بعد تجربتين قصيرتين أسندت خلالهما مهمة إدارة المركز القومى للبحوث لقائمين بالأعمال، جاء اختيار الدكتور ممدوح معوض رئيسا، ليثير ذلك تساؤلا عن آليات شغل هذا المنصب. وقبل الدخول إلى مكتبه، خشيت أن يكون اختيار هذا السؤال مدخلا للحوار معه، مثيرا لتحفظه، غير أن صوته الخفيض والابتسامة التى استقبلنى بها، جعلتنى أدرك أننى أمام شخصية هادئة ستحسن استقبال السؤال، وتقرأ المغزى من طرحه. لم يخب ظني. حيث كان السؤال الذى استهللت به الحوار كافيا لرسم ابتسامة عريضة على وجهه، قائلا: «أنا سعيد بطرحك له، لأن الكثيرين لا يعلمون إجراءات شغل هذا المنصب». اقرأ أيضًا| «استشر الطبيب أولاً».. نصائح مهمة من «القومي للبحوث» بشأن المكملات الغذائية لا نبالغ فى تقدير قيمة براءات الاختراع.. ومكتب متخصص يحدد أثمانها عقوبة التعامل مع «مصانع الأوراق البحثية» رادعة.. وألغينا ترقية أستاذ لهذا السبب تفاعل دائم مع المجتمع.. ونمتلك خبرة التعامل مع أوبئة المستقبل الدولة عازمة على غلق «حنفية الاستيراد».. ولدينا 450 بديلًا محليًا جاهزًا للإنتاج وتابع: «بعد انتهاء فترة أى رئيس للمركز، يتولى القيام بالأعمال أقدم النواب، لحين تعيين رئيس جديد من قبل لجنة تشكلها وزارة التعليم العالى والبحث العلمى يتقدم لها الكثير من المرشحين، وتقدم للجنة بالفعل الكثيرين، من بينهم الزملاء الأعزاء الذين قاموا بمهمة القائم بالأعمال، وتقوم تلك اللجنة باختيار أفضل ثلاثة وفق عدد من المعايير تتضمن، تقييم الاستراتيجية التى وضعها المتقدمون، والعرض التقديمى الذى نقدمه أمام اللجنة، والسيرة الذاتية الخاصة بكل مرشح، ثم يتم ترتيب الثلاثة وفق رؤية اللجنة، وعادة ما يختار وزير التعليم العالى والبحث العلمى الاختيار الأول للجنة، أى أن الاختيار يتم بناء على معايير محدده». منتجات تخدم الاقتصاد ولأن الاختيار كان بناء على استراتيجية لإدارة المركز وضعها كل مرشح، كان سؤالى التالى للدكتور معوض عما تتضمنه هذه الاستراتيجية من أولويات خلال فترة تقلده المنصب، ويبدو أن سؤالى قد ذكره بتفصيلة لم يذكرها فى معرض إجابته على سؤالى الأول، فقال: «قبل تقلدى للمنصب، كنت نائبا للرئيس للشئون البحثية، ولدى خبرة من حيث الإلمام بتفاصيل المشروعات البحثية والتعاون البحثى مع الجهات المحلية والدولية وبروتوكلات التعاون مع المؤسسات الصناعية المحلية والخارجية». ويحصل على رشفة ماء، قبل الدخول إلى تفاصيل الإجابة على السؤال، مضيفا: «أما بالنسبة للأولويات، فهى نفسها التى تم إنشاء المركز من أجلها عام 1956، وأبرزها إنتاج منتجات بحثية تخدم الاقتصاد الوطني، وسنركز على أن تكون تلك المنتجات بديلة لما يتم استيراده من الخارج، للمساهمة فى تحقيق الاكتفاء الذاتى بكافة المجالات». ولا يغفل د.معوض عن التحديات التى تواجههم، وهم يسعون لتطبيق تلك الاستراتيجية، وأبرزها استسهال القطاع الخاص الاستيراد من الخارج، بدلا من توطين الصناعة، والاستثمار فى البدائل المحلية، لكنه يدرك أن الظروف ستدفع المستثمرين دفعا لتغيير هذا التوجه. ويقول بنبرة لا تخلو من الثقة: «فى ظل الضغط على طلب الدولار وقلة المتوفر منه فى السوق، سيضطر المستثمرون للجوء للحلول المحلية، كما حدث مؤخرا مع شركة كفر الزيات للمبيدات والكيماويات، والتى لجأت لنا لتوفير جهاز كانت تشتريه من الخارج ب 7 آلاف دولار، ونجحنا فى إنتاجه بتكلفة أقل بكثير وصلت 200 ألف جنيه، لكن ستظل هناك حاجة لإتاحته على نطاق تجارى كبير، وفى حال تحقيق ذلك ستنخفض تكلفته أكثر وأكثر». شكوى فى غير محلها ولأن الإنتاج الكبير على نطاق تجارى يتطلب قيام المركز ببيع براءة الاختراع للمستثمر، فقد تكون هناك مبالغة فى تقدير قيمة البراءة، وهى الشكوى التى دائما ما يرددها بعض المستثمرين، ويؤكد د. معوض على عدم دقتها. ويقول: «أنشأنا فى المركز شركة المركز القومى للبحوث للمنتجات الابتكارية، تقوم بدورها بالتواصل مع مكتب متخصص فى دراسات الجدوى، ويقوم هذا المكتب بتحديد قيمة أى براءة وفق دراسة للسوق، ومؤخرا حدد المكتب قيمة تتراوح بين 9 و15 مليون جنيه ثمنا لبراءة تتعلق بأحد البوليمرات التى تستخدم فى تنقية الصرف الصناعي، وهو منتج بديل لآخر يتم استيراده من الخارج، لكن أحد المستثمرين أراد شراءه ب300 ألف جنيه فقط، رغم أن المستثمر نفسه يستورد منها سنويا بقيمة تتعدى ملايين الدولارات، فهل هذا المبلغ الذى طرحه المستثمر عادلا؟». مسحة الحزن التى ارتسمت على وجه الدكتور معوض، وهو يطرح هذا السؤال الاستنكاري، لم تستمر طويلا، فما لبث أن تذكر أنه قادم من اجتماع مع أحد الشركات المتخصصة فى إنتاج المراتب، والتى أبدت إدارتها اهتماما كبيرا بمخرجات البحث العلمي، فاستدرك قائلا: «لكن حتى أكون منصفا، هناك مستثمرون يقدرون قيمة البحث العلمي، فهذه الشركة الكبيرة الرائدة فى إنتاج المراتب لجأت لنا، كى نساعدها على إعادة تدوير مخلفات الإنتاج فى منتجات جديدة، وخلال اللقاء عرضنا عليهم إمكانية مساعدتهم فى تنفيذ مراتب ذكية تقيس السكر والضغط وترسل القراءات إلى الهواتف المحمولة للفرق الطبية، بينما الشخص نائم، فأبدوا حماسا كبيرا للفكرة، ورغبة فى دعم تلك الأبحاث حتى تخرج للنور». غلق حنفية الاستيراد التحول السريع الذى ظهر على وجه د.معوض وهو يتحدث عن تلك التجربة، دفعنى لسؤاله عما إذا كانت هناك فرصة لتحقيق مزيد من التواصل الناجح مع الصناعة، فأعاده السؤال إلى ما سبق وأكد عليه من أن الضغط على طلب الدولار وقلة المتوفر منه فى السوق، وسعى الدولة إلى غلق «حنفية الاستيراد»، سيعطى دفعة كبيرة للأبحاث التى توفر منتجات محلية بديلة للمستورد. وقال بعد أن أمسك بأحد الملفات على مكتبه: «لدينا دراسات عن المنتجات المستوردة التى يمكن أن نوفرها محليا، وما تؤكد عليه الوزارة فى كل اجتماع معنا، ضرورة العمل على هذا التوجه، فلا مجال فى الوقت الحالى لأبحاث لا تخدم هذا الغرض، باستثناء الأبحاث النظرية، التى تؤسس للنظريات العلمية». وأضاف: «أنا أتوجه للقطاع الصناعى من خلالكم، بأن المركز لديه 450 منتج بديل للمستورد جاهز للإنتاج، ولدينا استعداد لحل المشاكل التى تواجه الشركات بحلول محلية وبتكلفة أقل، ونملك عشرات من قصص النجاح المشجعة، منها قصة نجاح كبيرة مع شركة صينية بالعين السخنة متخصصة فى إنتاج الفايبر جلاس، حيث نجحنا فى علاج مشكلة بخط الإنتاج كانت تحتاج لاستقدام خبراء من الصين، وقد شجعهم ذلك على أن يطلبوا من المركز أن يكون ذراع البحث والتطوير الخاصة بهم». أبحاث وثيقة الصلة بالصناعة ولأن التوجه هو الأبحاث التى تخدم الاقتصاد، فلا مجال لأبحاث هدفها فقط الترقيات، ويقول د.معوض بلهجة حاسمة: «من يريد أن يكون عمله البحثى لهذا الغرض فقط، فهذا قراره، لكن المكافآت والحوافز لن تذهب إلا للأبحاث وثيقة الصلة بالصناعة». ويرتبط بهذا الأمر أيضا التأكد من اتباع الأبحاث للقواعد العلمية الدقيقة، ويضيف محافظا على نفس اللهجة الحاسمة: «لن يتم التهاون مع اختراق القواعد العلمية المتبعة فى إنتاج الأبحاث وكتابة النتائج، وستكون العقوبات رادعة مع كل من يثبت تعامله مع مصانع إنتاج الأوراق البحثية»، ويكشف فى هذا الإطار عن أن العقاب يمكن أن يصل إلى إلغاء الترقية، كما حدث قبل سنوات مع باحث بالمركز تم إلغاء ترقيته لدرجة أستاذ، بعد أن تبين اقتباسه لأجزاء من أبحاث آخرين وإدخالها ضمن نتائج أبحاثه. وقبل أن أختم الحوار مع الرئيس الجديد للمركز كنت حريصا على سؤاله عن مدى شعور المجتمع بقيمة ما يقدمه المركز القومى للبحوث، فكان ذلك سببا لإعادة الابتسامة العريضة إلى وجهه، وهو يقول: «نتواصل بشكل دائم مع المجتمع من خلال قوافل طبية وبيطرية وتوعوية أسبوعية، وخدمات فى تشخيص الأمراض الوراثية النادرة نقدمها من خلال مركز التميز للبحوث الطبية، ولدينا خبرات كبيرة فى إنتاج اللقاحات، مثل لقاح إنفلونزا الطيور المتداول فى الأسواق حاليا، وهو من مخرجات المركز القومى للبحوث، وأصبحنا نمتلك الخبرة الكافية للتعامل مع أى وباء مستقبلى بإنتاج اللقاحات»