ماكس فريش كتب مسرحيته الشهيرة «السيد بيدر مان ومشعلو الحرائق» عقب نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط الفاشية فى أوروبا يعيد التاريخ نفسه، وما حدث بالأمس يتكرر اليوم والعالم يقف متفرجًا على معركة غير متكافئة بين إسرائيل والشعب الفلسطينى الذى يتم حصاره وتجويعه وقتله. العالم لا يستطيع منع المعتدى من الاستمرار فى نهجه العدوانى ولا حتى أخذ موافقة المعتدى على إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية للطرف المعتدى عليه. نتنياهو وأركان حربه من القادة العسكريين يشعلون الحرائق تلو الأخرى بينما هناك من يخرج بين الحين والآخر يدين حماس على ما فعلته فى 7 أكتوبر 2023.. صحيح أن البعض يعتبر أن ما فعلته كان بمثابة إعلان حرب من جانبها لكن حماس ليست كل الشعب الفلسطينى.. وإذا تشاجر ابنى معك فليس من حقك أن تقتل كل أسرتى، فهذا هو منطق الغابة وهو غير مقبول تماما. الأديب السويسرى ماكس فريش «1911/1991» كتب مسرحيته الشهيرة «السيد بيدر مان ومشعلو الحرائق» عقب نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط الفاشية فى أوروبا من منظور أخلاقى وسياسى ليعالج عدة مشاكل محورية فى المجتمع الحديث، حيث أتيح لهذا المجتمع من التقدم التقنى والفكرى والعلمى والصناعى والتجارى الشىء الكثير لكنه لم يزل يعيش فيه نمط الإنسان الذى تخلف أخلاقيا وفكريا عن هذا التقدم بمعناه الشامل وظل على أنانيته وضيق فكره يستغل أخاه الإنسان.. لا يهمه إلا أن يحقق الثروة والقوة ولكن غفلته عن الأبعاد الاجتماعية والإنسانية وعن القيم تهدد كل شىء بالفناء وتهدده هو أيضا بالفناء. هذه المسرحية الرائعة تواظب كبريات المسارح الناطقة باللغة الألمانية فى ألمانيا والنمسا وسويسرا على تقديمها بشكل حديث وبتأويل يربط فكرتها الأساسية بقضايا العصر. المسرحية تعالج عبر بطلها السيد جوتليب بيدرمان -الذى حقق ثروة مالية جيدة من تصنيع مستحضرات للعناية بالشعر ومتزوج من سيدة مريضة بالقلب لا عمل لها إلا رعاية المنزل- الخوف الشديد للإنسان المعاصر على ما يملكه وما يتمتع به من منافع وامتيازات واستعداده الفورى للتخلى عن القيم والمبادئ السامية فى سبيل الحفاظ على الثروة والملكية الخاصة وجبنه الفاضح فى وجه الشر طلبا للنجاة الشخصية.. تضع هذه المخاوف بيدرمان وزوجته فى مواجهة مع ثلاثة رجال يشعلون الحرائق فى المنازل إما لنزوع إجرامى أو رغبة انتقامية ضد الأغنياء أو لمثالية أيديولوجية تدعى البحث عن العدل فى المجتمع بتقويض حياة أصحاب الثروة والملكية الخاصة. تتطور مواجهة بيدرمان وزوجته مع مشعلى الحرائق الذين اقتحموا منزلهما إلى تواطؤ مع المجرمين دوافعه الخوف والجبن وطلب النجاة الشخصية ينتهى باحتراق المنزل ثم المدينة بأكملها بينما السيد بيدرمان يتناول «عشاء الصداقة» مع مشعلى الحرائق. وإذا كان ماكس فريش قد كتب مسرحيته فى أعقاب سقوط الفاشية فى أوروبا ليذكر الأوروبيين بتواطئهم مع حرائق هتلر وموسولينى إما صمتا أو تحايلا أو تأييدا حتى بدأت منازلهم أى مجتمعاتهم فى الاحتراق وليحذر فى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين من كارثة الصمت مجددا إزاء صعود فاشية جديدة فى هذا الوقت تتمثل فى الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى. اسم «بيدرمان» مثلا له رمزية محددة فى اللغة الألمانية تصف الإنسان ضيق الأفق والرؤية.. الإنسان الذى لا لون له ولا قيم ومبادئ واضحة.. الحريص فقط على المنافع الشخصية والمصالح وتعود هذه الرمزية إلى القرن التاسع عشر ورسوخ الفئات البرجوازية الصغيرة فى المجتمعات الأوروبية وخوفها الدائم على ثرواتها وملكياتها المحدودة. اليوم الولاياتالمتحدة تفعل ما فعله «بيدرمان» وتشجع نتنياهو على إحراق الشرق الأوسط وإشعال حرب عالمية الكل فيها خاسر.. بيدرمان أعطى للمجرمين الثقاب التى مكنتهم من إشعال الحريق فى المدينة وهو يتوهم أن بيته سوف يسلم من الحريق وأنه وحده سوف ينجو من الحريق. ما أشبه الليلة بالبارحة.