أثار القرار المتوقع من البنك الفيدرالي الأمريكي منتصف شهر سبتمبر بخفض الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية إلى 4.75 - 5% وهي النسبة الكبيرة نسبياً والمتأخرة كثيراً وفق رأي الكثير من الخبراء، ردود أفعال واسعة على كافة المستويات وفي كافة الدول في القارات الخمس. وأود التأكيد على كلمة (كافة) لتشمل جميع الدول والأنظمة المرتبطة ارتباطاً مباشراً بمنظومة الاقتصاد الأمريكي بصفة خاصة والغربي الرأسمالي بصفة عامة وأيضاً الدول التي تعمل بمنظومات شبة مستقلة مثل دول "البريكس" وعلى رأسها "روسيا" و"الصين" و"الهند" وهذا التأكيد مرجعه ما لمسته من محاولات البعض في التعامل مع بعض الاقتصاديات (الدول النامية) وكأنها حالة فريدة وأنها الاقتصاديات الوحيدة التي تنتظر هذه القرارات، وهذا على عكس الحقيقة ويهدف لأغراض أخرى، فالعالم كله يتأثر بجميع القرارات الاقتصادية الأمريكية، فالاقتصاد العالمي هو اقتصاد أمريكي الفكرة والنشأة منذ اتفاقيات "بريتون وودز" عام 1945، فمنذ هذا التاريخ أصبح النظام النقدي الأمريكي نظاماً عالمياً وتأكد ذلك مع صدمة نيكسون 1971 وفك ارتباط الذهب بالدولار ودخول عصر البترودولار ليصبح الدولار هو عملة العالم والمسئول عن رسم سياساته النقدية والتي تحدد بالتالي عملياته ومنظومته التجارية والاقتصادية. وبصفة عامة فإن من المؤكد أن هذا القرار له العديد من الآثار الإيجابية التي لا يمكن تجاهلها والتي تشكل فرص يجب استثمارها منها تخفيض الضغوط على سعر الصرف ولو فترة بسيطة مما قد يحد من ارتفاع سعر الدولار أمام أسعار عملات الدول النامية لبعض الوقت هذا بالإضافة إلى الآثار غير المباشرة على أسعار الوقود والمواد الغذائية خاصة وأن معظم الدول النامية هي من الاقتصاديات الشرهة استيرادياً وبالتالي فان سعر الدولار يؤثر تأثيراً مباشراً على هياكلها التمويلية. وحتى أسعار الذهب عالمياً ومحلياً من المتوقع وبحكم أنه من الأصول الآمنة أن تشهد ارتفاعاً ملحوظا لأنه يظل البديل الأكثر أمانًا مع انخفاض تكلفة الفرصة البديلة للاحتفاظ به بعد انخفاض أسعار الفائدة وهو ما ينسحب على سعر الذهب في الاقتصاديات النامية بالتبعية. وأيضاً هناك تأثير على الاستثمارات الأجنبية المباشرة وإن كان يظل محدوداً جداً مقارنة بالآثار على الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة أو ما يعرف بالأموال الساخنة في البورصات والسندات المحلية والتي من المتوقع أن تشهد تحسناً كبيراً جداً خلال الفترة القادمة، ولكنها تظل تحمل مخاطر عالية في ضوء سوابق وطبيعة عملها المسببة لتفاقم الأمور وبيان الأزمات والأوقات الصعبة كما حدث سابقاً في العديد من اقتصاديات الدول النامية وقت الأزمات. ويوفر قرار خفض الفائدة الأمريكية فرصة جيدة لتقليل الأعباء المالية المتعلقة بخدمة الديون ذات الفوائد المتغيرة وتخفيف عبء الفائدة على الديون الخارجية وخفض تكاليف الاقتراض بصفة عامة. هذه الفرص والإيجابيات التي يرتبها قرار الفيدرالي الأمريكي خاصة مع خطته المعلنة باستمرار الخفض حتى نهاية 2025 تشكل في الوقت نفسه فخاً للاقتصاديات النامية لأن الكثير منها اتجهت منذ أزمة كورونا وتداعياتها والحرب الروسية الأوكرانية وآثارها الممتدة تنفيذ سياسات اقتصادية جيدة تسعى لتعزيز جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة ودعم قطاعات الانتاج المحلية وفتح المجال للقطاع الخاص وتخارج الحكومات من النشاط الاقتصادي وقد قطعت شوطاً لا بأس به والفخ هنا ان تبدأ مرة اخري في الاعتماد علي مسكنات ايجابيات خفض الفائدة علي حساب الاستمرار في تنفيذ سياسات الاصلاح الهيكلي لان الاخيرة ورغم قسوتها هي الخيار الافضل والاكثر استدامة وكلما تأخرت كلما ارتفعت تكلفة تنفيذها من جديد او اعادة تفعيلها وتسريع تنفيذها مرة أخرى. فالواقع أن أغلب مشكلات هذه الاقتصاديات سواء معدلات التضخم المرتفعة او معدلات الديون العالية والبطالة والنمو ترتبط بمشكلات داخلية وعوامل تخص كل منها وفق مقومات اقتصادها وموقعها من التغييرات الجيوسياسية وآثارها الاقتصادية. لذلك أحذر وبشدة من الوقوع في فخ الراحة المؤقتة بفعل إيجابيات محدودة لقرار خفض الفائدة الأمريكية والتي من المتوقع أن تشهد المزيد من الخفض على مراحل متتالية حتي نهاية عام 2025 على حساب تنفيذ مسار الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية في الاقتصاديات الناشئة وفق ظروف ومقومات كل منها.. فلنأخذ الفرص ونحذر من الفخ!