استضافت مكتبة "تنمية" الجمعة الماضية ندوة بعنوان: "رواية الجريمة الأدبية؛ آفاق ونماذج" ناقشت فيها الروائية منصورة عز الدين خمسة من الكتاب الشباب هم: محمد عبد الرازق، ومريم عبد العزيز، ومحمد كسبر، وكاميليا حسين، ورحمة ضياء. الكتاب الخمسة كانوا جزءاً من ورشة نظمتها شركة ستوريتل بالتعاون مع الدار المصرية اللبنانية قبل عامين حول "رواية الجريمة الأدبية" تحت إدارة منصورة عز الدين، التى أثنت فى بداية اللقاء على الكتَّاب بعد أن أنجزوا أعمالهم فى وقت قياسى، وحاولت توضيح مصطلح "الجريمة الأدبية" فقالت إنه من الأنواع الأدبية المرنة، يستند على وجود جريمة لكن الهدف من الرواية ليس حل اللغز كالروايات البوليسية العادية، بل من الممكن أن تكون الرواية فلسفية، أو اجتماعية، أو تدمج الغرائبى بالواقعى، فالجريمة فى النهاية ليست محور الرواية أو سؤالها الأساسى. استكملت بالتطبيق على الروايات الخمس نفسها، فكلها تبدأ بجريمة لكنها تتفرع بعد ذلك بطرق مختلفة، وتختلف مركزية الجريمة ومحوريتها أو حتى هامشيتها من عمل لآخر، حسب الزاوية التى يقارب منها العالم. ففى رواية مريم عبد العزيز «لونجا» الجريمة أساسية والتشويق حاضر طوال الوقت، حيث يريد القارئ أن يعرف قاتل «الأستاذ شكرى» العازف المغمور، لكنها بالطبع لا تتوقف عند هذا الحد. محمد كسبر فى «سوسوبابا» يستخدم الهجاء الساخر لعلاقة المثقف بالسلطة، وتفضح روايته ازدواجية المثقفين والوضع الثقافى بشكل عام، لكن من خلال جريمة. عند محمد عبد الرازق فى «بياض على مد البصر» الجريمة أيضا حاضرة، وسؤال قتل الفتاة الصغيرة مستمر على طول الرواية، لكن هناك قضايا كثيرة هى الأساس، وربما يهتم القارئ أكثر بالظروف الظالمة للمرأة فى المجتمع الريفى. رحمة ضياء فى «سيدة القرفة» تأخذ الجريمة لمنطقة الكتابة المنشغلة بالمطبخ، وتفسير العالم من خلال المذاقات والروائح. فى حالة «استغماية» كاميليا حسين يظل القارئ حائرا، ولا يعرف إن كانت الجريمة حدثت بالفعل أم هى خيال فى ذهن البطلة؟ فالرواية قائمة بالأساس على العلاقة بين الإخفاء والكشف، وطوال الوقت هناك شىء مسكوت عنه، وهلاوس، وصدمات نفسية، وتكشف فى الوقت نفسه كيف يمكن للعلاقات الأسرية والدوائر المقربة أن تكون قاهرة للبشر، لذا فإن منصورة تعتبر الجريمة فى هذه الرواية بمثابة القطعة المفقودة التى تكمل البازل، والتى ربما تبرر كل المشاكل الموجودة لدى البطلة. بعدها أدارت منصورة حوارا مفتوحا مع الكتَّاب الخمسة، وطرحت أسئلة كاشفة لمحاور الروايات وأساليب كتابتها وتحديات وهواجس كتابها.. بياض على مد البصر. قال محمد عبد الرازق إن روايته بدأت بخبر قرأه فى جريدة، وتأثر به جدا، لكن لم يكن لديه تصور للعالم الذى يمكن بناؤه، مع الكتابة تكشفت الأمور واتضح العالم. يهتم محمد كثيرا بالشخصيات، ربما هى أهم ما فى الرواية من وجهة نظره، فهى حاملة الحكاية «حتى الشخص العادى عندما يحكى فإنه يحكى ما يبرزه شخصيا». ويهتم أيضا بشكل الشخصيات داخل العمل، والعلامات التى قد تميزها لأن هذا ما يميزهم فى العالم الطبيعى أيضا. تأثر برواية «سرد أحداث موت معلن» لماركيز، وأدهشته قدرة كاتبها على حشد كل تلك التفاصيل فى يوم واحد، فاختار التكنيك نفسه لروايته الأولى، لكنه يشير أيضا إلى دور الصدفة والتجريب ومحاولة اللعب، إلى حد إيمانه بأن العمل الفنى ربما هو فعلا من يختار شكله وتكنيك كتابته. تحديات العمل بدأت حتى من قبل الشروع فى كتابته، وكان أولها ألا يتم قبوله فى الورشة، كما أن الجريمة فى روايته متعلقة بجزء «حساس مجتمعيا»، لذا تخوَّف من أن تخرج جارحة أكثر من اللازم. التوقيت أيضا كان أحد التحديات لأنها كانت المرة الأولى التى يكتب فيها ملتزما بموعد نهائى. لكن تجربة الورشة فى المجمل أفادته فى تثبيت إيمانه بالتجريب، وبأن الكاتب يستطيع بطريقته وبالتكنيك الذى يتبعه تحويل التراب إلى ذهب أو العكس. لونجا البطل فى «لونجا» لمريم عبد العزيز مدرس موسيقى وعازف مغمور، لذا فالموسيقى موجودة على طول الرواية وفى كل الأحداث، لكنها تقول إن استخدامها فى البنية لم يكن من البداية، فحررها ذلك من القيود إلى حد ما فكرة مقاربة القالب الموسيقى جاءت وقت اختيار العنوان، عندها حاولت أن يتوافق تقسيم الرواية وبنيتها مع القالب الموسيقى الذى يتميز بالانتقال المفاجئ والقفزات اللحنية السريعة. قرأت مريم عن القوالب وذاكرت الموسيقى واستعانت بمتخصص، ومن خلال تركيب قالب اللونجا جاءت عناوين الفصول على اسم الخانات والتسليمات «فى قالب اللونجا يكون التسليم مقطعاً متكرراً بين الخانات ولأن التكرار لم يكن مناسبا فى الرواية فقد اخترت لفصول »التسليم» تيمة واحدة وهى قصص الحب بين الأبطال» ولم يكن هذا كله بحثا عن تحد وإنما أيضا رغبة فى التجريب واللعب. تخوفت مريم فى البداية من استهانة القراء بهذا النوع الأدبى، وأيضا من المقارنة بين روايتها الأولى والثانية، بالتحديد من أن تكون قد تحولت «لنوع أدبى أقل درجة». وكان من أبرز التحديات التى قابلتها خلال الكتابة هى شرط الانتهاء خلال 6 أشهر فقط والالتزام بالكتابة اليومية، فاتبعت »الطريقة المحفوظية» للالتزام بتوقيتات محددة للكتابة. كان من التحديات أيضا اختيارها ل«نوار فيكشن» أو الأدب المظلم وهو أحد فروع رواية الجريمة. وفى هذا الشكل الأدبى «العدالة لن تتحقق فى النهاية»، حيث الجميع مشارك فى الجريمة، كل شخص يدفعها عن نفسه ويحاول إلصاقها بالآخرين، الفكرة جاءتها أيضا من تأثرها برواية ماركيز نفسها «سرد أحداث موت معلن»، فأهل القرية جميعهم متواطئون ومتورطون فى موت البطل بشكل ما. لكن هذا النوع يتطلب وجود شخصيات متعددة، فكان عليها رسم عدد كبير من الشخصيات، وتحديد أدوارهم بحيث لا يطغى أحدهم على الآخر، وتضفير الخيوط كلها فى عدد صفحات محدود. سوسوبابا ينظر محمد كسبر لنفسه باعتباره كاتب أطفال يكتب الرواية أحيانا، لديه ثلاث روايات منشورة لكنه يتخوَّف من كتابة الرواية حتى الآن. يكتب كسبر للمسرح أيضا، ويعتقد أن ذلك التنوع يغنى أسلوبه ويثرى مفرداته، ففى المسرح يتطور الحدث بالحوار، وفى الكتابة للطفل يتطور من خلال الرسم، فى حين تضفر الرواية الأسلوبين معا. يرى أيضا أن أدب الأطفال تتجلى به السلطة بشكل ما، فصحيح أن الكاتب يكتب للطفل لكنه يفاوض ولى الأمر لأنه من سيختار فى النهاية. قبل مشاركته فى الورشة لم يكن يعرف معنى مصطلح «الجريمة الأدبية». يقول إنه قبلها كان يكتب فى «المنطقة الآمنة» لكنه تغيَّر كثيرا ويريد الآن التجديد وخوض عوالم جديدة لم يجربها من قبل. يقرأ كسبر لتوفيق الحكيم طوال الوقت، ومؤخرا أعاد قراءة كل أعماله. قربه توفيق الحكيم من اللغة وسهل تعامله معها وتطويعها، ففى الرواية يدمج الفصحى بالعامية ويضمنها أيضا كلمات أجنبية، لخدمة العمل نفسه ولطبيعة شخصياته كما يقول: »بالرواية شخصيات أجنبية، والبطل يكتب للأطفال ويتعامل أيضا مع دور نشر أجنبية». استغماية كان لدى كاميليا حسين التخوفات نفسها بخصوص التصنيف، وربما نفس التصور المسبق عنه، وكونه أقل درجة من الأنواع الأخرى. لكن التخوف الأبرز كان من تحقق شرط الجريمة نفسه خلال الرواية، تقول: «كان لدىَّ بداية ونهاية، والشخصيات الأساسية وكيف تتحرك، لكن لم يكن لدىَّ جريمة واضحة». التحدى الآخر أن خبرتها الأكبر كانت فى القصة القصيرة، لذا فعالم الرواية الضخم والمتشابك كان فكرة مخيفة بالنسبة لها. بطلة «استغماية» غير موثوق بها من البداية، وكل ما ترويه يمكن التشكك فيه، حاولت كاميليا أن تسحب ذلك على بنية العمل؛ النقلات، الفلاش باك، وحتى عنوان الرواية «هى تتخفى من نفسها ومن العالم ومن أسئلتها، تلعب مع ابنتها وهواجسها وماضيها لعبة استغماية ممتدة بطول خط الرواية». ترى كاميليا أن من مهام الكاتب أن يقرأ ويبحث فى موضوع العمل الذى يكتبه، والخبرة التى ظهرت فى روايتها حول التعقيدات النفسية وسؤال أو أزمة الأمومة كانت بفضل القراءة، لكن القسم الأكبر كان معايشة للشخصية «الأمومة سؤال موجود ويطرح نفسه من خلال الكتابة، فى البداية لم يكن هو البطل، لكنه ظهر أثناء الكتابة. ربما يكون سؤالى الأساسى خلال هذه الفترة لذلك طرح نفسه بهذا الشكل». خلال الكتابة لا تنشغل كثيرا بما سيصل للقارئ، بل بما تود قوله وكيف تكتبه بأفضل شكل ممكن أو بالطريقة التى ترضيها. ربما تفكر فى القارئ وما سيصله فى المراحل التالية خلال مرحلة التحرير، مع إيمانها بأن القارئ شريك فى التأويل بالنهاية. سيدة القرفة قبل ورشة «الجريمة الأدبية» شاركت رحمة ضياء فى ورشة أخرى لأدب الطعام، خاضت خلالها نقاشات حول أنواع مختلفة من الفنون، وكيف تنظر للطعام كمشارك فى تشكيل الوجدان، درست ما يمكن تسميته بتاريخ مكونات عالم الطبخ «كل بهار له تاريخ كونى، كل نوع من أنواع الخضراوات مر بمراحل عبر التاريخ، والتعمق فى هذا العالم، يمنح مساحة واسعة جدا للخيال». كان لدى رحمة رواية أولى ناجحة هى رواية «النقشبندى» لكنها لم تكن مطمئنة رغم ذلك لخوض تجربة جديدة »الكاتب ينتابه هواجس أن يكون أسير العمل الواحد»، لكنها من ناحية أخرى أيضا دافع للاجتهاد حتى يثبت العكس. من هنا سعت للمشاركة فى ورشة الجريمة الأدبية، وكان تحديها الأول تحويل رواية »أدب طعام» ل»أدب جريمة»، من الكتب المهمة التى ساعدتها «التاريخ الكونى للتوابل»، و«مطبخ زرياب». الكتاب الأول يحكى الأساطير المرتبطة بكل تابل من التوابل، ومن الأساطير التى شغفت بها رحمة أسطورة القرفة، وتحكى عن شجرة برية نبتت بالقرب من جزيرة ببحر العرب هى شجرة القرفة، سحرت الناس وأبهرت البحارة والتجار الذين كانوا يفشلون فى الوصول إليها بسبب الثعابين المحيطة بها. فكروا فى حيلة يصلوا بها للشجرة، فاكتشفوا أن العصافير تستخدم غصونها فى أعشاشها فاستهدفوا الأعشاش بسهامهم للوصول للأعواد الحاملة للقرفة. بنيت الرواية على الأسطورة، وكأنها تعيد إنتاجها فى الزمن المعاصر »سيدة القرفة فتاة فى الزمن الحاضر هى المعادل العصرى للشجرة، تحمل الكثير من الأساطير المحيطة بها». ثم جاءت الجريمة بعد ذلك، لكن التركيز لم يكن عليها بقدر متابعة رحلة ميمى التى تكتشف العالم من خلال الطهى والتوابل، مرشدتها فى هذه الرحلة. تعشق رحمة التجريب والتعلم والاكتشاف، ولا تحب أن تحصر نفسها فى إطار واحد حتى فى الصحافة، تختبر كل المساحات التى يمكن أن تكتب فيها «أحبُّ الذهاب لمناطق غير مطروقة فى الكتابة، فكرة دمج الجريمة الأدبية مع أدب الطعام كانت تحدياً ممتعاً بالنسبة لى، ربما يكون لهذا ضريبة فى النهاية، فليس الجميع يفهمون ماذا تريد أن تقول، لكنى سأظل أجرب لأنى أسعى للمتعة بغض النظر عن النتيجة».