يترقب العالم بين لحظة وأخرى ضربة إسرائيلية على إيران ردًا على قصف بنحو مائتى صاروخ شنته طهران على إسرائيل فى الأول من أكتوبر الجاري، وقد أعلنت إيران إبان عمليتها أن قصفها على إسرائيل كان ردًا على اغتيال الاحتلال لزعيم حركة حماس إسماعيل هنية خلال زيارة لطهران فى 31 يوليو الماضي، وأيضًا اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله فى الضاحية الجنوبية ببيروت في 27 سبتمبر الماضي. التقارير كشفت عن كواليس اتخاذ ذلك القرار وكيف أن انقسامًا حدث داخل أروقة الساسة فى طهران بين من يؤيدون الرد على استفزازات إسرائيل وأولئك الذين كانوا يفضلون النأى ببلادهم عن التهورات الجنونية لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، والذى لطالما حلم بدخول حرب ضد إيران بمساعدة أمريكية. وكشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نقلًا عن مصادر إيرانية أن مناقشات ساخنة جرت بين قادة الحرس الثورى من جهة وبين فريق سياسى من المرشد الأعلى على خامنئى والرئيس مسعود بزشكيان ووزير الخارجية عباس عراقجى من جهة أخرى، تمكن فى نهايتها الحرس الثورى من إقناع هؤلاء بأهمية وضع حد للاستفزازات الإسرائيلية. واقترحوا أن عدم الرد على تل أبيب سوف يشجعها على التمادى فى إلحاق أضرار بالبلاد على كافة الأصعدة، لكن إسرائيل لم تكن فى حاجة بالفعل لمزيد من الأسباب لإلحاق الضرر بإيران. ■ بايدن ◄ حدث كاشف وكان ما حدث بالفعل فى الأول من أكتوبر يبدو كاشفًا لحسابات الجميع.. ففى أعقاب قصف إسرائيل مبنى قنصليًا إيرانيًا فى دمشق فى أبريل الماضي، ردت إيران بقصف شنته للمرة الأولى على داخل أراضى إسرائيل.. لكن رغبتها الأكيدة فى عدم انفلات الأمور أجبرها على الالتزام ب«الإبلاغ المسبق عن الرد» مما سهل من عملية اصطياد هذه الصواريخ المتوجهة نحو تل أبيب من قبل الجيش الأمريكي، لكن فى عملية القصف الأخيرة، كان الأمر مختلفًا.. فالولاياتالمتحدة لم تتصد للصواريخ الإيرانية على الفور وتركتها تنهمر على أنحاء مختلفة من إسرائيل على مرأى ومسمع من العالم، وقد سجل الإسرائيليون بكاميرات هواتفهم اللحظات غير المسبوقة. ونقلت «سى إن إن» لاحقًا عن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بات رايدر أن مدمرات البحرية الأمريكية المتمركزة فى شرق البحر المتوسط أطلقت ما يقرب من «12 صاروخًا اعتراضيًا» ضد الصواريخ الإيرانية التى أطلقت باتجاه إسرائيل. كما ظهر بيان للبيت الأبيض يؤكد فيه الرئيس جو بايدن «استعداد» أمريكا لمساعدة إسرائيل، وذلك بعدما كانت موجتان صاروخيتان قد وصلتا بالفعل إلى أراضى إسرائيل. ■ ترامب ◄ تأخر الرد أما عن تأخر الولاياتالمتحدة فى الرد، فيبدو أنه على سبيل تذكير من واشنطن لنتنياهو بأن الحماية الأمريكية له محورية فيما يتعلق بالمواجهة مع إيران، وأنه لا يجب أن يقوم بأى استفزازات او خطوات متهورة على صعيد المواجهة مع إيران من دون موافقة والتنسيق مع الولاياتالمتحدة، وفى كل الأحوال، لا ترغب واشنطن فى فتح جبهة عسكرية فى الشرق الأوسط تكون فيها طرفًا قبل انعقاد الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى 5 نوفمبر المقبل. وكان هذا الأمر ما كشفت عنه صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية فى وقت سابق، عندما ذكرت فى تقرير أن الولاياتالمتحدة تقول لنتنياهو فى الواقع: سنقدم لك كل ما تحتاجه من حيث الدفاع، لكنك ستتجنب توجيه ضربة استباقية لإيران، وإذا هاجمت إيران وحزب الله، فإن إسرائيل ستكتفى برد متناسب، بحيث لا يؤدى إلى حرب إقليمية. وبحسب الصحيفة، فإن إدارة جو بايدن- كامالا هاريس لا تريد عودة الجنود الأمريكيين إلى ديارهم فى توابيت إذا ما اندلعت حرب إقليمية. وأوضحت الصحيفة أن «الأمريكيين هم من يقودون ويحددون حدود القطاعات وتقسيم العمل فى كل ما يتعلق بالدوائر الثانية والثالثة خارج حدود إسرائيل، كما هو الحال فى العراق واليمن وشرق سوريا والأردن. وقد تقرر هذا التقسيم فى بداية الحرب عندما نشر الأمريكيون مدمرات وصواريخ اعتراضية فى البحر الأحمر قبالة اليمن وخليج عمان مقابل إيران ووضعوا أسرابًا قتالية فى حالة تأهب فى قواعد مختلفة فى جميع أنحاء الشرق الأوسط، والتى يحرص الأمريكيون والجيش الإسرائيلى على عدم تسميتها. والهدف هو تقسيم جغرافى للعمل فى اكتشاف واعتراض أى شيء يطير فى الهواء باتجاه إسرائيل، ومن ثم فكان تأخر أمريكا فى التدخل لصد الصواريخ الإيرانية فى الأول من أكتوبر، تذكيرًا منها لإسرائيل بعدم التهور والمضى قدما فى استفزازات لن تؤدى إلا لمخالفة اتفاق واشنطن وتل أبيب بشأن عدم التصعيد قبل الانتخابات الأمريكية. ■ بوتين ◄ حسابات معقدة وفى السياق ذاته، يمكن النظر إلى احتمال تغاضى واشنطن عن التسريبات الأخيرة بشأن استعدادات إسرائيل للرد على إيران، وهى تسريبات، اعتبر محللون أنها تصب فى صالح تأخير وإرجاء أى عملية إسرائيلية محتملة لبضعة أيام أخرى عن موعدها المحدد سلفًا. فقد كشفت التسريبات تقديرات استخباراتية أمريكية عن الإجراءات التى تم تنفيذها فى الأيام الأخيرة فى عدة قواعد جوية إسرائيلية، بما فى ذلك نقل ذخائر متقدمة مخصصة لمهاجمة إيران. أما إيران فحساباتها أكثر تعقيدًا.. وبالعودة إلى كواليس قرار القصف الصاروخى على إسرائيل فى الأول من أكتوبر، يمكن بوضوح استنتاج فحوى تلك المناقشات بين الأطراف هناك. أما الفريق الذى يوجد به الرئيس الإصلاحى بزشكيان ووزير خارجيته مع المرشد الأعلى فيبدو جليا عدم رغبتهما فى أن تستدرج بلادهم إلى الفخ الإسرائيلى اذ تريد تل أبيب التصعيد معها فى مواجهة مدمرة مع إدارة أمريكية ضعيفة سياسيًا الآن. وربما يتساءلون: لماذا التصعيد والرد على استفزازات إسرائيل بينما فى المقابل توجد إغراءات غربية وفرص دبلوماسية على انفتاح الغرب مع إيران مقابل عدم التصعيد مع إسرائيل والتغاضى عن استفزازاتها؟ ■ هاريس ◄ الحساب أما الجانب الآخر، فربما رأى أن إيران -بعدم ردها على اغتيال هنية ونصر الله- ربما تخسر حلفاءها الإقليميين تباعًا، ومن ثم تتآكل جبهاتها الدفاعية الأولى ضد إسرائيل.. كما أن عدم ردها على إسرائيل قد يشجع تل أبيب المتهورة على مزيد من الاستفزازات المؤلمة لطهران.. ومن ثم فيجب على إيران أخيرًا بناء قوة الردع اللازمة لوقف هذه الجولة الجهنمية من التصعيد.. ووسط المناقشات المحتدمة اتخذ قرار القصف الصاروخى على إسرائيل والذى استخدمت فيه للمرة الأولى صواريخ فرط صوتية استهدفت مواقع عدة. لكن الحسابات لا تقتصر على هذه الأطراف المباشرة فى المواجهة.. فروسيا، الحليف المهم لإيران، قد وجدت لها مقعدًا على طاولة الأحداث. ولا يخفى عمق التعاون العسكرى والاقتصادى والسياسى بين روسياوإيران. وفي أغسطس الماضي، صرح الرئيس الإيرانى بزشكيان بأن الإيرانيين يعولون على روسيا فيما تتصاعد المخاوف من اندلاع «حرب شاملة» فى الشرق الأوسط. وقال بزشكيان لسيرجى شويجو، سكرتير مجلس الأمن الروسي، الذى كان يزور طهران إن «روسيا من الدول التى وقفت إلى جانب الأمة الإيرانية فى الأوقات الصعبة». مضيفًا أن المواقف المشتركة بين طهرانوموسكو «فى دعم عالم متعدد الأقطاب ستؤدى بالتأكيد إلى مزيد من الأمن والسلام العالميين». وقبل أيام، اجتمع الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» بنظيره الإيرانى بزشكيان فى لقاءٍ تاريخى انعقد على هامش تجمع لقادة آسيا الوسطى فى تركمانستان. والواقع أن التقارب الإيرانى الروسى يثير حالة من القلق المتزايد فى الغرب، الذى يُخشى من إمكانية تناقل التكنولوجيا العسكرية الحساسة بين البلدين، بما فى ذلك تكنولوجيا الأسلحة النووية. كما أن التقارير كشفت سعى إيران لتعزيز قدراتها العسكرية من خلال الحصول على أنظمة دفاع جوى متطورة من موسكو. وأشارت تقارير أخرى إلى أن إيران التى أرسلت بالفعل لروسيا صواريخ متوسطة المدى فى إطار قتال روسيا فى أوكرانيا، بدأت بالفعل فى تسلم منظومة إس 400 الروسية. ◄ أطراف أخرى وإبان قصف إيران على إسرائيل فى الأول من أكتوبر، كان وزير الدفاع الأمريكى قد دعا ما أسماه «أطرافًا أخرى» بعدم التدخل فى الصراع، وفقا لما نقلت عنه تقارير إعلامية، فى إشارة واضحة إلى موسكو، وبحسب تحليل نشرته «بى بى سي»، يرتبط التعاون فى التكنولوجيا العسكرية والتعاون العسكرى بين طهرانوموسكو، بالحرب فى أوكرانيا – التى بدأت فى 2022 – كما أن له صلة بالضربات الإيرانية التى وجهت إلى إسرائيل، والتى يمكن أن تتصاعد إلى صراع واسع النطاق فى المستقبل القريب. ومما سبق يمكن استنتاج الدور الروسى فى دعم إيران فيما سبق وفيما هو لاحق.. بل ربما يظهر فى أقوى حالاته فى الفترة القادمة. وقد يكون هذا الدعم ما استند عليه الحرس الثورى فى إقناع الفريق السياسى فى طهران بالتصعيد أمام إسرائيل، ظنًا منه أن روسيا لن تدعم إيران فقط من أجل شراكتهما السياسية والاقتصادية والعسكرية.. إلخ، بل لأن دخول روسيا طرفًا داعمًا مباشرًا فى حرب بين إيران وإسرائيل المدعومة من أمريكا هو أيضًا فى الصالح الروسي. ◄ السؤال المهم والسؤال الأبرز: كيف يكون تدخل روسيا فى حرب بالشرق الأوسط فى صالحها، وللإجابة على هذا السؤال يجب العودة إلى الملف الأوكراني، حيث يوجد هناك حرب لا فائز فيها منذ فبراير 2022، تستنزف الجبهة العسكرية الروسية، مقابل مدد غربى لكييف لا ينضب. وروسيا التى تنتظر بفارغ الصبر نجاح دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية حيث يعد بإنهاء حرب أوكرانيا «فى 24 ساعة»، تخشى جليًا من فوز هاريس فى المقابل، والتى ستمثل إدارتها استمرارية لسياسات إدارة جو بايدن الداعمة لكييف، وتريد تأمين نفسها فى حال فازت هاريس، وربما تجد موسكو فى دعم ضخم لإيران فى مواجهة مستعرة ضد إسرائيل - ورقة تفاوض محتملة ومستقبلية بين موسكووواشنطن تطالب روسيا فيها بإنهاء الدعم الأمريكى لكييف مقابل توقف موسكو عن دعم إيران. ولا يخفى ذلك عن أمريكا.. فتصعيد إسرائيل فى الشرق الأوسط يعرض بالفعل الولاياتالمتحدة لخسائر سياسية ودبلوماسية فضلًا عن احتمال التورط العسكرى المباشر. ولا يقتصر الأمر على الخوف من حجم الضربة الإسرائيلية المتوقعة، بل كذلك حجم ونطاق الرد الإيرانى عليها. وفى كل الأحوال لا ترغب الإدارة الأمريكية بما قد يشتت انتباه الناخب الأمريكى الآن ولا ترغب فى خسارة الاقتراع لصالح مرشح سيمحو كل ما حققته الإدارة السابقة.. وتريد إبقاء كل شيء على وضعه حتى إتمام الانتخابات.. لكن إسرائيل التى يقودها اليمين المتطرف والإرهابى لا هم لها فى النهاية إلا استغلال الظروف الراهنة وتوسيع الصراع فى المنطقة من أجل ترتيب أوضاع سياسية وجغرافية معينة.