قال لى الأستاذ إبراهيم سعده إنه موافق بشرط أن تتحمل أخبار اليوم كافة نفقات الإقامة والرحلة حتى أكتب الحقيقة المجرّدة . (أى مصرى زار سوريا لن ينساها وسيظل متعلقًا بها.. إن زائرها كان يشعر بأنها امتدادٌ للمكان والبشر من القاهرة وباقى مصر، فسوق الحميدية هو الموسكى، والبوزرية هى الغورية، ودمشق القديمة هى الحسين والأزهر.. وكلما سرت فى شوارعها أدركت أننى لم أغادر القاهرة) . البداية.. عام 1989؛ حيث كان يُعقد فى فندق شبرد بالقاهرة مؤتمر وزراء الداخلية العرب، وكنت مكلفًا بحكم تخصصى الصحفى بأعمال المؤتمر.. وفى حلقة نقاشية مفتوحة عن المخدرات والتى كان يديرها دكتور محمد حربا، وزير داخلية سوريا، تحدّث عن ضرورة وضع منظومة عربية متكاملة لمكافحة التهريب والإدمان.. كنت صحفيًا حديثًا عندما طلبت الكلمة، موجهًا سؤالى للوزير السورى قائلًا: كيف تطرح رؤيتك لنا عن ضرورة تشديد المكافحة رغم أن مخاطر التهريب التى تهدد مصر طبقًا للتقارير الرسمية كلها تتم عبر سوريا قادمة من تركياولبنان؟ وعقّب الدكتور حربا على هجومى بأن ذلك كان فى الماضى فعلًا، ولكن الأمور تغيَّرت كثيرًا فى الوقت الحالى.. ووقتها ومن باب المجاملة هاجمنى زكى بدر، وزير الداخلية، وإن كان قد هنّأنى على كلمتى بعد الندوة، ولكن كان موقفه لرفع الحرج عن الوزير السورى، خاصة أنه كان شخصية محترمة، وعلمت أنه خريج جامعة السوربون الفرنسية.. الدعوة... فى نفس اليوم عُدت للجريدة؛ استدعانى مكتب رئيس التحرير، ووجدت أن العقيد مأمون آقبيك، مدير الإعلام والعلاقات فى الداخلية السورية، قد سبقنى ومعه دعوة رسمية لى من وزيره بزيارة سوريا؛ لمتابعة جهودها فى مواجهة عمليات التهريب.. كان الأمر غريبًا، فالعلاقات مع سوريا مقطوعة منذ زيارة السادات إلى إسرائيل واتفاقية كامب ديفيد، ورغم ذلك قال لى المرحوم الأستاذ إبراهيم سعده إنه موافق بشرط أن تتحمل أخبار اليوم كافة نفقات الإقامة والرحلة حتى أكتب الحقيقة المجرّدة كما أرصدها.. وقد كان. وصلت دمشق عبر الطائرة السودانية، فمصر للطيران مقاطعة بقرار دول جبهة الصمود والتصدى.. وصلت لفندق آمية أعرق فنادق سوريا التاريخية بسيارة وزارة الداخلية، وللوهلة الأولى أدركت أن الجميع يُعاملنى بأننى ضيفٌ فوق العادة وربما فى مهمة رسمية.. فكيف أتنقل بسيارة مراسم وزارة الداخلية المرسيدس الوحيدة مع توصيات عليا علىَّ بالفندق.. عزَّز ذلك تنامى شعور يتعلق بأمنية لكل السوريين؛ بعودة العلاقات بين الشعبين المصرى والسورى.. وعزَّز ذلك فتح مقر مصر للطيران المغلق منذ سنوات لتنظيفه وصيانته. الشائعة والأمنية بعد 3 أيام من وصولى اضطررت لأكتب إلى أخبار اليوم أول رسالة صحفية عما حدث يوم الجمعة؛ عندما خرج الآلاف من السوريين ازدحم بهم طريق المطار بعد انطلاق شائعة عن قدوم الرئيس حسنى مبارك لزيارة دمشق إيذانًا بعودة العلاقات، وصوّرت مشاعر الفرح والسعادة التى لم تدم عندما تبيّن أنها مجرد شائعة.. عند عودتى للفندق فى المساء تسمّرت فى مكانى بسماعى أغنية يا دبلة الخطوبة لشادية وأغانى الأفراح المصرية، مشاعر الغربة لأول مرة عن الوطن دفعتنى كى أقف على باب قاعة الفرح.. مما دفع أصحاب الفرح للاستفسار من استقبال الفندق عن هويتى، وبمجرد علمهم بأنى مصرى حتى أجبرونى على الدخول ومشاركتهم الفرح.. أجواء ومشاعر السوريين الدافئة نحو مصر التى يحبونها لدرجة العشق جعلتنى أقرر إجراء تحقيقات ميدانية من شوارع سورية، بجانب مهمتى الأساسية عن المخدرات... أزمة الدولار منذ وصولى كانت النصيحة باستبدال دولاراتى مع أحد موثوق، فقضية الاتجار فى السوق السوداء عقوبتها 15 عامًا، ورغم ذلك وجدت أن الجميع فى دمشق يلمحون للحصول على ما معى من دولارات... بدأت تحقيق مهمتى الصحفية بزيارات ميدانية للمنافذ الجمركية والحدودية لمشاهدة عمليات التفتيش عن وسائل تهريب المخدرات، وكذلك متابعة قوافل شاحنات النقل الدولى عبر الحدود اللبنانية والسورية، حيث يتم قفل أبوابها بأختام غير مسموح بفضها إلا خارج الأراضى السورية.. ...الأكل السورى وما أدراك ما روعة مذاقه، والأجمل تلك المشهيات وجودة أصنافها لا يوجد لها شبيه فى أى بلد.. عشقى للأكل السورى وهو فى دمشق وحلب يختلف كثيرًا عما يقدمونه حاليًا فى مصر، كان يجبرنى إذا زرت لبنان أو الأردن على أن أغيّر وجهة العودة لمصر لتكون عبر دمشق؛ طمعًا فى تناول الغذاء والحلويات السورية... سوق الحريقة وسط دمشق وقرب المسجد الأموى، هو سوق المطرزات الأنيقة والراقية وكذلك الملابس التى يُبدع فى إنتاجها السوريون فقط، ومن أهم زبائنها المصريون.. ...بكداش؛ أشهر وأقدم محل لبيع البوظة الشامية، وهى أشبه بالأيس كريم، زحام دائم على مدار الساعة، منتجاته غارقة ومغلفة بالفسدق الحلبى، بينما زينت جدرانه بالداخل بصور كل زعماء العالم وهم يتناولون البوظة داخله. أخيرًا أوشكت مهمتى على النهاية بزيارة (سجن المزة)، وهو أقرب لسجن طرة، كانت زيارتى كى ألتقى بسجنائه من المصريين المتورطين فى عمليات تهريب للمخدرات.. رافقنى فى الزيارة العقيد مأمون أقبيك وعلى الباب ورغم أنه من مكتب الوزير إلا أنه خضع للتفتيش وتسلموا منه سلاحه الشخصى قبل الدخول.. أحد السجناء بمجرد لقائى ظل يبكى بمرارة شديدة من غدر من زيّنوا له المشاركة فى التهريب وهم أصحاب معرض سيارات، وبعد تنفيذ أكثر من عملية تسليم سقط فى أيدى السلطات السورية؛ ليتم سجنه ولم يسأل المعلمون عنه أو عن زوجته التى كانت حاملًا فى طفلهما بدون عائلٍ لها. قص لى السجين كل التفاصيل عن عصابته وأعضائها ومراكز نشاطها عبر عدّة دول فى لبنان والعقبة بالأردنوسوريا... وفور عودتى للقاهرة أسرعت لمقابلة اللواء مصطفى الكاشف واللواء سيد غيث سردت لهما ما وصلنى، واكتشفت أننى أتحدث عن أخطر خط تهريب الهيروين لمصر، هما يتابعانه ولكن تنقصهما بعض المعلومات، خاصة ما يخص نشاط الخط وهو ما توافر معى عن العقبة الأردنية، بعد أسبوعين كان قد تم التنسيق مع السلطات الأردنية ليتم مهاجمة أوكار عصابة التهريب بمصر والأردن فى توقيت واحد، ويتم ضبط جميع الأفراد من الأردنيين والمصريين وكميات كبيرة من الهيروين كانت مخبّأة فى أمان سرية بأجسام سيارات النقل العابرة بين الحدود. ...أحببت سوريا فى هذه الرحلة، فأصبحت عشقى وحبى الكبير، كنت أنتهز الفرصة حتى ولو فى الأردن أو لبنان فأسافر إليها ولو بضع ساعات حتى أسعد روحى بالبلد الذى أحببته وأهله .