خيال الظل هو أحد أشهر فنون الفرجة الشعبية فى العصور الإسلامية. اشتملت عروضه ذات الطابع الفكاهي، على الشعر والزجل والموسيقى، وحظيت باهتمام السلاطين والأمراء، وكانت وسيلة الترفيه التى ينتظرها الجميع فى الأعياد والمناسبات. كما خصصت له فى بعض الفترات مقاهٍ مخصوصة، واشتملت أعماله على الكثير من القيم والعظات والمعارف والنقد. كذلك عكس أحوال السياسة والمجتمع بين الصعود والهبوط. وظل حاضرا حتى عقود مضت، قبل أن يتقلص، وتضعه اليونسكو مؤخرا على قوئم التراث الذى يحتاج إلى صون عاجل. ◄ «علم وتعادير» مسلسل من سبع ليال في مقاه مخصوصة ◄ الطبيب ابن دانيال أشهر من كتب «بابات» الخيال وأداها ◄ «المخايل» يعاونه «مقدم» جاد و«رِخم» هزلي ◄ ظل الخيال من جعفر الراقص إلى حسن خنوفة ترجع فنون الفرجة المعاصرة من مسرح وسينما إلى أصول غربية، جذورها المسرح الإغريقى، الذى لم يظهر امتداده فى العالم الإسلامى قبل منتصف القرن التاسع عشر. ومع ذلك فلم تعدم المجتمعات الإسلامية فنون فرجتها، من عروض ورقصات صوفية، إلى الحكواتية، ومنشدى السير، والحلايقية، والأراجوز، وغيرها. ويعتبر خيال الظل أحد أهم وأبرز تلك الفنون، حيث قدم الحكايات فى قالب درامى، تضمن التمثيل والغناء والعزف، مستخدما دُمَى من الجلد الشفاف الملون الذى يتم تحريكه بالعصى أمام مصدر ضوء، لينعكس على شاشة بيضاء، وتؤدى شخصياته أدوارا، خلبت المخيلة الشعبية طوال قرون. ◄ متعة السلاطين فى كتابه «خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة عند العرب» أورد أحمد تيمور باشا بيتين من الشعر، نقلا عن «سلك الدرر..» منسوبين للإمام الشافعى، يثنى فيهما على خيال الظل، ويقولان: رأيت خيال الظل أكبر عبرة، لمن هو فى علم الحقيقة راقى. شخوص وأشباح تمر وتنقضى، وتفنى جميعا والمحرك باقى». ولو صح هذا فقد عرف خيال الظل فى المجتمعات العربية منذ أواخر القرن الثانى الهجرى. لكن تواتر الحديث عنه، يرجع إلى بعد ذلك بنحو قرنين. ومن المؤكد أن مصر الفاطمية عرفته، فقد روى أن الناصر صلاح الدين أخرج خيال الظل ضمن ما أخرج من قصور الفاطميين، وعرضه على القاضى الفاضل، فشاهده، ثم أخبر صلاح الدين عن رأيه قائلا: «رأيت موعظة عظيمة، ودولا تمضى وأخرى تجيء..» ويبدو أنه صرح به فى تلك الفترة، حيث وردت الأخبار عن أحد أعماله بعنوان «بابة حرب العجم»، عرضت خلال حكم صلاح الدين، وكان موضوعها الحروب الصليبية. كما ورد فى «درر الفرائض المنظمة» ل«الجزيرى» أن السلطان «شعبان» حمل معه خيال الظل خلال رحلة الحج فى القرن الثامن الهجرى، فأُنكر عليه ذلك. كما ورد فى «التبرك المسبوك..» للسخاوى أن «الظاهر جقمق» منتصف القرن التاسع أمر بحرق دمى خيال الظل وأوقف عروضها، وأخذ التعهدات على الفنانين بعدم مزاولتها، لشيوع سلوكيات مذمومة خلال العروض. كما ذكر «ابن إياس» أن السلطان سليم العثمانى رأى عرضا ب«المقياس»، وشاهد فيه حادث شنق «طومان باى» وانقطاع الحبل به مرتين، فأنعم على المخايل بثمانين دينارا، وأمره بأن يأتى معه إلى اسطنبول ليرى ابنه ذلك. ويرجح الدكتور «شوقى ضيف» في كتابه «الفكاهة فى مصر» أن هذا الفن نشأ فى الصين و«جاوا» فى القرن الثالث قبل الميلاد، وكان يرتبط عندهم بالسحر، وعالم الأرواح. وأنه دخل العالم العربى في القرن السادس الهجرى. ويرى باحثون آخرون أنه عرف فى وقت مبكر من العصر العباسى. وذكره «الشابشتى» فى كتاب «الديارات» على لسان الشاعر «دعبل». كما ذكره كتاب «المستطرف فى كل فن مستظرف». وعرفت تمثيلياته باسم «بابات» جمع «بابة» خلال العصرين الأيوبى والمملوكى. وكانت عروضه تجرى فى الساحات والمقاهى، والاحتفالات العامة والخاصة، وتتناول بأسلوب ساخر موضوعات اجتماعية وسياسية. وكانت تعرض فى الليل لتنعكس الصور المدهشة على الشاشة مع الشعر والموسيقى. ◄ ابن دانيال يعد «شمس الدين ابن دانيال» أحد أشهر من كتبوا «بابات» خيال الظل فى العصر المملوكى. وكان «كحالا» يعالج الرمد، وشاعرا وفنانا، ولد بالموصل خلال فترة اجتياح التتار، فنزح إلى القاهرة شابا فى عهد الظاهر بيبرس الذى اتسم بالحزم والجهاد، ومنعت فيها الملاهى والموبقات. وقد ألف باباته مظهرا قدرته على فهم حياة الحرفيين والتجار، وتقليد لهجات الجاليات المقيمة بمصر بطريقة مضحكة. وكان يقوم بكل الأعمال من أداء صوتى وموسيقى. وجمع لفترة بين عمله كمعالج فى دكانه بباب الفتوح، وبين المخايلة. وسرعان ما علا شأنه كفنان، واستعان به الحكام والأعيان. وروى المؤرخ «ابن أيبك الداودارى» أنه كان يتردد على الملوك والأمراء والسادة الفضلاء، وعرف بالشيخ الحكيم. ووصفه «المقريزى» بأنه كان كثير المجون والشعر البديع، وأن كتابه «طيف الخيال» لم يصنف مثله فى معناه. وبقى له مخطوطات لثلاثة من باباته، إحداها محفوظة بدار الكتب المصرية تحت عنوان «طيف الخيال»، كان قد عثر عليها بالصدفة فى مكتبة أحمد تيمور باشا. وله اثنتان أخريان فى إسبانيا، واسطنبول، تحت عنوان «عجيب غريب»، و«المتيم والضائع اليتيم»، ونسبة الأخيرة له غير مؤكدة. كما توجد دمية يرجح أنها من إحدى باباته بمتحف برلين للفن الإسلامى. ومن أشهر شخصياته «عجيب الدين الواعظ» و«عسلية المعاجينى» و«مبارك الفيال» و«أبو القطط» و«زغبر الكلبى» و«ناتو السودانى» و«أبو العجب صاحب الجدى». وقد كتب باباته بين الشعر والنثر المنظوم. وتقدم بابة «طيف الخيال» محاكاة ساخرة لحدث سياسى شهير وقع خلال فترة الظاهر بيبرس وهو استقدامه لأبى العباس أحمد ابن الخليفة الظاهر إلى القاهرة لإقامته خليفة. وبطل البابة يدعى «وصال» وهو محاكاة ساخرة لأبى العباس. ◄ بين الراقص وخنوفة فى كتابه «مسرح خيال الظل المصرى من جعفر الراقص حتى الآن» يقدم الدكتور نبيل بهجت التاريخ الحافل لفن خيال الظل. والمؤلف هو أحد القلائل الذين اهتموا بهذا الفن فى العقود الأخيرة، وقام بتوثيقه، والبحث فى تاريخه، وأعاد تقديم عروضه. وتبدأ الحكاية ب«جعفر الراقص» الذى قدم عروضه فى القرن الخامس الهجرى. ومن بعده اشتهر «ابن دانيال» فى القرن السابع ثم «الذهبى» وابنه «محمد» فى القرن الثامن، و«ابن سودون» فى القرن التاسع أما القرن الحادى عشر الهجرى فاشتهر فيه «داوود العطار المناوى» و«على نخلة» و«الشيخ سعود». وفى بداية القرن الرابع عشر اشتهر «حسن القشاش» و«ولده درويش»، وفى أواخره عرف «محمد أبو الروس» و«محمود على صالح» و»مصطفى الروبى». وفى بدايات القرن الخامس عشر الهجرى عرف «أحمد الكومى» و«الفسخانى»، ثم يأتى حسن خنوفة الذى عمل على بابات سابقيه: «الصياد» و«العساكر» و«علم وتعادير» إلى أن توفى عام 2004، وتسلمت منه الراية فرقة «ومضة» التى أسسها الدكتور نبيل بهجت عام 2003، وتضم عددا من الفنانين وهم على أبو زيد، ومصطفى الصباغ، ومحمود سيد، وصلاح بهجت. ◄ سهرات ومسلسلات يبدأ عرض خيال الظل باستفتاح يمهد به «المقدم» للبابة بزجل يشتمل مديحا نبويا. وهو المساعد الرئيسى للمخايل الذى يحرك الدمى ويؤدى أصواتها. كما يوجد عنصر ثالث يدعى المهرج أو «الرِخم»، الذى يقدم نفسه للجمهور، ويخبره بطبيعة اللعبة، تجنبا لربط الجمهور بين المؤدى والشخصيات. ويشرف على الجميع «الريس» الذى يشبه المخرج كما نعرفه اليوم. ويتميز المخايل بقدرة على تلوين صوته، وإجادة اللهجات، وتقليد المؤثرات الصوتية كالرعد والريح وحوافر الخيل، بالإضافة للغناء والعزف. وفى العروض التى كانت تحضرها النساء من وراء ستار كما فى الأعراس، كان يجرى تخفيف بعض الألفاظ. واقتصر عرض بعض البابات على الرجال كبابة «القهوة» لجرأتها. وذكر أحمد تيمور باشا أنه حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر كان الخيال شائعا فى الأعراس، إلى أن اخترع الإفرنج الصور المتحركة، وكثرت أماكن عرضها، فانكب الناس عليها. وقال إن الفرقة تتكون عادة من خمسة أشخاص. وكان القطن المغموس فى الزيت هو مصدر الضوء، ويوضع بين اللاعبين والدمى. وقد تدهور حال دمى الخيال فى الفترات الأخيرة، فكان حسن خنوفة يصنعها من الكرتون المصمت ودون ألوان. ◄ ترفيه وتثقيف من أشهر البابات فى تاريخ خيال الظل «المنارة القديمة» و«عجيب وغريب» و«الشيخ صالح وجاريته السر المكنون» و«علم وتعادير» و«الشيخ سميسم» و«العامل المجنون» و«الأولانى» و«المعركة البحرية بين النوبيين والفرس» و«حرب السودان» و«واقعة البلح والبطيخ». وتعتبر بابة «الصياد» لحسن خنوفة تجميعا لعدة بابات تراثية. وقد سبقت بابة «علم وتعادير» المسلسلات المعاصرة، حيث كانت تعرض فى سبع حلقات على سبع ليالٍ. وهى أكبر البابات المعروفة، وكانت تضم 160 قطعة من بشر وحيوانات وأشجار ومبانٍ. وتدور حول تاجر بغدادى يدعى «تعادير»، يسافر إلى الشام، فيقع فى حب «علم»، التى تقيم فى الدير مع أبيها وأخيها. وبين الصعاب والمكائد تمضى الأحداث إلى أن يصاب بالجنون، ويمكث سبع سنوات فى البيمارستان، حتى يعالج، ويخرج ويتزوجها. والراجح أن خيال الظل انتقل عبر مصر إلى الأتراك، ومنهم إلى اليونان فى القرن الثامن عشر، ثم إلى أوروبا. كما لا يزال قائما بالصين، ويعرف باسم «مسرح بى ينج». ومنه نوع يسمى «دونج تونج»، وله أشباه أيضا فى الهند وإندونيسيا.