طويلة تبحث عن طاقة أمل تخرجها إلى النور، حكى الأديب القدير أشرف العشماوى كيف عاشت رواياته الأولى حبيسة درج مكتبه عشر سنوات! وكيف خرجت من هذا القمقم ونشرت. «كنت أكتب لنفسى ولا أفكر حتى فى النشر حتى التقيت فى إحدى المناسبات بالكاتب أنيس منصور، فقلت له عندى رواية كتبتها، لكن لا أعرف إذا كانت تصلح للنشر أم لا؟. أرسل أشرف العشماوى الرواية لأنيس منصور ومعها ورقة فيها رقم تليفونه. بعد عدة أيام وجد تليفونًا يرن فى منزله، وكان المتحدث هو أنيس منصور. قال له كلمتين: سيبك من القضاء.. أنت كاتب. وأغلق التليفون». القصة مثيرة وجميلة لأن العكس كان قد سمعه قبلها بسنوات من رئيسه فى سلك القضاء «سيبك من قلة الأدب دى وركز فى شغلك فى القضاء». المهم أنه لم يقابل أنيس منصور مرة ثانية، وبعدها رحل كاتبنا القدير عن الحياة، لكنه فوجئ أنه أرسل الرواية إلى أكثر من ناشر وقال انشروا لهذا الرجل. إنه كاتب حقيقى. وهذا ما تحقق بالفعل مع أستاذ محمد رشاد والدار المصرية اللبنانية. أبيع ذهبى! الكاتبة سالى عادل باعت ذهبها من أجل أن تنشر روايتها الأولى، ثم حدثت المعجزة على يد الدكتور أحمد خالد توفيق وروايات مصرية للجيب بعد ذلك. وشيرين هنائى يئست من أن تصدر روايتها حتى قابلت هانى عبد الله، فكانت نقطة التحول الحقيقى فى حياتها «أنا تربية ناشر». هذا ما قالته اعترافًا بفضل الرواق عليها ككاتبة. الكاتب والرسام خالد الصفتى حكى قصصًا ملهمة عن علاقته بحمدى مصطفى الذى اختاره بدون مسابقة، وكلفه مباشرة بالتفرغ لكتابة ورسم سلسلة «فلاش» وتحدث عن إنسانية حمدى مصطفى، وتبنيه الكامل لكتاب الدار، ومساندته بشتى الصور لهم ليس فقط فى تقديم إنتاجهم فى أفضل صورة، بل بالدعاية لهم، وتشجيعهم على الاستمرار، ووصف شعوره عندما رحل الأستاذ قائلًا: «يوم وفاة حمدى مصطفى شعرت أن أبى الثانى قد رحل».. هكذا عشنا أمسية مختلفة ومشبعة فى مبنى قنصلية بوسط البلد.