لقد دَرّستُ طلابا من بلدان شتى يعشقون العربية ويتعبون من أجل تعليمها وتعلّمها قبل عدة أيام احتفى العالم بيوم اللغة العربية ومنذ طفولتى أعشق اللغة العربية، كان أبى رحمه الله يُحفّظنا القرآن الكريم ويشرح لنا بعض السُّوَر والأبيات الشعرية لكنى تعلقتُ بأشعار ابن الفارض من خلال مجلس الخلوتية الذى كان يُعقد ليلة الإثنين وليلة الجمعة، كان المنشدون يرددون: تِهْ دَلالًا فأنتَ أهْلٌ لذاكا وتحكّمْ فالحُسنُ قد أعطاكا ربما لم أدرك المعنى كاملا لكنى حاولت أن أفهم ما أستطيع لاسيما عندما ينشد الشيخ مبارك إسماعيل قصيدة أبومدين التلمساني: متى يا كرام الحيّ عينى تراكمُ وأسمعُ من تلك الديارِ نداكمُ ويجمعنا الدهر الذى حال بيننا ويحظى بكم قلبى وعينى تراكمُ أمرُّ على الأبواب من غير حاجةٍ لعلّى أراكُم أو أرى من يراكُم سقانى الهوى كأسًا من الحبّ صافيًا فيا ليتهُ لمّا سقانى سقاكُم فيا ليتَ قاضى الحبّ يحكمُ بينَنا وداعى الهوى لمّا دعانى دعاكمُ أنا عبدُكُم بل عبدُ عبدٍ لعبدكم ومملوكُكم من بيعكم وشراكمُ كتبتُ لكم نفسى وما ملكت يدي وإن قَلَّت الأموالُ روحى فداكمُ لسانى بمجدكُم وقلبى بحبكُم وما نظرت عينى مليحًا سواكمُ وأظل أردد هذه القصيدة حتى أحفظها، هل كانت الذاكرةُ أجدّ وأقوى؟، ترى مَنْ هم كرام الحى الذين يتوق لهم الشاعر ويحنُّ إليهم؟ وأظلِّ أبحث عن ليلَى التى يتغنىّ بها المنشدون: سلبتْ ليلى منّى العقلَ قلت: يا ليلى ارحمى القتْلى.. هنا بدت ليلى أكثر حضورا للطفل الذى كنتُه، بحثتُ فى مكتبة أبى فوجدتُ ديوان ابن الفارض وديوان البُرعى وديوانا صغيرا فى أوراق صفراء جمع ناشره فيه عددًا من قصائد المُنشدين وأتذكر كيف أخذتُ أنشدُ هذه القصيدة: سقَوْنى وقالوا: متْ غرامًا بحبنا إذا شئت أن تحيا وتحظى بقُربنا فموتُ الفتى بالحبِّ راحةُ قلبه إذا مات من حرِّ الصبابة والعنا فكَمْ من فتى أضحى وكم من متيّمٍ وكم من قتيلٍ فى الغرام بحبنا فإنْ كنتَ فى دعوى المحبة صادقا تجرّدْ وقمْ وانهض إلى باب عزّنا وقفْ سحرا واخذعْ وكنْ متذللا وقَبِّلْ ثرى أعتابنا تبلغ المُنَى فمشروبنا يحيا به كلُّ مَيّتٍ ورضاؤنا يشفى العليلَ من الضنا من أين استقى هذا الشاعر نبع كلماته ورؤاه؟ كيف ترجم أشواقه فى كلمات؟ صار الشعر حياتى وما يزال المنبع الذى استقيت منه جمال الحياة. الأستاذ عبدالرحيم نور كنتُ فى الصف الرابع بمدرسة النصر الابتدائية بقفط، وكان الأستاذ عبدالرحيم نور من أوائل المدرسين الذين شجعونى على إلقاء الشعر فى طابور الصباح لكن المشكلة أنى كنت قصيرا فأحضروا لى «ترابيزة» عالية ووضعونى عليها، ولأول مرة أشاهد الجمهور وهو يستمع لى وأنا أقرأ الشعر.. رحم الله أستاذى عبدالرحيم نور رحمة واسعة. الأستاذ السيد أحمد مصطفى الجِندي بمجرد تخرجه عيَّنَته الوزارة بمدرسة قفط الإعدادية، شاب صغير خريج حديث وهو ابن الإسكندرية يأتى تعيينه فى صعيد مصر، ويجيء ومعه صديقه الأستاذ السيد الشربينى ويدخل فصلنا 1/1 (أُولَى أوّل) إعدادى ويبدأ فى شرح الأبيات الشعرية ونبهر بطريقة شرحه وبلاغته وفصاحته، كان نقطة تحوّل لي، وفى اليوم التالى أقُدم له بداياتى الشعرية يقرأ ويصحح ويشجّع ويطلب منى إلقاءها فى طابور الصباح. الأستاذ فتحى النجار من القلائل الذين أثّروا فى حياتى العلمية فقد درَّسنى فى الإعدادية والثانوية، وكان شاعرا وأتذكر أنه أهدانى كتاب «اللُباب» وعليه إهداء لا أنساه ما حييتُ: يا فضلُ خذ هذا الكتاب هديةً منى وخير هدية لكتابُ فيه البلاغةُ والفصاحةُ فيه منْ أدبٍ وفيهِ من العلومِ «لُبابُ» تدبّروا كيف كان المعلم؟ مدرَّس يهدى طالبا كتابا ويكتب له إهداءً شعريا من تأليفه.. انظروا كيف كان أساتذتنا.. أطال الله عمر أستاذى الأستاذ فتحى النجار ومتّعه الله بالصحة والسعادة. الأستاذ حمْدالله جامع موجّه اللغة العربية يصل قطاره محطة قفط قادما من قنا فى تمام السادسة والنصف صباحا ويمشى نحو مدرسة قفط الثانوية ويحضر طابور الصباح ويلقى كلمة بديعة ثم يدخل الفصول ويسأل ويشرح ويتناقش تاركا لنا حرية الاختلاف معه، ومن نحن كى نختلف معه لكنه يذكّرنى بمقولة النابغة الذبيانى لحسان بن ثابت فى سوق عكاظ وقد نقده النابغة نقدا لم يعجب حسانا فرد عليه النابغة فى أُبوَّة: «يا ابن أخي، أنت لا تُحسِن أن تقول كذا ولو قلتَ كذا لكان أفضل»، عندما تعرّفنا عليه صادقناه لأنه كان متواضعا يحبنا فقررنا اصطحابه من المحطة غدوةً وإيابا فى اليوم الذى سيأتى فيه شهريا لمدرستنا، ننتظره فى المحطة لنمشى معه ونتعلّم منه، كان وجيها فى منظره ومؤدبا فى سلوكه وأنيقا فى ملبسه وفصيحا فى نُطقه وبليغا فى حُجته؛ أتذكر كيف دار نقاش بلاغى بينه والأستاذ فتحى النجار حول بيتين لجبران خليل جبران من قصيدته البلاد المحجوبة وكانت مقررةً علينا ودخلا فى نقاش حول المجاز والاستعارات فى قوله: «ولَبِسنا الصبرَ ثوبا فالتهبْ، فغدَوْنا نتردَّى بالرمادْ وافترشناه وِسادًا فانقلبْ، عندما نِمنا هشيمًا وقَتادْ» ودخلنا نحن التلاميذ فى هذه المناظرة فريق يؤيد الأستاذ أطال الله عمره وفريق يؤيد الموجّه رحمات الله عليه ورضوانه، وأدخلنا عبقرى اللغة العربية الأستاذ كمال حجازى -رضوان الله عليه- ومدير المدرسة الأستاذ محمد إبراهيم حسان -رحمة الله عليه- الذى كان ضليعا فى اللغة العربية أيضا وأفتيا فى مناظرة بديعة حول الاختلاف البلاغي؛ وسأفردُ لهما مقالا؛ كيف كانت المدرسة فى أيامنا وكيف أصبحت؟ سؤال أتركه لقرائى الأعزاء. تعليم العربية لغير الناطقين بها من أجمل الأوقات تلك التى أقضيها فى تعليم العربية الناطقين بغيرها ولا نعرف نحن العرب نِعمة توارث معرفة اللغة العربية أبًا عن جد نُطقا وفهما إلا إذا رأينا كيف يصعب على غيرنا تعلّمها لكثرة ألفاظها وازْدواجية اللغة بين الفصحى فى الكتب والعامية فى الحياة اليومية المعاصرة وكيف يتوه غيرُنا بين هاتين اللغتين؛ أيتعلم الفصحى ليقرأ أو يتعلم العامية ليتحدث بها فى البلدان العربية، كما أن كثرة قواعد النحو تُربكهم ولكن المنطق الموجود فى معظم القواعد النحوية العربية يعينهم على الفهم إلا القواعد المخالفة التى لا تخضع لمنطق، من هنا فإننى أرى ضرورة إنشاء معهد تعليم العربية تتبناه جامعة الدول العربية يشترك فى وضع مناهجه أساتذة اللغة العربية من الدول العربية كافة ويقدّم مستويات اللغة بطريقة تحبّب غيرنا فى تعلّمها ومن خلال نصوصها يعرف ثقافة الشعب العربى وجغرافيته وتاريخه وحضارته وتكون شهادة هذا المعهد معتمدة وتنتشر فروعه بالملحقيات الثقافية العربية فى سفاراتنا العربية بالعالم ومن الممكن تسميته معهد المتنبى أو معهد شوقى أو معهد الجواهرى أسوة بمعهد «جوته» لتعليم اللغة الألمانية أو «معهد العرب» لتعليم العربية حتى لا نختلف على الأسماء كعادتنا. لقد دَرّستُ طلابا من بلدان شتى يعشقون العربية ويتعبون من أجل تعليمها وتعلّمها وحريٌّ بنا نحن العرب أن نبذل جهودا لتعلّم لغتنا العربية التى -بكل أسف- نجهلها ونجهل جمالياتها. فى النهايايات تتجلّى البدايات لغةُ العروبةِ عندنا فى مِحنةٍ كيف الخلاصُ فأَوْقِدوا الألْبابَ؟