1 من أنا؟ ... أنا الرجل الموجود في كل منزل، الرجل الذي وهب نفسه و عمره و عافيته كي يبقى هذا المنزل قائماً صامداً في وجه عواصف الحياة. أكتب اليوم لكم أنتم، أنتم الأبناء أولاداً و بناتاً، رجالاً و نساءً، اليوم سوف أصحبكم في رحلتي بسرعة لن تتخيلونها، سوف أختصر السنوات الطوال في وريقات معدودات. أبنائي و فلذات أكبادي، عندما كنت شاباً صغيراً لم أتزوج بعد، كنت مختلفاً تماماً عما أنا عليه اليوم، لا أقصد الشكل و المظهر و لكن أعني الطباع و السلوك، و رغم ذلك يحق لي أن أقول أنني كنت شاباً وسيماً يفيض بالحيوية و القوة، كنت مرحاً ضاحكاً طوال الوقت، لم يهزمني الحزن أبدا، لم يعرف الخوف طريقه إلى قلبي، لم تعن لي المخاطر أي شئٍ، كنت ببساطة و لازلت محباً للحياة. حظيت في حياتي بمغامرات كثيرة، خضت أحداثاً خطيرة، كان قلبي قوياً كالحديد لا أهاب شيئاً، عرفت الحب في شبابي مراتٍ و مرات، سعيت له حيناً و سعى لي كثيراً، سمعت من كلمات الحب ما يسعد قلب أي شاب و أي رجل، أحببت من قلبي و نلت في المقابل حباً لا يمكن أن أصف حلاوته و سعادةً لا يمكنني أن أضع لها حدودا. لكن الحب لا يصمد أحياناً في وجه الظروف و العقبات، صُمت عن الحب كثيراً حتى رأيت والدتكم، أحببتها من أول نظرة و بادلتني حباً بحب كأننا خلقنا لبعضنا البعض، تزوجتها و عشت و لا زلت أعيش معها أجمل اللحظات. لم أكن أعرف أن الزواج سوف يغيرني إلى هذا الحد، لا أتحدث عن الالتزامات رغم صعوبتها و ثقلها، و لا عن تقلص مساحة حياتي الخاصة، و لا عن التكيف مع طباع شريك الحياة ، كل هذه أشياءٌ مقدورٌ عليها، و لكن فجأة و بلا مقدمات أصبحت أقل إقداماً و أقل تهوراً و أقل خوضاً في المغامرات ... أقل و لكن بالطبع لم يخل الأمر من بعض التهور أحياناً. اكتشفت بعد الزواج أن هناك من له حقوق في نفسي و يشاركني فيها.. والدتكم التي وهبت حياتها لنا كانت أولهم ، لم يعد بمقدوري أن أقول إنني حرٌ أفعل ما أشاء، هذه رفاهية كبيرة لم تعد من حقي. لكني كنت واهم أيضا عندما صدقت فكرة المشاركة ، فعندما ولدتك أمك أيها الكبير المتمرد دوماً، اكتشفت أن الأمر لم يعد مشاركة أو حق لكم في، لا .. الحقيقة أنه لم يعد لي أي حق في نفسي، إنزعجت ثم قبلت على مضض فتعايشت ثم وقعت في الفخ الذي لافكاك فيه فأصبحت في ذيل قائمة الأولويات بإرادتي الحرة . إنني أجلس الآن في هذا الركن البعيد في منزلنا الذي يجمعنا سوياً، أجلس طلباً للهدوء، أسترجع أجمل الذكريات على نغم أصواتكم و أصوغ لكم حكاية ما مر من أيام و ما هو قادم لسنين طوال بإذن الله ... ستعيشون و تفهمون و تدركون ، من هذا الركن سوف أخبركم عن مستقبلكم أن أردتم. 2 لم أعتد رائحة المنزل بعد، لقد تغيرت رائحته بعدما رُزقنا بأخيكم الأكبر، رائحة بودرة التلك و زيت جونسون و شامبو الأطفال، و أشياء أخرى كثيرة لا أذكرها، كما تغيرت المتطلبات، كثير من الحفاظات التي مثلت وحدها ميزانية كبيرة قدمتها على غيرها من الاحتياجات باعتبارها من الأولويات. لقد عرفت أسماء خوافض الحرارة و مهدئات المغص و مشروبات التليو و اليانسون و الكراوية و النعناع، صرت صديقاً لطبيب الأطفال ، الرجل الطيب الصبور الذي يحتوي هلعنا أنا و والدتكم كلما تعرض أحدكم لأقل عارض صحي. كانت أمكم قد تركت العمل و تفرغت لكم، و أصبح علي أن أختشي على دمي .. نعم أختشي على دمي، فقد أصبح الاهتمام حكراً عليكم يا أبنائي الأعزاء... ماذا كان بيدها لتفعله سوى أن تكرس نفسها لكم. هل تعرفون أن النوم صار عزيزاً لسنوات، و انقلب الليل نهاراً و النهار ليلاً للجميع، عداي أنا فقد انقلب ليلي نهارا و بقي نهاري نهارا، أذهب إلى العمل مسهد العينين بالكاد أستطيع أن أستجمع بعض طاقتي لأداء العمل الذي كان ينتهي في ساعات الليل الأولى. لم يكن الأمر يمر هكذا دون أن أنال مكافآة شبه يومية، فتارة أستقبل إبتسامة بريئة من ثغركم فتنفرج أساراري و ينشرح قلبي، و تارة تنطقون بكلمات غير مفهومة نحاول أن نفك طلاسمها، و تارة نصبح أشد حماسة من مشجعي الكرة عندما تخطون خطواتكم الأولى و أنتم تسيرون مترنحون فاردون أذرعتكم كطيرٍصغيرٍ يحاول أن يحلق في سماء عالمه المحدود. كنت حينها أسئل نفسي عن الزمن الطويل الذي سوف أقضيه في الانتظار حتى تشبون عن الأرض و تسيرون إلى جواري و أستطيع أن أتحدث إليكم كما كنت أرى الآباء يتحدثون إلى أبنائهم و بناتهم و يتبادلون معهم الرأي و يسعدون بصحبتهم. الحقيقة إنني كنت أريدكم أن تكبروا بسرعة حتى تخمد مخاوفي الكبيرة، كنت أريد أن أطمئن، أريد أن أشعر بطعم راحة البال، كنت أريد أن أجد حولي شباناً أقوياء لا يعتريني القلق و لا الخوف عليهم. كنت واهماً يا أبنائي..واهماً جداً، فكلما كبرتم كلما كبرت معي مخاوفي، و كلما كبرت مخاوفي شعرت بالضعف، نعم فالخوف ضعف يا أحبابي، ألم تروا الآباء الأقوياء يصبحون مثال الضعف مع أبنائهم، هكذا أصبحت و أصبح الخوف رفيق لي، تكبرون و تتسربون من بين أناملي القابضة عليكم، تذهبون و تجيئون و تسخرون من وصايا الأب الذي يحاول جاهداً أن يتصنع القوة و الثبات، هذا الأب الشارد المتقلقل في مقعده في انتظار العائد من الدرس و العائدة من الكلية و العائد من نزهة مع أصدقائه. لقد أصبح الهاتف المحمول رفيقي، أتصل عشرات المرات أثناء العمل، أقطع اجتماع كي أتلقى اتصالاً من والدتكم ، أنفض يدي من مذكرات و تقارير كي أتصل بها، من عاد و من تأخر و من تناول طعامه و من يدرس دروسه، كنت كالطلع المنثور في حقل حياتكم، هذا الطلع الذي ينثره الهواء من علياء النخيل الباثق، أما بالنسبة لي كان هذا الطلع ينثره الخوف و القلق طوال الوقت، هل كنت مبالغاً، ربما و لكن هذا أنا و هذا ما جعلني لصيقاً بكم و إن باعدت بيني و بينكم المسافات. و كشأن كل المتمردين الصغار، كنتم متذمرون من كل هذه الحماية و لكن مالا تعرفونه أني كنت و لازلت أظن إنني لم أكن لصيقاً بكم بقدر كاف. في هذا الركن الذي أجلس فيه، كنت أنزوي كي أخفي قلقي و توتري عنكم حتى يعود الغائب، حتى يشفى المريض، حتى تنبسط أسارير الغاضب، كنت أجلس كما لو لم يكن هناك أي شئ يزعجني، كنت أجلس حتى أعود إليكم و أنا متبسم و إن خانتني تعابير وجه 3 لم يكن لدي أدنى شك أن أفضل و أقيم ما أقدمه إليكم هو حبي لوالدتكم، نعم أحببت والدتكم و قدرتها دوماً حتى تحظوا بحياة هانئة، لقد كانت تستحق حبي و تقديري فقد كرست حياتها من أجلكم و تفانت في خدمتنا جميعاً، ربما لن تدركوا الآن أثر هذا الأمر على حياتكم، لكن من الواجب أن ألفت انتباهكم إلى أن الهدوء و السكينة اللذان ميزا حياتكم كانا من أثر هذا الحب. لكن هل كان الحب وحده هو ما جعل من بيتنا سكنا، كثير من البيوت ليست سكنا، فالسكن تشعر فيه بالطمأنينة و الراحة و السعادة، الحب هو أحد الأسباب و لكنه لا يكفي بذاته، لقد كانت هناك تضحيات كبيرة، نعم تضحيات من والدتكم و مني، كنا قادرون على التنازل و التساهل في مواقفنا، كنا قادرون على قبول الاختلافات التي بيننا، كنا مدركين أن الخلافات يجب ألا تطول عن فترة عزلة لا تتخطى سويعات قليلة. كانت خلافاتنا متوارية خلف الأبواب المغلقة، و إن بدت لكم دون قصد فلم تكن سوى صمت بسيط، كنتم تدركون من الصمت الهادئ أن هناك شئ ما، فأنتم لم تعتادوا على صمتنا للحظات، حرصت والدتكم كما حرصت أنا على ألا تكونوا طرفاً في خلاف مطلقاً، و لا أن تتخذوا صف أياً منا .. على كل حال لم تكن هناك فرصة لكم لتتدخلوا ، فخلافاتنا كانت كقطعة ثلج صغيرة متروكة تحت الشمس. هكذا ساد الحب بيننا جميعاً، و لكن أمكم حظيت بأكبر مساحة حب في نفوسكم، نالني بعضه و لكنني لم أتلقى ذات الإقبال و الانفتاح الذي نالته أمكم من جانبكم، لم يزعجني هذا الأمر، على العكس لقد كنت مرتاحاً لقربكم منها، و سعيداً لألفتكم معها، لم أكن غيوراً و لا لائماً لكم، كنت أجد أن هذا الأمر مريح لي إذ يجعل قلبي مطمئن عليها. ما كان يدهشني هي غيرتكم أنتم ، كنتم كشباب تعتقدون أن أمكم حكر لكم، كما كانت أخواتكم يمارسن الغيرة علي في مواجهة أمكم، حسناً ، ستحمل الأيام تغييرات كثيرة عندما تكبرون بعض الشئ. في هذا السكن كبرتم و ترعرعتم، و في هذا الجو العائلي الذي كان و لازال يجمعنا كأسرة عاش كل منكم، و لهذا تنتابني الخشية عليكم، ليست الحياة هكذا دوماً، و ليس كل الأزواج قادرون على التضحية ، و بعضهم غير راغب فيها، أتمنى أن تكون حظوظكم جيدة و توفقون إلى شريكات و شركاء حياة يؤمنون بما آمنت أنا و أمكم به و يجعلون حياتكم محفوفة بالطمأنينة و السعادة. و اليوم عندما تدخلون من باب المنزل لتسألوا أول ما تسألون عن أمكم و تتجمعون حولها أينما كان مكانها في المنزل، أدرك حينها أنني قد وفيت لها بعض من حقوقها أن جعلت نشأتكم معجونة بالمحبة و الفطرة السليمة ، و عندما تنتهون من حديث الحب و البوح معها تأتون لي طالبين رأيي في مشاكلكم، أعرف أن لدي أدوار لازالت قائمة و لم تذبل بعد و أن هذا الركن لازال وجهة للزائرين. 4 فجأة هكذا .. نعم فجأة، لقد كبرتم، لم أكن أعرف، تسرب عمرى من بين يدي، جرى الوقت سريعاً بينما كنت أسابقه، لقد سبقني و أنا منهك متعب غير قادر على رؤيته يمضي مخلفاً خلفه في كل لحظة تغير كبير بدى حينها صغيراً في عيني. هكذا خانتني الدنيا فلم تسنح لي الفرصة أن أشبع من طفولتكم، و لا أن أستمتع بها معكم، لقد كنت منغمساً في معاركي الصغيرة مع الحياة، كنت في هذا الجهاد اليومي حيث أبني مستقبلي بيد و أزود عن أسرتي بيد أخرى، كم تلقيت نصائح من حولي أنني يجب أن أعيش أيامي معكم و أن أجمح طموحي، كنت أتلقى هذه النصائح و أتمعن فيها فأجدها نصائح فارغة، ليس لأنها كذلك ، بل لأن كل من قالوها كانوا لا يتبعونها، فقط هؤلاء اللامبالون بتطور أوضاعهم و تحسين ظروف حياتهم الذين كانوا يخوضون معارك داخل بيوتهم لا خارجها. لكن ما قالوه صحيح في جانب واحد هو أن الأيام سوف تسرقني و سيحدث مثل ما حدث لي، سيحدث أنني سأفيق يوماً لأجدكم غادرتم الطفولة دون أن أدري و أنكم أصبحتم شباباً مراهقين أو مراهقون شباب..الأمر لا يفرق كثيراً ، لقد احتجت أن ينبهني أحدٌ لهذا الأمر، و هكذا كانت والدتكم تضع المربع الناقص لدي دائماً لتكتمل الصورة. ستجدون أنني احتفظ بألعابكم الصغيرة و أعتني بها، وقد أحتد على الجميع إن اختفت قطعة منها، لقد استوليت عليها كلها ، إنها أشياء صغيرة و ممارسات ممنهجة لتعويض ما فاتني من طفولتكم التي تمنيت أن أكون جزءاً منها ، جزءاً كاملاً و ليس مجرد عابر منهك احتواه بيته نهاية اليوم الطويل و هو يغالب النعاس و الألم بعد شقاء ممتد. لكن في النهاية كانت دوماً لدي تعزية من هدنة قصيرة مع الحياة ألتقط فيها أنفاسي و أكون فيها إلى جانبكم قدر ما أستطيع. ساءلت نفسي دوماً عن الدافع الذي يجعل رجل ما يخوض في الدنيا بمثل هذه القوة و كل هذا التحدي، هل هناك أحلام تستحق كل هذا؟ ... نعم هناك أحلام تستحق، الحقيقة أنه حلم واحد، هو أن أجعلكم قادرون على تحقيق أحلامكم ... هذه هي الحقيقة. لم أسمح لنفسي أبداً أن أقدم لكم أحلامي كي تتبنوها، لم أشر أبداً إلى أي منكم إلى ما يجب أن يكون عليه ، كنت فقط أريد أن تكونوا ما ترغبون فيه و ما تتمنونه لأنفسكم ، لكن هذا الأمر ليس يسيراً في حياة لا تحكمها قواعد و لا نظم، حياة لاتستقيم بلا جهد و لكنها تعوج تماماً بلا حظ و مساندة، هذا أمر اكتشفته مبكراً. حاولت أن أختصر لكم سنوات من عمركم ، وفرت لكم ما يجعلكم متفرغين لتحلموا و تحققوا الحلم، لم أحلم لكم إلا عندما فشلتم في أن تجدوا حلماً لأنفسكم، كنت أسرب حلمي بين ثنايا كلماتي كالصياد يلقي الطعم لعل السمك يبتلعه راضياً. لقد كان الأمر يستحق فعلاً الجهد و التعب، و لكن الثمن كان دوماً غالياً، كان الثمن لا يعوض فقد كان عمراً و شيباً و مشيبا. حسناً ... لقد تعلمت درس هام في هذه الحياة و هو ألا تندم على ما فاتك، الندم ممارسة مؤلمة و محبطة و معوقة أيضاً، هنا بدلت شكل علاقاتي معكم من الرعاية الكاملة إلى الصداقة المنفتحة، أحببت صداقتكم و أصدقائكم و شركاء حياتكم وأشركتكم في قرارات الأسرة المصيرية، لقد تداركت بعض ما فاتني، الحقيقة أدركت كثيراً منه و غالباً سوف أدركه كله عندما ترزقون بأحفاد لي فأرجو ألا تجعلوني انتظر كثيرا. 5 اليوم أجد المنزل خالياً طوال اليوم، تعودون من أعمالكم و جامعاتكم ، تتناولون الطعام و تختلون بأنفسكم في غرفكم، لقد تعاظمت مساحة حياتكم الخاصة و كبر عالمكم، أصبحت أنا و والدتكم جزءً من هذا العالم و أصبحتم أنتم بالنسبة لنا العالم كله. الآن تتغاضون عن ملاحظاتنا، توافقونا بالقول ثم تمضون لما عقدتم عزمكم عليه، حسناً... يبدو أنني بالتحديد قد أصبحت من الجيل القديم جداً، بعض أفكاري تصفونها بالنظرية و غير العملية .. ربما هذا صحيح فأنا أحدثكم عن دنيا من المحتمل ألا تكون غير حاضرة الآن. اللافت للنظر أنكم أصبحتم تنزعجون أكثر مما مضى إذا ألَّم بي أي عارض، أصبحتم تخافون و تخشون أن تفصحوا عن مخاوفكم، يبدو أن هذه المخاوف تكبر، أنت أيها الكبير المنزعج دوماً تطالبني بالراحة و الكف عن بذل الجهد و أنت يا كبرى البنات تطالبينني أن أتمتع أكثر بحياتي ... دعوني أنظر إلى المرآة .. هل حقاً كبرت إلى هذا الحد؟!! الأدوار تتبدل، الزمن يتكفل بعملية تبادل الأدوار و الشعور بالمسئولية، لم يقلها أحد صراحةً لكن كلماتكم و تصرفاتكم تفصح عنها، لا بأس في هذا لقد لعبت هذا الدور مع جدكم من قبل. أعرف هذه الخشية المؤلمة، خشية أن يوهن الرجل القوي، يوهن هذا الذي يبث الطمأنينة و لو كان جالساً في ركنه مختلياً بنفسه، لكنى دوماً أهون الأمر، ربما أهون الأمور لدرجة الإهمال أحياناً فتأتي التوسلات من والدتكم و هي تحدثني ملتفتة إلى الجهة الأخرى حتى لا تلتقي عيناها بعيناي و تقول لي حرص على نفسك أتوسل إليك. إييه... و ليكن، أفعل كل ما في وسعي كي أطمئنكم، و أفعل ما علي فعله ثم أبحر مرة أخرى في خضم الحياة، تعوضني في هذا خبرة السنين عن قوة الجسد، لقد عانيت كثيراً عندما وصل الحد الأقصى لساعات عملي إلى ثمانية ساعات، لقد اعتبرت هذا ضعفاً مخيفاً بعدما كنت أقضي في العمل إثنتي عشر ساعة على أقل تقدير إن لم يكن أكثر، لكنه الترويض الدائم المستمر من الدنيا و من الزمان و أحكامه فقد رضيت رغماً عن أنفي بالثمانية ساعات. تعود الحيوية للبيت الهادئ في عطلة نهاية الأسبوع، نجتمع على الغذاء ، نتبادل الحديث نشحذ شعورنا بقوة الأسرة و نأنس بدفئها، و نخطف من هذه الدنيا لحظات هي كل الحياة. اليوم أنتم متجمعون، لقد خلوت لنفسي أكتب عن ركني الذي أرتاح فيه و أستمتع بذكرياتي و أختزن لحظاتي الحالية كي تكون إضافة إلى واحة الذكريات، فاللحظات الحلوة لن تشعروا بفرط حلاوتها في حينها، هذه اللحظات سوف تزداد جمالاً و تألقاً عندما تمر عليها السنون، سوف تستخدمون كثيراً كلمة السر الشهيرة لاستدعائها .. "فاكر لما.." .. نعم ستحكون و تتكلمون و تسترجعون اللحظات و تغذون روحكم برحيق السعادة الذي عتقته الأيام. الآن .. بعد أن مضيت معكم في هذه الرحلة من خلال كلماتي، يتعين علي أن أغادر الركن كي أنضم إلى الجميع ، لقد بردت قهوتي و ها هي زوجتي قد جددتها لي و تطالبني أن أخرج لأجلس معهم ، أمسك الفنجان بكلتا يدي حتى لا تنسكب من حوافه القهوة، لم يعد الفنجان يتزن في يدي .. يبدو أنهم لا يحسنون صنع الفناجين في هذه الأيام.