نقترب من لحظة حاسمة فى التاريخ السياسى الأمريكى؛ لحظة قد تُحدّد مصير السياسة العالمية لعقدٍ قادم.. ففى الخامس من نوفمبر الجارى عندما يتجه الناخب الأمريكى إلى صناديق الاقتراع للاختيار بين كامالا هاريس، مرشحة الحزب الديمقراطى، ودونالد ترامب، مرشح الحزب الجمهورى، وفى قلب هذا السباق تقف ملفات الشرق الأوسط، خاصة الحرب التى تشنها إسرائيل على الأبرياء العزّل من أبناء قطاع غزة ولبنان، فى معركة مفتوحة لاستعادة هيبة الأمن المفقود والوصول لنقطة الردع والتلويح بقدراتها على التدمير والتمرد على منظمات المجتمع الدولى وقوانينه بحماية أمريكية كاملة ودعم لا محدود من البيت الأبيض وساكنه. على مدار أربع سنوات كان ترامب حاضرًا فى المشهد السياسى الدولى والأمريكى رغم خروجه من السباق فى 2020 خاسرًا غير أنه لم يعترف، بل ولم يقبل هذه الخسارة، واتهم الانتخابات بالمزورة، وتعرَّض بسبب ما ارتكبه أنصاره من اقتحام الكابيتول وإثارة الفوضى، فضلًا عن احتفاظه بعدد من الوثائق الرسمية، لمحاكمات وطاردته 34 لائحة اتهام. عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تعنى عودة السياسة غير التقليدية التى تخلط بين القوة المفرطة والبرجماتية فى فترة رئاسته الأولى، دعّم ترامب التحالفات التقليدية فى الشرق الأوسط بقوة، لكنه فى المقابل لم يتردد فى اتخاذ خطوات غير مسبوقة مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان. ترامب يُجيد لعب دور الرجل القوى الذى يعد بإعادة الاستقرار، ويدّعى أنه لو كان فى السلطة لما وصلت الحرب إلى هذا الحد..تصريحات مثل هذه قد تكون لها صدى إيجابى بين بعض القادة الإقليميين الباحثين عن حلول سريعة، لكنها قد تعنى أيضًا سياسات تهدف إلى فرض الأجندات الأمريكية دون اعتبار للمصالح المحلية. على الجانب الآخر، كامالا هاريس تُمثل وجهًا جديدًا للديمقراطيين، وجهًا يحمل فى طياته مزيجًا من الالتزام بالقيم الليبرالية والرغبة فى بناء التحالفات الدولية، وجهًا أعاد الأمل للديمقراطيين فى المنافسة وحظوظًا كبيرة بالفوز على ترامب لم تكن قائمة مع ترشح بايدن، إذا فازت هاريس قد تشهد السياسة الخارجية الأمريكية تحولًا نحو الدبلوماسية وتعزيز دور الولاياتالمتحدة كوسيط نزيه فى النزاعات الإقليمية. هاريس تسير على خط رفيع بين دعم إسرائيل وإدانة الخسائر البشرية فى الجانب الفلسطينى، وهو نهج يثير الجدل ويضعها تحت مرمى النيران السياسية، مواقفها الأخيرة حول الأحداث فى غزة أثارت تفاعلًا واسعًا، بما فى ذلك انتقادات من شخصيات بارزة فى السياسة الإسرائيلية، هى لا تُريد أن تكون مجرد تابعٍ لبايدن وإن كانت نائبته لأربع سنوات.. مثل هذه المواقف تعنى أن هاريس قد تسعى إلى اتباع نهج دبلوماسى أكثر توازنًا، لكن بشروط صارمة تتعلق بالسياسات الحقوقية. فى ظل هذا الصراع على البيت الأبيض، أعتقد أن مصر مستعدة لمواجهة تحولات السياسة الأمريكية التى قد تؤثر على ملفاتها الإقليمية والمحلية.. ترامب قد يُعزز من التعاون فى مجالات مثل مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن الإقليمى، لكن نهجه غير المتوقع قد يضع القاهرة أمام تحديات جديدة، خاصة فى الملفات الاقتصادية وحقوق الإنسان، ويظل التقدير الذى أعلنه ترامب من قبل للقيادة السياسية المصرية أحد المعايير الحاكمة فى التفاهمات المنتظرة فى القضايا محل الخلاف، ويتعاظم حجم التفاهمات بعد ما حققته مصر خلال السنوات الماضية، على مسار الانفتاح فى المجال العام (الحوار الوطنى) وما تبعه من استجابات رئاسية سريعة تمثل فى تفعيل لجنة العفو الرئاسى لبحث وتدوين كل ما يتعلق بملف الحبس الاحتياطى والإفراج عما يزيد على 2000 منهم وتعديل قانون الحبس الاحتياطى فى القضايا السياسية والجنائية، وفى مجال الحقوق الاقتصادية (مبادرة حياة كريمة، وتكافل وكرامة، وغيرها من حزمة الإجراءات للحماية الاجتماعية). أما هاريس، فقد تحمل فرصًا لتعزيز الشراكة فى مجالات التنمية المستدامة والمشاريع البيئية، كما أن إدارتها قد تتجه نحو حلول دبلوماسية للنزاعات فى المنطقة، مما يعنى أن مصر ستكون حاضرة وبرغبة أمريكية للعب دور الوسيط فى النزاعات مثل القضية الفلسطينية، وغيرها من القضايا والصراعات، وهو دور لطالما تميزت به مصر فى العقود الماضية، لما تملكه من موثوقية فى الدور وعلاقات الصداقة التى تربطها بكل دول الإقليم، ولعل وجود هاريس فى المكتب البيضاوى جعلها تدرك جيدًا قدر مصر ومكانتها وأهميتها لتحقيق الاستقرار فى المنطقة. ما يضيف مزيدًا من التعقيد هو الوضع الداخلى فى الولاياتالمتحدة، حيث تتأثر مواقف المرشحين بمحاولتهم استقطاب أصوات الجاليات العربية والمسلمة، خصوصًا فى الولايات المتأرجحة مثل «ميتشيجان» فالحرب فى غزة أثرت بشكل كبير على هذه الجاليات، مما يجعل موقف مصر ودورها فى الأحداث محل اهتمام من قبل هذه المجتمعات ومنصات الضغط السياسى فى الولاياتالمتحدة. بين ترامب وهاريس، تظل ملامح السياسة الأمريكية القادمة غير واضحة تمامًا، لكن ما هو مؤكد أن أى تغيير فى الإدارة الأمريكية سيؤثر على الشرق الأوسط ومصر بشكل خاص، وأعتقد أن القاهرة بما تتبعه من سياسات مرنة ومواقف استراتيجية وعلاقات استراتيجية مع واشنطن تتيح لها التكيف مع أى تغيرات محتملة، وضمان مصالحها فى بيئة سياسية عالمية تتغير بسرعة، قادرة على صياغة التوازن المطلوب فى هذه العلاقة مع الدولة الأكبر والأهم فى العالم لحين إشعار آخر.