نجهز حقائبنا كل يوم استعدادًا للنزوح وحلمنا الرجوع لمنازلنا أكباد فى غزة تمشى على الأرض، أطفال لم يسقط حبهم فى قلوب العالم بالتقادم، خطفت حرب الاحتلال نبض القطاع وفراشات مستقبله، ألقوا فى قلوب عدوهم الرعب بابتسامات بريئة، تمسكوا بأرض الأجداد.. حوصروا ثم جوعوا لكنهم قاوموا ثم حملوا أرواحهم على كفوفهم فداء فلسطين.. رجال لم يبلغوا الحلم بعد ووضعتهم الحياة فى أحلك اختباراتها.. فقدوا الأب والأم والأخ.. حرموا من التعليم لكن أناملهم لا تفارق حروف العربية. أطفال غزة حاولت أياديهم جمع الحروف وأطلقت لأقلامهم كتابة رسائل ل«الأخبار» عن جرائم الاحتلال.. كيف سرق تطرف بنيامين نتنياهو ومن حوله أحلامهم، ابتساماتهم ومستقبلهم، أطراف أجسادهم وحقهم فى الحياة، مدارسهم وفصولهم، بيوتهم ومدنهم، آباءهم وأمهاتهم، الأمن والأمان. يسأل صغار القطاع بأى ذنب قُتل أشقاؤهم؟، ومتى تضع الحرب أوزارها؟، وهل من سبيل للعودة إلى غرفهم أو التى كانت غرفهم؟.. رسائل أطفال غزة تشم فيها رائحة الموت وغبار المعارك وأحبار من الدم وصمود الأبرياء وأجساد نسيت طعم الخبز. اقرأ أيضًا| عز العرب: أمريكا كانت لديها خطة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد 11 سبتمبر سماء القطاع اكتست باللون الأحمر.. وزلزلة الأرض لا تتوقف العالم صامت على إبادتنا.. لم نعد نتحمل.. ونشتاق للطعام عائلة الشهداء بصعوبة يحاول قلم «ملك سكيك - 11 سنة» شق سنه فى ورقة بيضاء ليكتب عن لحظات الفزع والاستيقاظ من النوم فجأة على كتل خرسانية وأحجار متساقطة من حولها، وكاد معها قلبها يقفز أمامها من الرعب لولا صوت والدتها الذى طمأنها قليلا قبل أن تستمع لصرخات شقيقها الذى تعرضت رجله للكسر.. «سمعنا شخصين ونادينا عليهما وطالعونى أنا وماما وأخويا».. مشاهد مؤلمة لا تزال «ملك» تتذكرها جيدًا رغم مرور 11 شهرًا عليها، وتقول: «بعد دقائق جاء الدفاع المدنى وأخرجوا والدى الذى بدا غارقًا فى دمائه، وانتقلنا بعدها إلى مستشفى المعمداني. ودعنا 20 شهيدًا من عائلتنا». بكل اللغات صرخة «مالك - 13 سنة» شقيق «ملك» أطلقها بحروف إنجليزية إلى العالم، فيروى لحظات ما بعد قصف منزله، حين تشبث بالأمل لإنقاذه: «لم أعد قادرًا على تمييز أى شيء باستثناء أن قدمى كسرت. بعد إخراجى من تحت الأنقاض استعدت وعيى وأنا راقد على أحد الأسرة. لم يفارقنى الألم بعد سماع خبر استشهاد عائلتى بأكملها.. وتكررت آلامى من كسر قدمى لأيام طويلة.. وهذه معاناتى أنا وأسرتى المتواصلة.. إلى اللقاء». أين خالتى؟ بزهرة «وردية اللون» استهلت «جود - 11 سنة» رسالتها عن رحلة الاشتياق إلى القطاع قبل الحرب قادمة من الإمارات ليلتئم شقا العائلة فى الشمال، لكن العدوان سلب ضحكات الإجازة الصيفية وابتلع الأخضر واليابس.. استشهدت خالتها رنا وزوجها حذيفة وابنتهما ريم.. «ندعى ربنا ترجع حياتنا زى قبل». ولا يبتعد شقيقها «عدنان - 8 أعوام» كثيرًا عن كلمات شقيقته لكن مشاعر الخوف والجوع والحرمان من التعليم واحدة، والحروف تقاوم الخوف والكلمات تستجدى الحق فى الحياة والسطور لا تخلو من دماء العائلات. اشتاق إلى الجنوب تكاد سطور الطفل فادى تلتقط أنفاس الاشتياق إلى جنوب القطاع بعد أيام صعبة عاشتها أسرته، إذ «استشهدت عمتى وكثير من عائلتنا وكل أهلنا فى الجنوب. حوصرنا فى الشجاعية - حى شرق القطاع - واندلعت النيران فى دارنا. واليوم لا يزال هناك حاجز بين الجنوب والشمال». أحلام فادى لا تتجاوز الحق فى الطفولة كغيره من أقرانه «ما ذنبنا؟.. بدنا نعيش حياة حلوة ونلعب.. نفسى أرجع أتعلم وترجع غزة حلوة.. رأينا شهداء ودم كثيراً». لكن أكثر ما يخيف الصغير الفلسطينى هو قدوم الليل فمعه تزداد حدة القصف. ويختم بكلمات لأصدقائه فى الجنوب فيقول: «اشتقت إلى أصحابي، وأكثر واحد مالك، أتمنى أن نكون فى غزة نعيش فى حلم ونستيقظ منه على عودة كل شيء.. دارنا وألعابى ونعيش مع عائلتنا». بين ضلوعها تحمل «ديما سعد - 8 سنوات»، أحزاناً لو وزعت على أهل الأرض ما كفتهم: «ما أحد بخير.. ما عاد هناك أكل.. بدأنا سنة جديدة فى الحرب ولا نعلم أى شيء عن أصحابنا.. اشتقنا لأيام زمان.. نفسى أنام فى سريري.. نفسى أشوف تيتا (جدتي).. يا رب تخلص الحرب». الهروب بالنوم بلغة عربية فصحى وكتابة متقنة، انتقلت «سجى» من قتل توترها وخوفها بالنوم إلى «الورقة والقلم» فأقلام أطفال غزة لا تُرفع وصحفهم لا تجف... «اضطررنا إلى النزوح من بيتنا بعدما طالته قذائف المدفعية، وارتقى بعض أبناء جيراننا من تلك القذائف العشوائية التى تستهدف كل من هو فلسطيني. صوت طائرات الاستطلاع تضج بالأرجاء ما يزيد خوفى وتوتري. أحاول الهروب من كل هذا بالنوم لعل الأحلام تصادفنى فيحفنى الأمان». صار الرسم صديقًا مقربًا للطفلة الغزية: «تواسينى أقلام التلوين لترسم عالم الطفولة الذى طالما حلمنا به خلال هذه الأشهر من الإبادة.. واليوم وكما كل يوم ترتب أمى حقائبنا وتغلقها وتجمع أغراضنا لعلنا نضطر للنزوح مرة أخرى. لم تعد قدماى قادرتين على حملي.. أنهكت حقيبتى ظهرى من التعب والجوع. لم يعد الطعام موجوداً أصلا فى الشمال». رسالة مطولة أمسك «أمير - 11 سنة» الهاتف وأخذ يكتب رسالة مطولة تحمل تفاصيل الواقع وآلام الحرب، واستهلها بكلمات «إحنا آدميين زينا زى الناس. سماء غزة لا يروح منها الضوء الأحمر بسبب القصف. أخلينا بعد شهر من الحرب إلى مدرسة ومن مدرسة إلى دار ومنها إلى جمعية إلى دار سيدى لكن زلزلة الأرض لا تتوقف. حوصرنا وانقطعت المياه عنا. أحد جنود الاحتلال مسكنى وقعد يفتش فى ويخبط رأسى بالحيط وبعد ما خلص شاطنى برجله كأنى كورة.. ما سابوا النساء بحالهم وشلحوهم الحجاب كامل والرجال تم تجريدهم من الملابس.. حصار بالدبابات فى الشمال واستهتار بالأرواح وشظايا تتطاير بكل مكان. نناشد الإسعاف والصليب الأحمر وما من مجيب.. كل العالم ساكت على الإبادة. لم نعد نحتمل». أرقام مفزعة تقدر أرقام الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطينى عدد الأطفال الشهداء فى قطاع غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلى على القطاع فى أكتوبر من العام الماضى ب 16 ألفاً و927 طفلاً شهيدًا من أصل ما يناهز 42 ألف شهيد أى ما يزيد على ثلث القائمة. ولا يزال هناك 4700 مفقود من الأطفال أيضًا إلى الآن. وفى أبريل الماضي، أكدت إحصائية للجهاز أن قوات الاحتلال تقتل نحو أربعة أطفال كل ساعة فى قطاع غزة، فيما يعيش 43349 طفلاً من دون الوالدين أو من دون أحدهما فى وقت يشكل الأطفال نحو نصف المجتمع الفلسطيني. ويقدر إجمالى عدد الأطفال ما دون سن 18 سنة فى القطاع مليوناً و67 ألفًا و986 طفلا. وخلال العام 2020، كان هناك 26349 طفلاً فى العمر بين (0-17 سنة) أيتامًا (فقدوا أحد الوالدين أو كليهما) فى قطاع غزة، فى حين تشير تقديرات منظمة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسيف) إلى أن نحو 17 ألف طفل فى غزة أصبحوا أيتامًا بعد أن فقدوا الوالدين أو أحدهما منذ السابع من أكتوبر 2023، ويمثل كل منهم قصة محزنة عن الخسارة والفقدان. ويمثل هذا الرقم نحو 1 فى المائة من عدد النازحين، البالغ عددهم 1.7 مليون نازح فى قطاع غزة، ونتيجة لذلك فإنهم يعيشون أوضاعا صعبة جدًا وظروفًا استثنائية وليس لهم مأوى حقيقي، إذ يمكن أن يؤدى ذلك إلى تأثيرات سلبية عميقة فى الأطفال، بما فى ذلك تأثيرات نفسية واجتماعية، مثل الوحدة، وتدهور الصحة النفسية، وضعف التعلم والتطور الاجتماعى. ممنوع من النشر أحلام.. ربما تكون أوراق كثيرة أبت أن تتحمل أمانة كلماتها، لكن الأقلام فى النهاية انصاعت لأصحاب الحق وكانت أحن على أطفال غزة من قاتليهم. رسائل من قلب القطاع تشم فيها رائحة الموت وتسمع بين سطورها أنين الجرحى، ماضى غزة القريب وحاضرها فى عصر الذكاء الاصطناعى باتت الورقة والقلم حقا غائبا كأرض القطاع المسلوبة بصعوبة حاول هؤلاء الأطفال تدوين تلك الكلمات. سطور كتبت ممهورة بالاسم الأول فقط لكل طفل وفى إحدى الرسائل نسى أحدهم وكتب اسم والده قبل أن يتذكر خطورة ذلك على حياته وأسرته فشطب اسم الأب قبل إطلاق الرسالة.. ستجد أيضا أن آلام الحصار والفراق لم تسلب هؤلاء الصغار إنسانيتهم فاستهل بعضهم كلماته بورود مرسومة بخط اليد وكأن الرصاص تقابله الورود.. هذا الورد الفلسطينى الذى فتح فى حقول غزة «شاب» فى عمر ما قبل البلوغ وبات مدركا لمصطلحات الحروب التى تفرد لها وسائل الإعلام مساحات لشرحها فهذه تكتب عن المسيّرات وتلك تتحدث عن الأحزمة النارية. (الأخبار) حرصت من جانبها على تجنب نشر أى صور تخص هؤلاء الأطفال حرصا على سلامتهم؛ إذ إن مسيرات الاحتلال لا تفرق بين مدنى ومقاوم، صغير وكبير فآلة الموت الإسرائيلية الغاشمة متعطشة للدماء.. تلك الصور ممنوعة من النشر بأمر الإنسانية الصحفية.