«الحكايات التى تنتهى؛ لا تنتهى ما دامت قابلة لأن تُروى». قالتها رضوى عاشور بين سطور سيرتها الذاتية «أثقل من رضوى» ومع مرور السنوات تتجلى صحة العبارة مع سيرة رضوى – نفسها – والحكايات التى لا تنتهى حولها وحول منجزها الفكرى والأدبى، وهو ما برز فى المؤتمر الذى أقامه المركز القومى للترجمة الأسبوع الماضى بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل رضوى عاشور، تحت عنوان «هرمنيوطيقا الترجمة». افتتحت المؤتمر د. كرمة سامى، مديرة المركز، وهى تزين بلوزتها السوداء بدبوس يحمل صورة رضوى عاشور؛ مستذكرةً سؤال عاشور الشهير عام 1993 فى إحدى ندوات قسم اللغة الإنجليزية حول اسم الكروان باللغة الإنجليزية، إذ كان هذا السؤال – البسيط فى ظاهره – بوابة للسجال بين الثقافات، وجسد رؤية د. رضوى فى الترجمة كفعل تحررى يتجاوز نقل المعانى إلى إعادة صياغة المفاهيم وبناء الجسور بين الشعوب، مع الحفاظ على جوهرها الإنسانى. فهى لم تكن فقط كاتبة ومترجمة، وإنما منارة للفكر والمقاومة، تُلهم أجيالًا من الكُتاب والقراء، وخلال عشر سنوات منذ رحيلها؛ منح إرثها أجنحة للمقهورين. بعد عرض فيديو قصير بعنوان «رضوى.. سيدة المعانى والمضامين» بدأت جلسة حميمية من الشهادات، استهلها د. أحمد درويش بالحديث عن أبعاد الوسطية التى اتسمت بها رضوى عاشور، معتبرًا أنها استطاعت الموازنة بين الأصالة والحداثة، وبين العراقة والانفتاح، لتخلق نموذجًا أدبيًا فريدًا يتداخل فيه التاريخ مع الحاضر، فهى لم تكتفِ بالعربية كأداة تعبير، بل امتدت إلى لغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية لتعيد تشكيل فهمها الخاص للإنسانية والثقافة، ومن خلال هذا المزج بين اللغات والثقافات، انطلقت تجربتها الوطنية التى كانت فى جوهرها تجربة ثورية وفنية، متجذرة فى الماضى، لكنها تحمل أفقًا يمتد نحو المستقبل. كانت رؤيتها واضحة، أن اللحظة التاريخية ليست سوى محطة فى سلسلة مستمرة من الأحداث التى تربط القرية القديمة بالقرية الفلسطينية الحديثة، وتخلق من هذا الترابط شاهدًا على وحدة القضية والهدف. أما صديقتها الناقدة اعتدال عثمان فاستعرضت كيف استطاعت رضوى عاشور المزج بين العام والخاص فى كتاباتها، حيث كانت قضايا الوطن والإنسانية متشابكة مع تجاربها الشخصية، ورغم ما عانته من مِحن شخصية وصحية، لم تفقد قدرتها على الحلم والكتابة، بل جعلت من الألم وقودًا للأمل، فراحت تطرح أسئلة عميقة حول التاريخ العربى والإسلامى، وتناقش مواقع الالتزام الفكرى والإنسانى، داعيةً القراء إلى تأمل أنفسهم وعالمهم، ومواجهة الأسئلة المؤرقة حول العدالة والهوية والمقاومة. وامتدت هذه الروح النضالية إلى أعمالها الأكاديمية، حيث أسهمت فى تطوير الفكر النقدى العربى، وربطت بين التراث والحداثة بأسلوب فريد. أما إنسانيًا؛ فقد حملت رضوى بداخلها جوهر الصدق والمحبة، واستلهمت من تجاربها الأكاديمية وحياتها الشخصية زادًا فكريًا مكنها من أن ترسى قيمًا علمية وأدبية أصيلة، عبر عمل دءوب وسعة اطلاع فى تخصصها، إضافة إلى رحابة فكر كأستاذة جامعية تجمع بين الصرامة العلمية والأمومة فى احتضان الأجيال، وإلهام طلابها بآفاقٍ جديدة من التفكير. بينما اختارت د. فاتن موسى، مديرة الجلسة؛ أن تعبّر عن صوت رضوى من خلال قراءة مقال نُشر بقلمها فى «مجلة الطريق اللبنانية» عام 2002، حول مشاركتها فى مؤتمر «المؤلف وجهًا لوجه مع المترجم» وفيه تخلت عن موقعها ككاتبة، لتؤكد أن تعدد الأصوات كان جوهر مشروعها الأدبى، وهو ما يظهر بوضوح فى ثلاثيتها «غرناطة»، حيث تتقاطع الروايات الشخصية مع السرد التاريخى لتكوين مشهد أدبى مركب يعكس أصواتًا مختلفة، تتفاعل مع بعضها البعض لتكشف عن تعقيدات الواقع الاجتماعى والسياسى، وتضع القارئ أمام أسئلةٍ عميقة حول العدالة والمقاومة. فلسفة «القول الواحد بلسانين» أما الجلسة الثانية التى خُصص لها 60 دقيقة فقد ألقى فى بدايتها د.مصطفى رياض الورقة البحثية لكل من: د. بهاء الدين محمد مزيد ود.حارس عبد الوهاب فايز لعدم حضورهما، والتى جاءت بعنوان «التناص الترجمى وعناصر السرد فى الترجمة» وأظهرت كيف تميزت عاشور بفهم عميق لبنية النصوص المترجمة، ليس فقط من حيث الكلمات، بل من حيث السياق الثقافى والمعنوى، إذ كانت بارعة فى نقل الروح الأصلية للنصوص إلى القارئ العربى مع الحفاظ على عمقها ودلالاتها الثقافية، مما يتجاوز فكرة الترجمة إلى كونها مشروعاً فكريا يهدف إلى خلق حوار ثقافى بين النصوص الأصلية والمجتمعات الجديدة التى تُترجم إليها. بينما جاءت مداخلة الدكتور شكرى مجاهد فيما يزيد على 40 دقيقة، سلَّط خلالها الضوء على فلسفة رضوى عاشور فى الترجمة، مؤكدًا أن الترجمة بالنسبة لها كانت عملية إعادة خلق للنصوص بما يتناسب مع السياق الثقافى للمتلقى، ومشيرًا إلى مفهوم «الجدوى» الذى اتخذته عاشور معيارًا فى عملها، ويقوم على اختيار ما يجب ترجمته وما يمكن الاستغناء عنه أو تعديله، بهدف جعل النص المتُرجم قريبًا من القارئ العربى دون التضحية بروحه الأصلية؛ وهو ما يمكن وصفه باستراتيجية «القول الواحد بلسانين». لقد أسست رضوى عاشور لفلسفة ترجمة متحررة من القيود التقليدية، قائمة على الفهم العميق للنصوص والأمانة الفكرية تجاه القارئ، فجعلت من كل نص متُرجم فرصة لإعادة اكتشاف العالم بلغة أخرى، ولذلك أضحت منظّرة؛ وقدمت نموذجًا فريدًا فى الترجمة كفعل ثقافى وإبداعي. واختُتمت الجلسة بمداخلة قصيرة للدكتور مصطفى رياض تناول فيها الجانب العملى من ترجمة رضوى عاشور لرواياتها، خاصة «الطنطورية»، وكيف تعاملت مع التحديات التى تواجه النصوص الأدبية ذات الخصوصية الثقافية، فأوضح أنها توازنت بين الحرفية التى تحافظ على دقة النصوص، والحرية التى تجعل النص مفهومًا لجمهور جديد. كما أشار إلى مقاربتها المميزة فى ترجمة التفاصيل الدقيقة، مثل: طقوس الحياة اليومية الفلسطينية، وكيف استطاعت أن تدمج الوصف مع التفسير، مما ساهم فى إيصال المعنى بشكلٍ عميق وسلس فى الوقت ذاته. التحرر بالسيرة بعد استراحة قصيرة عُرض فيديو قصير عنوانه «رضوى.. وطن محرر» ثم انعقدت الجلسة الثالثة بمشاركة خمس باحثات فى تخصصات مختلفة، قدمن رؤى متعمقة فى أعمال رضوى عاشور، التى امتزجت فيها الترجمة بالسرد، والذاتية بالهموم الجماعية؛ أدارتها د. ندى حجازى، واستهلتها د. شيرين جمال متحدثة عن «مفهوم الترجمة كفعل وجودى فى سرديات رضوى عاشور» ومشيرة إلى أن الترجمة لدى رضوى كانت فعلًا مقاومًا للهيمنة الثقافية، حيث استخدمتها لتحرير الرموز الثقافية من قيودها وخلق حوار بين الثقافات. مثال ذلك تجلى فى أعمال مثل «ثلاثية غرناطة»، حيث شكّلت الترجمة وسيلة لبناء عالم متخيل يتفاعل مع التاريخ وينطق بالحقائق التى غالبًا ما تُغفل أو تُطمس فى السرديات المهيمنة. أما د. غادة كمال فقدمت قراءة عميقة فى السيرة الذاتية لرضوى عاشور «أثقل من رضوى»، استعرضت فيها كيف كانت تحوِّل تجارب المِحن الشخصية إلى معبرٍ لاكتشاف الذات وإعادة بنائها، إذ استطاعت تحويل تجربة المرض والفقد إلى فرصة لمساءلة الحياة والوجود، كما نجحت فى خلق نص أدبى يستبطن التجربة الإنسانية بعمق، حيث ترجم الألم إلى مشاعر مكثفة تتراوح بين الضعف والقوة. وأضافت الباحثة: أن كتابة السيرة الذاتية عند رضوى كانت ممارسة للتحرر من القيود المجتمعية والنفسية، وقد تجلى ذلك بوضوح فى «أثقل من رضوى» حيث نسجت سردًا ذاتيًا يتجاوز الألم ليبحث عن المعنى فى كل لحظة عابرة. من جانبها؛ ناقشت د. نبيلة قطب الترجمة بوصفها عملية إبداعية تتجاوز كونها نقلًا للمعنى، إذ لم تكن رضوى عاشور ترى الترجمة كعملية حيادية، بل كفعل واعٍ يهدف إلى تعزيز الوعى الثقافى والإنسانى. وتأكيدًا على الفكرة التى تطرق إليها د. شكرى مجاهد خلال الجلسة السابقة؛ ذهبت قطب إلى أن رضوى فى رواية «أطياف» استعرضت فكرة الترجمة كجدلية بين ما يمكن قوله وما لا يمكن نقله، مؤكدةً أن النصوص المتُرجمة قد تفقد روحها إذا لم يتمكن المترجم من فهم السياق الثقافى للنص الأصلى، ومن هنا كان التزامها فى أعمالها بمقاومة الترجمة الاستعمارية التى تميل إلى طمس الهويات المحلية لصالح هيمنة ثقافة معينة، ومن ثم كانت الترجمة عندها دائمًا أداة لبناء الجسور لا لإلغاء الآخر. واختتمت دعاء نصر النقاش بالتركيز على الترجمة الذاتية فى أعمال رضوى عاشور، موضحة أنها وظفت تجربتها الحياتية كوسيلة لكتابة أدب صادق وإنسانى، تمزج فيه بين العام والخاص، بحيث أصبحت سيرتها الذاتية جزءًا من ذاكرة جمعيّة تعكس هموم المجتمع وتطلعاته، فجسدت فى «ثلاثية غرناطة» و«أثقل من رضوى» شخصيات وأحداثًا تستمد جذورها من تجربتها الشخصية، لكنها أعادت صياغتها لتخاطب القارئ بوصفها سردًا إنسانيًا شاملًا. وأوضحت الباحثة أن الترجمة الذاتية فى أعمال رضوى كانت تعبيرًا عن فهمها العميق للكتابة كوسيلة لاستبطان الذات وإعادة قراءة العالم، حيث كانت تستعين بذاكرتها الشخصية وسيرتها لكتابة نصوص تحتفى بالحياة والمقاومة فى وجه الصعوبات. ولظروف صحية؛ لم تتمكن د. نهلة راحيل من الحضور، فبعثت تسجيلاً صوتياً حول دراستها «الخطاب المقدماتى الذى كتبته رضوى عاشور لترجمة الجزء التاسع من موسوعة كامبريدج فى النقد الأدبى» وتشير فيها إلى براعة رضوى فى الجمع بين الأسلوب السردى والمنهجية العلمية، حيث قدمت للقارئ العربى مقدمة تضمنت شرحًا لعملية الترجمة وتحدياتها، إلى جانب تقديم النص المتُرجم بأسلوب يتماشى مع السياق الثقافى المحلى، من خلال جانبيْن رئيسييْن: الأول هو الخطاب التأليفى الذى كتبته بنفسها، حيث تناولت فيه ظروف الترجمة ودوافعها، والثانى هو ترجمتها لمقدمة الموسوعة الأصلية. وقد أبرزت الباحثة استخدام رضوى للهوامش والإضافات لتسهيل الفهم، وتقديم رؤية تجمع بين الدقة الأكاديمية والأسلوب الأدبى، مما يجعل مقدمتها نصًا متميزًا يعبر عن فلسفتها العميقة فى التعامل مع الترجمة بوصفها فعلًا ثقافيًا وإنسانيًا. ترجمة الذات والمقاومة أما الجلسة الختامية؛ فقد أدارها د. شكرى مجاهد، وقدمت خلالها د.ندى حجازى رؤيتها حول قدرة رضوى عاشور على تحويل التاريخ إلى فضاء سردى حى، حيث الحكاية تصبح مقاومة والمقاومة حكاية. وأشارت إلى أن عاشور، فى أعمال مثل «الطنطورية» أعطت صوتًا للمقهورين، مجسّدةً التاريخ من خلال تفاصيل يومية وإنسانية تجعل القارئ شريكًا فى صراعاتهم وأحلامهم. كان أدبها فعلًا سياسيًا ومعرفيًا يتحدى الطمس، ويعيد بناء الهويات من خلال الكتابة والترجمة، ففى سرديتها، يتحول الأفراد إلى رموز للمقاومة اليومية ضد القهر. نجد أن التفاصيل الصغيرة، مثل متاعب الحياة اليومية وأحلام البقاء، تصبح ملامح أساسية للحكاية. هذه القدرة على إعادة بناء الحكايات من منظور إنسانى كانت جزءًا أساسيًا من مشروعها الأدبى، حيث تخلّد ذكرى من عاشوا وماتوا فى ظل معارك الصراع مع الاحتلال والقهر. كما أنها لم تكتفِ بكونها شاهدة على الحكايات، بل كانت جزءًا منها، تجسدت فيها مشاعر التمرد على الأعراف السائدة وتحدى السلطة القامعة، سواء أكانت سلطة احتلال أو فسادًا داخليًا. بينما ركَّزت د. نيرمين الشرقاوى فى ورقتها البحثية على مفهوم «ترجمة الذات» كما يتجلى فى كتاب رضوى عاشور «الرحلة: أيام طالبة مصرية فى أمريكا» الذى حولت فيه تجربتها الشخصية إلى نصٍ إنسانى عابر للثقافات، متفاعلٍ مع أسئلة الهوية والانتماء، فالرحلة لم تكن انتقالاً فى المكان بقدر ما كانت رحلة داخلية نحو اكتشاف الذات وإعادة صياغة العالم من خلال السرد. كما كانت رضوى قادرة على تقديم التفاصيل اليومية الصغيرة كوسيلة لفهم التحولات الكبرى، سواء كان ذلك عبر مشاهدها كطالبة فى أمريكا، أو فى وصفها للحياة داخل المخيمات الفلسطينية، فحكاياتها دائمًا مشحونة بطاقة إنسانية تكسر الحواجز وتفتح المجال للتعاطف والتأمل. أما سحر محمد عبد العليم، فتناولت ملحمة «ثلاثية غرناطة» كعمل إنسانى أعاد النظر فى الوقائع التاريخية الكبرى من خلال عدسة المهمشين، وأوضحت كيف نقلت رضوى عاشور مأساة سقوط الأندلس من منظور البشر العاديين، حيث التفاصيل اليومية تصبح رمزًا للصراع والأمل. فقد كانت نصوصها لا تروى التاريخ فقط، بل تسائله، متجاوزة القوالب التقليدية للرواية التاريخية، فبينما تتعامل النصوص التاريخية التقليدية مع الأحداث من منظور القوة والسيطرة، تعيد رضوى عاشور تشكيلها من منظور الإنسانية، ليصبح القارئ على دراية ليس فقط بالوقائع الكبرى ولكن أيضًا بالتأثير العميق لهذه الوقائع على حياة الأفراد، بدءًا من خسارة منازلهم وأراضيهم، وصولًا إلى صراعهم اليومى للبقاء وسط مشاهد القهر والتشرد. المداخلة الأخيرة فى المؤتمر جاءت من: د. كى هايكينن، فى هيئة فيديو تتحدث فيه عن تجربتها فى ترجمة أعمال رضوى عاشور، مشيرة إلى أن الترجمة كانت بالنسبة لها جسرًا بين الثقافات، دفعها إليها زوجها الراحل د. فاروق عبد الوهاب، فعملت فى البداية على ترجمة نصوص عربية متنوعة، إلا أن نقطة التحول الكبرى جاءت مع ترجمتها لروايات الدكتورة رضوى عاشور، التى استحوذت على اهتمامها منذ قرأتها لأول مرة عام 2003؛ حينها كانت طالبة، فعرفتها أستاذتها نادية حرب على عالم رضوى عاشور الأدبى، لتجد فيه مزيجًا ساحرًا من الأسلوب الأدبى العميق والرسائل الإنسانية المؤثرة. كما سردت هايكينن التحديات التى واجهتها فى نقل النصوص، بدءًا من الصعوبات اللغوية وصولًا إلى الحفاظ على روح الكاتب وصوت شخصياته. ووصفت تجربة تعاونها مع رضوى عاشور بالثراء، المليء بالدعم والكرم الإنسانى، حيث راجعت المسودات وقدمت ملاحظاتٍ دقيقة دون أن تفقد المترجمة ثقتها بنفسها.