لم تحظ امرأة باهتمام الفنانين على مر العصور بعد السيدة العذراء بقدر «كليوباترا». الملكة المصرية الجميلة التى وضعتها الأقدار عند ناصية التاريخ، في لحظة تحولات كبرى، ظلت موضوعا للفن، وملهمة للمبدعين طوال ما يزيد على ألفى عام. ليس فقط لأن حياتها القصيرة، كانت سلسلة من العواصف الدرامية، ولكن لأنها مثلت خليطا مثيرا من التناقضات، جمعت العظمة والانكسار، والقسوة مع الرومانسية، وامتد الخلاف حولها بين اعتبارها بطلة ملحمية مرة، وشيطانة مغوية مرات. مما أنتج مئات الأعمال الفنية حول شخصها وحياتها، عاكسة صورا لامرأة بألف وجه. ◄ سيدة السلطة والغرام التي أثارت الخيال عبر التاريخ ◄ تناولها شكسبير في عملين ومعارض كاملة عن شخصها وحياتها ◄ شيطنها كتاب العصور الوسطى كرمز لشرور المرأة القوية ◄ دعاية أعدائها شوهت صورتها على مر العصور ■ تمثال روماني لرأس كليوباترا لم يكن ما أثير العام الماضى حول لون بشرتها سوى دليل جديد على أنها وبعد أكثر من ألفى عام، لا تزال قادرة على إثارة الجدل، كرمز يجرى التلاعب به ضمن صراع الهويات، ومحاولات تزييف التاريخ. وهى التى لم يتوقف الاهتمام بها على مر العصور، ومنذ صعدت إلى حكم مصر قبل نصف قرن من الميلاد، كآخر الفراعنة، وقبل أن تتحول مصر بعدها إلى ولاية رومانية. وقد تناول مئات الفنانين شخصها وحياتها فى لوحات وتماثيل، وأعمال أدبية ودرامية وموسيقية، استند بعضها إلى التاريخ، وبعضها إلى خيال متعطش للإثارة، وحتى للأكاذيب. ■ محاولة بروكوليوس منع كليوباترا من الانتحار للرسام جان ألبريتي ◄ تناقضات التاريخ لكليوباترا العديد من الشواهد الفنية التى نفذت فى عهدها، وتؤكد أنها كانت ملكة قوية خاضت المعارك، وعقدت التحالفات، وعاشت فى رخاء، وسارت على عهد سلالتها البطلمية - التى حكمت قرابة ثلاثة قرون - فى تبجيل الآلهة المصرية. وقد صادف عهدها فترة توسع الرومان، وتحولهم من جمهورية إلى إمبراطورية، فحاربت من أجل استقلال مصر، وحماية ملكها، وسط صراع عائلى دامِ على الحكم، اعتبره البعض دليلا على قسوتها. وانقسم الرأى حول علاقتيها ب»يوليوس قيصر»، ثم «مارك أنطونى»، بين من أدانوها كامرأة متلاعبة، ومن نظروا للأمر برومانسية، خصوصا مع النهاية الحزينة لقصتها، وانتحارها وحبيبها بعد هزيمتهما فى معركة «أكتيوم» البحرية (31 ق.م). وحيث بدأ غريمهما «أوكتافيوس» بعد انتصاره فى تحويل دعايته السياسية ضدهما إلى تاريخ مكتوب. وكان ملخص تلك الدعاية أن كلا من منافسيه «قيصر»، و«أنطونيو» غير صالحين للحكم، لأنهما وقعا فى فخ تلك الأجنبية المغوية، ذات الألاعيب الشيطانية. ■ جزء من كليوباترا كما رسمها مايكل انجلو في عصر النهضة وهو ما ألقى بظلاله على سيرتها إلى الآن. ورغم ذلك اختلف المؤرخون حولها. ويعتبر «بلوتارخ» -الذى ولد بعد رحيلها بثلاثة أرباع القرن- أحد أهم من تناولوا حياتها، فى كتابه عن «مارك أنطونى». واعتمد على كتابات سابقة، كما عثر على بعض الوثائق مثل مذكرات طبيبها، فأنصف سمعتها كمثقفة وعالمة، ومتبحرة فى اللغات، وأقر بشجاعتها، وكفاءة حكمها، وسعيها لترسيخ صورتها كأم حكيمة لشعبها تجسد الإلهة إيزيس على الأرض. ■ قيصر ينصب كليوباترا على عرش مصر للفنان بيترو دي كورتوني وهو نقيض ما كتبه الرومان عن فسادها ومكرها وتفاهتها، ما يعبر عن نظرتهم هم للنساء والأجانب عموما. وقد أورد «بلوتارخ» التناقضات مشكلا مجمل الصورة التى أعاد الفنانون رسمها على مدى التاريخ. أما معاصرها «سترابو» الذى كان فى الأساس جغرافيا، فذكرها فى كتابه «الجغرافيا»، ووصفها بالحكمة والخبرة السياسة، وأنها كافحت لتحافظ على استقلال مصر، قبل أن تنتحر بالسم، وليس بالأفعى كما ذكر «بلوتارخ». ◄ اقرأ أيضًا | بسبب «إليزابيث».. «عيون كليوباترا» أصبحت موضة عالمية ■ كليوباترا بريشة جون وليام ووتر هاوس أواخر القرن التاسع عشر ◄ مرايا الفن لم يقرأ الكثير من الفنانين «بلوتارخ» ولا «ستاربو»، ولكنهم استندوا غالبا إلى «شكسبير» الذى أخذ بدقة عن «بلوتارخ»، فى عملين شهيرين تناولا جوانب من حياة «كليوباترا»، وهما «يوليوس قيصر»، و«أنطونيو وكليوباترا». وهو سبب شيوع الانتحار بالأفعى الذى تبناه «شكسبير»، بينما يظهر الانتحار بالسم فى عدد أقل من الأعمال. وبينما رأى البعض الانتحار من منظور رومانسى، رآه آخرون هروبا من الأسر والعرض ضمن موكب النصر فى شوارع روما. ■ كليوباترا في معبد فيلة للأمريكي فريدريك آرثر بريدجمان وقد توقف الفنانون عند محطات أخرى فى حياتها مثل قصة البساط الذى لفت فيه نفسها، لتدخل إلى قصر «قيصر»، وحكاية لقائها الأول ب«مارك أنطونيو» على متن سفينتها، والوليمة التى أقامتها له، بعد رهان على أنها سترد وليمته بواحدة أكثر بذخا، وحيث خلعت أغلى لؤلؤة فى العالم من أذنها، وأذابتها فى كأس نبيذ مع الخل وشربتها، لتكسب الرهان. وكان جمالها الأنثوى عاملا مشتركا بين تلك الأعمال، حتى التى تدينها. . وبينما ظهرت فى آداب العصور الوسطى كرمز للشر الأنثوى والغواية، أصبحت فى عصر النهضة تمثيلا للبطولة المضادة مقابل الانحياز للبطولات اليونانية والرومانية، وصارت فى الحقبة الرومانسية مثالا لضربات القدر، وتناقضات الحياة والجمال مع الموت، كما كانت أحد الموضوعات النمطية لفنانى الكلاسيكية الجديدة، والعصر الفيكتورى. ■ كليوباترا في ملابس الفراعنة تقدم القرابين لإيزيس قبل الميلاد بنصف قرن ◄ موت كليوباترا فى عصر النهضة رسم الفنان «جيامبترينو» لوحته «وفاة كليوباترا»، وصورها مع أفعى تقوم بلدغها. كما رسمها «مايكل أنجلو» مع أفعى تلدغها، وثعابين تخرج من شعرها، وتتدلى على عنقها، مما يذكرنا ب«الميدوزا» الإغريقية رمز الجمال المقترن بالخطيئة، والتى تحيل كل من تقع عينه عليها إلى حجر. وكأنه يردد أصداء كتاب «جيوفانى بوكاتشيو» فى القرن 13، «عن النساء الشهيرات»، والذى تناولها كمثال للرذيلة. ■ كليوباترا كما رسمها الفنان لورانس ألما تاديما ومع ذلك فتعبيراتها تبدو أقرب لتناول «جيفرى تشوسر» فى قصيدته عنها فى القرن 14، كشهيدة للحب. وفى حقبة «الباروك» فى القرن 17، اعتبرت موضوعا مثيرا، وصار اقتناء لوحاتها هوسا. ومنها لوحة «موت كليوباترا» للفنان «جويدو كجناتشى» عام 1645، وتصورها جالسة ميتة على مقعدها دون شىء آخر. ولكنه أعاد رسم موتها فى لوحة أخرى بعد عقد ونصف، بشكل أكثر مأساوية، حيث ألبسها رداء أحمر، ورسمها ممسكة بالأفعى. ■ كليوباترا ومارك أنطونيو بريشة يوهان هاينريش تيشبين وفى القرن نفسه صورها الإيطالى الباروكى «جويدو رينى» ممسكة أفعى صغيرة فى يدها، وتتطلع نحو الأعلى بنظرتها الأخيرة، فى لقطة تلخص حياتها ومآلها. كذلك رسمتها الباروكية الإيطالية «أرتيميسيا جنتلسكى» فى لحظة الانتحار، تستلقى على الفراش، وإلى جوارها أفعى، بينما تطل عليها من الخلف إحدى وصيفاتها بحزن، وتبكى أخرى ماسحة دموعها بمنديل. اللوحة كان يعتقد حتى ثمانينيات القرن العشرين أنها للفنان «ماسيمو ستانزيونى» ولكن تم تحقيقها، وإثبات أنها من أعمال الفنانة. كذلك رسم الفرنسى «جان بابتيست ريجنولت» «موت كليوباترا» أواخر القرن 18، ضمن ولعه بالموضوعات التاريخية والأسطورية التى تميزت بها حركة الكلاسيكية الجديدة، وأظهرها جميلة وبريئة. أما الفنان «رجينالد آرثر» فرسمها أواخر القرن التاسع عشر فى لوحة بعنوان «ضربة الموت» وهى ترتدى الأبيض الشفاف، وتستلقى ممسكة الأفعى. ■ لوحة بعنوان موت كليوباترا للفلبيني خوان لونا أواخر القرن التاسع عشر وفى الفترة نفسها رسم الفنان الفلبيني «خوان لونا» لحظة موتها، بطريقة درامية مع وصيفتين مروعتين، وبطابع غربى. لكن تبقى لوحة الفرنسى «أوجين ديلاكروا» واحدة من أجمل اللوحات التى تعالج الموضوع، حيث استبق لحظة الموت، بلقاء «كليوباترا» مع الفلاح الذى أحضر لها الأفعى والمأخوذ عن شكسبير، بكل ما فى اللقاء من تناقض الشخصيتين والمشاعر، وتأمل كليوباترا الرومانسى لمصيرها المحتوم. ■ لوحة كليوباترا في قبضة الجنود الرومان بعد وفاة أنطونيو بريشة برنارد دوفيفييه ◄ بذخ وقسوة بالإضافة لموتها، أغرت حياتها أيضا الفنانين، كالهولندى «جاكوب جوردانس» من القرن 17 والذى رسم وليمتها ل»مارك أنطونيو»، وهى تسقط لؤلؤتها فى الكأس، أمام ذهول «أنطونيو» بخوذته العسكرية. ورسم الفنان الإيطالى من حقبة الروكوكو «جيوفانى باتيستا تيابولو» الموضوع نفسه عام 1744، فى لوحة جمعت بين رقة وبساطة «الروكوكو» وطابع مسرحى. ■ لوحة كليوباترا والفلاح للفرنسي أوجين ديلاكروا وفيها يبدو «أنطونيو» هامشيا، مخفى الوجه، لا يميزه سوى خوذته العسكرية. بينما يظهر شخص ثالث ذو لحية، وهو حليفه «لوسيوس بلانكوس»، حكم المراهنة، وفق رواية المؤرخ الرومانى «بللينى»، والذى أضاف أنه بعد تلك الوليمة هجر الفارس زوجته فى روما، وبدأت قصته مع «كليوباترا». المستشرق الفرنسى «جان ليوم جيروم» رسمها أيضا عام 1866 فى لوحة مع قيصر، بتكليف من إحدى السيدات، ولكنها لم تعجبها وأعادتها له. وقد عرضها فى صالون باريس فى العام نفسه، وفى صالون الأكاديمية الملكية عام 1871. وتظهر لحظة خروجها من البساط الذى كانت ملفوفة فيه. ■ لوحة وليمة كليوباترا للفنان الإيطالي جيوفاني باتيستا تيابولو القرن الثامن عشر وهى قصة يعتقد أنها غير دقيقة، ونتجت عن ترجمة خاطئة لكلمة «بساط» التى أوردها «بلوتارخ». وفى القرن التاسع عشر أيضا صورها «جون وليام ووتر هاوس» عام 1887 بملامح مصرية، مع غموض نظرتها، ووضعية جسد تبدو كمن نفد صبرها. أما الفنان «ألكسندر كبانيل» فرسمها تجرب السم على المسجونين، وتجلس لا مبالية بينما يتأوهون ألما ويموتون، وإلى جوارها نمر مروض. فى حين رسمها الفنان الرمزى الفرنسى «جوستاف مورو» مع أسد، وهى تجلس فوق كرسى مرتفع، وفى خلفيتها السماء، ومسلات، وقمر. ■ لوحة وليمة كليوباترا للفنان جاكوب جوردانس كذلك رسمها الهولندى الإنجليزى من العصر الفيكتورى «لورانس ألما تاديما» فى عديد من اللوحات، حتى أنه أقام معرضا كاملا للوحاتها عام 1846، وزينه بطراز فرعونى. ووصف النقاد لوحته «لقاء أنطونيو وكليوباترا» بأنها لا تضاهى، لاستعانتها بتفاصيل أوردها «بلوتارخ» حول السفينة الذهبية المعطرة، بأشرعتها الأرجوانية، ومجاديفها الفضية مع عازفى الموسيقى. ورغم تصويرها لحظة اللقاء الأول، لكنها تضمر النهاية المأساوية. والقائمة طويلة لمئات الأعمال التى حاولت أن تلتقط جوانب من شخصية امرأة بألف وجه.