اهتم الأديب اللبنانى محمد طرزى بالتاريخ فى جل رواياته الثمانية السابقة، كمادة للإسقاط على الواقع، لكنه فى روايته الأحدث «ميكروفون كاتم صوت» الصادرة عن الدار العربية للعلوم يستلهم الواقع اللبنانى قبل الحرب الأخيرة بشكل مباشر وواضح، دون اللجوء إلى التاريخ البعيد، ليعرى المجتمع، الرواية الحائزة على جائزة «كتارا» والتى حصلت فى الأسبوع الماضى على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، تمنح صوتا لمواطن بسيط يعمل فى المقابر. فى حوارنا مع «طرزى» نتحدث عن عمله الأخير ونبدأ بما يشير إليه العنوان الملهم فيقول: عنوان الرواية مركّب، له أكثر من دلالة. فالميكروفون هنا سلاح إعلامى يزيف، ويفرض أفكار قوى الأمر الواقع على المجتمع والناس. قوّة صوت الميكروفون تقمع كل صوت آخر، مهما كان صادقًا أو منطقيًّا، فهو بذلك إنما يؤدى دورًا آخر، لا يختلف عن دور «كاتم الصوت»، أى المسدس، فى بعض البلدان. كيف ترى العلاقة بين الموت فى الرواية الممثل فى المقبرة والمعنى المجازى للموت المجتمعى والسياسى فى لبنان؟ بطبيعة الحال، كتبتُ الرواية عن مرحلة سابقة للحرب القائمة فى منطقتنا. أحداثها تدور تحديدًا بين 2018 و2020، حين شهد لبنان انهيارًا شاملا على مختلف الأصعدة. أشهرت الشركات إفلاسها، وتضاعف عدد العاطلين عن العمل، اختفت الموادّ الأساسيّة من الأسواق؛ الدواء والطحين والمحروقات، بينما تضاعف «الكافيار»، و«السمون»، والفستق الفاخر بسبب سياسة الدعم المشبوهة التى اعتمدتها الطبقة الحاكمة بالتنسيق مع البنك المركزيّ. أقفلت البنوك أبوابها، بعدما تبيّن أنّ المسئوليين بدّدوا أموال المودعين، على مدار عقد من الزمن. تعطّل كلّ شيء، خلت الصيدليّات من الأدوية، والمستشفيات من المعدّات الطبّيّة. قنّنت المحطّاتُ الوقود، فاصطفت السيارات على طول الطرق، فيما يُعرف بطوابير الذلّ. كثُر المتسوّلون، وارتفع معدل الجريمة، صار الناس يُقتلون لأتفه الأسباب، بينما سُجّلت أعلى نسب انتحار فى تاريخ البلد. من ظل على قيد الحياة، عاش على حافة الموت، كمن يعيش فعليًا فى مقبرة. والد بطل الرواية يعمل فى نعى الموتى، يجول بسيارته ذات «الميكروفونات» الأربعة، فى شوارع المدينة، طيلة النهار، ناثرًا أخبار الموت فى الهواء، وفى ذلك دلالة رمزية أخرى، متممة للمقبرة كحيز مكانى للنص. إلى أى مدى تؤثر الأحداث السياسية والاجتماعية المعاصرة على خيالك الأدبي؟ تؤثر الأحداث على الكتابة بصورة مباشرة، فحتى حين أكتب فى التخيل التاريخي، اختار فترة زمنية تتماهى مع ما يجرى فى الواقع من أحداث، فعل سبيل المثال، رواية «رسالة النور»، عبارة عن تناص ثقافي، عماده حياة كل من ابن المقفع وعبد الحميد الكاتب، خلال الثورة العباسية على الأمويين، قاربت عبر أفكار هذين المفكريْن، بطريقة مواربة لثورات الربيع العربي، بذلك أعدت قراءة الماضى بغية تفكيك الحاضر، وفهمه فى ضوء استعراض التراث. ينطبق الأمر نفسه على رواية «ماليندي»، وهى إمارة عربية، على الساحل الشرقى لإفريقيا، فى القرن الخامس عشر، يتصارع عليها العرب والفرس واليهود والأوروبيون، فتبدو كما لو أنها صورة صغّرة عن منطقة الشرق الأوسط. أما «ميكروفون كاتم صوت» فهى رواية واقعية سياسية، فلم أتوارَ خلف حدث تاريخي، ولم أتخفَّ وراء شخصية من التراث، كى أمرر أفكاري، بل كتبتها بتأثير مباشر مما يجرى فى لبنان، منتقدًا أولئك الذين شوّهوا المجتمع والإنسان. ما تأثير الأحداث الجارية على كتابتك؟ كيف يمكن للحرب أن تلهم الأديب، وهو فى أتونها؟ المآسى بشكل عام ملهمة لجميع الفنون، بما فيها الكتابة، لا أعرف كتابة إبداعية لا يكون الألم الجماعى أو الفردى محرّكًا لها. بهذا المعنى، تلهم الحروب المبدع بما تخلّفه من انكسارات إنسانية ،وندوب فى نفسه، ولكنّ الأديب قد لا يستطيع التعبير عمّا يختلج فى داخله بينما الحرب قائمة. إذ يحتاج إلى فترة زمنية، تُبعده عن الأحداث. ثمّ حين يعتقد أنه قد شفى تمامًا من ندوبه، يجد أصابعه تسيل على الصفحات دموعًا ودمًا. هذا يذكرنا بتجربة «همنجواي»، فقد عرف ويلات الحرب العالمية، لكنه لم يكتب عنها إلا بعد سنوات من انتهائها. ما تأثير الحروب المتتالية على الأدب اللبنانى عموما؟ تمحورت الرواية اللبنانية لسنوات طويلة حول الحرب الأهلية التى دارت رحاها بين 1975 و1990. بعض هذه الروايات تُرجمت إلى لغات مختلفة، فكان لها حضور عالمي، فضلا عن الحضور العربى، والمحلي. نذكر فى هذا المجال أعمال «جبور الدويهي»، «هدى بركات»، «ربيع جابر»، «نجوى بركات»،» حنان الشيخ»،» عباس بيضون»، وغيرهم. بالتالي، فإن وحشية الحرب الأهلية لما مثّلته من صدمة لمن عرف لبنان المسالم، الجميل، القوى بضعفه شكّلت مادة أساسية للأدب اللبنانى المعاصر، كلٌ قاربها من زاوية خيبته، وأوجاعه. ولكنْ، للمفارقة، لم تأخذ حروبُ لبنان مع الخارج، وهى كثيرة، ودامت أكثر من الحرب الداخلية، الحيز نفسه فى الرواية اللبنانية، على الأقل فى الأدب الذى حظى بانتشار واسع. ما الجديد الذى قدمه جيلك الأدبى وهل ظل مشغولا بالحروب والصراعات كمادة لأدبه؟ بالنسبة للجيل الذى أعقب جيل الأستاذة الذين ذكرتهم آنفًا، لا أرى أن الحروب تشكّل مادة أساسية فى أعمالهم. فهم لم يعيشوا الحرب الأهلية كما عاشها أسلافهم، لكنهم سمعوا وقرأوا عنها. كما تعرفين، من الأهمية بمكان، أن يعيش الأديب تجربة الحرب بكل حواسه، وأن تعتريه مشاعر الخوف والقلق كى يقدّم نصًّا إبداعيًّا، لاحظتُ أن قضايا هذا الجيل من الأديبات والأدباء اللبنانيين ترتكز على القيم العالمية المتمثلة بالقيم النسوية، والحريات الفردية بكل أبعادها، هى أعمال تهتم أكثر بقضايا الفرد، بخيباته الاجتماعية ، أو العائلية، تناقضاته مع البيئة الثقافية التى ينتمى إليها، فضلا عن تطلّعاته خارج الوطن الذى سلبه كل شيء.