من حسن الطبيعة الخلاب نمت كأغصان الورود متمايلة جمالا يداعب قوامها الممشوق الهوى فيحتويها وتمتلئ هائمة به، مسدلة ضفائرها العنقودية الليلية خلفها فقط وأمام عيون العالمين، تختال في مشيتها كأنها دون ظل أو كالملائكة.. تصاحبها العيون أينما هى كأشعة الشمس الساحرة على جندول الماء الرفيع المترقرق المنهدر باستعلاء من علٍ، ليفيض حبا يسع الغائبين أيضا. يعشقها من يلحظها كل مرة وكأنها أول مرة .. تلك الطاغية الأنوثة الممتلئة الحماسة والمشتعلة الحيوية والحانية كظلال وارفة على تربة مبللة رطبة ساعة القيظ.. اقرأ أيضا| «ماما أميمة6» قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات صدرتها شجاعتها وإصرارها على التقدم للترحال من عفوية القرية إلى اضطراب العاصمة... تموج الشوارع بالصخب وترتفع رايات الضجيج لهامات البنايات الشاهقات وتختلط مشاعر الناس فيما بينهم حتى أن الواحد منهم لا يستطيع أن يصف حاله ما بين الفرح الفائت والحزن السائد واليأس الناصع والأمل الباهت .. الجميع تدور في خلده حالات ممتزجة من كل شئ يتمسك بالحزن الذى يعرفه ويعتاده وجعله فوق سطح أمانيه التي يدفعها دفعا لأسفل سلم احتياجاته، بينما هى في حالة غليان تتغلب عليها رغبة الطفو لأعلى وكشف المسكوت عنه .. مازال القديم بطل المشهد .. مازال الكل يضحك رسما يعصره الأنين الصارخ.. إلا أن اللغة الصامتة المشتركة تقول أنه حتما لن يأتي الجديد بجديد .. فالأسلم أن يسكن هذا الجدل، والأحوط أن نحيا هذا الموت البطيء فالنكفر جميعا بالتغيير، وندين عقيدة راسخة بهذه الأصنام التي تضر ولا تنفع، تتضخم كالبالون المليء بالاشيء تكبر ..تكبر ...أمام أعين الحشود كحلقات السحر ...أو كأنها تكبر.. حتى! تصارع كل هذه الأشياء، إلإ أشياء جميلتنا المسافرة غريبة وحيدة من دفء القرية لبرد العاصمة المدارية، تتعثر حين تجتهد أن تجد لقدمها موضع وسط هذا الجدل الأجوف الخاوي من دعائمه ...وتستهويها الصحافة فتحاول أن تعيد نشر مزامير الأخلاق، وبيد ناعمه بلا تجاعيد السنين وتشقق الأزمات، تمسك بأزميل الحبر تنحت نسق الإنسانية كرسول وهب حياته للموت .. ولا تبتعد كثيرا بها الأيام لتتلقفها في قصة حب من العهد البائد، تتسلل إليها نظرات حسيسة خلف نظارة سوداء، تصوب رصاصات الوجد، الواحدة تلو الأخرى لقلب أتى من زمن سحيق، ليس به تراكمات الزمن الحجري .. يستسلم رافعا رايات الأسر الطوعي لهذا الفارس بيرون المعتلي جواد الثورة على استبداد حاكم ممتلئ المعدة متصلب الفكر قاسى القلب ... على عياله! يملك الماضى كله في حفريات كل الحشود ويذعن له الحاضر بضعفه الذي أغراه بأن القادم وما بعد القادم ملكه أيضا ظنا ..لا يقينا! وإذا بالفارس يمسك بمعول الإصلاح لينثر بذوره الثائرة في رحم الحشود التي لم تعد عقيمة وأضحت بعد ليلة ليلاء مكحلة العيون محتفلة بتغير لطالما كان يراودها حلما .. وأصبح واقع ! لقد تحطم الصنم والأهم هو أن زائير طلق الحشود يأذن بميلاد جديد زلزل قاعدة التمثال ومارت تحته الأرض مورا فلا مكان لتمثال آخر وانتصر الفرسان لإرادة حشودهم وهاجت الأرض وماجت إلى أن أخرجت أثقالها وانتصبت موازين العدل للصنم الفائت وارتفعت رايات القادم. ...وهنا كان للجميلة أدوار ومهام تحلق كالفراشات بجسدها النحيف من حى لآخر ومن زقاق لنظيره تنادى بحرية الحشود على يد فرسانها لم تعرف النوم وكانت راحتها في مشقة السفر ونعيمها في تردد الترحال تكتب وتقدم أفكار الثورة لم تعادِ الأفواه المرددةً بالتغيير، بل فتحت عليهم طاقات الحب الهادرة لإقناعهم، ولتأثيرها الأخاذ أسرت قلوب الحشود ووحدتهم تحت راية الفرسان حتى لآن لهم الحكم ووصل غرامها الأوحد لسدة الأمر. ووصلت هى الأخرى لمنتهى الألم الذي صاحبها متخذا للسرطان عنوان دائم في جسدها النحيل فقاومت في صمت الشجعان ألما تآمر عليها ولم ينل منها وعشقها أفراد الحشود في البلاد وما يجاورها وما يبتعد عنها بحرا وبرا فصارت كآلهة الإغريق رمزا للحب وتارة للصلابة وأخرى للنجاح والتفاني. كانت السيدة الأولى ولازالت المعشوقة الوحيدة في نفوس جماهيرها ومرت أربع سنوات يعتلي فيها بيرون سدة السلطة ويمتلك أحب وأرحب قلب ...وكلما كان مستفزا لشعبه كعادة الكراسي زاد تأييدها له، وكدها لتدعيم أواصر محبة الجماهير لمعشوقها الأوحد..حتى انتهت فترته الأولى وكان لزاما عليها كعادتها ألا تتخلى عن مساندته وأن تستثمر حب شعبها ليضاف رصيدا جديدا لحملة انتخابات الرئاسة لمعشوقها، ومع بواكير إعلانات النتائج الأولى كان الأطباء يسطرون نهايات هذه العشيقة ..فصارح كبيرهم رئيسه أنها أيام معدودات وتتركنا إيفيتا.. لمعت عين بيرون ببريق اللآلئ الدال على الرجولة الحق .. والصادقات لحب جارف أخفاه أكثر مما أبداه لوليفته ورفيقة دربه يتساءل بصخب يملؤه الاستجداء، يركع على ركبتيه يستحلف أطبائه أن يجتهدوا في عمل أى شئ .. إنه يتوسل أن يَحيا هو ليقينه بأن بشائر الموت تلاحقه هو أولا قبل ايفيتا وأريج الفراق يحيط به ملوحا من قريب داني مشيرا بأنه قادم لا محالة.. كيف لم يحيا معها سوى سنوات قلائل ..نعم كانت حافلة بالقبلات ..مليئة بالأحضان ..تشابكت أغصانهما بشبق لا محدود وتمايلت رقصا على أوتار زمان عز عليهما بالسرمدية .. ليتها ما أحبتني ..ليت عيناي لم تلحظها في ذاك النهار المشمس الدافئ الذي لم تدم ساعته طويلا ..سريعا ومضت ذاكرته بتفاصيل الذكريات وانحدرت كتلة شديدة الملوحة القاسية وملتهبة على وجنته اتخذت لطريقها أخدودا يكتظ بتجاعيد مركبة ومعقدة وكأنها تشق من بدء الزمان دربا في تاريخه السحيق .. سرد كلمات أبرقتها ايفيتا بلطف وتسللت لتجاويف بيرون كمفردات العشق، قالها من قبل كل المصابين بالصبا وأسرى الهوى، إنما كانت منها كأنغام أخاذة آسرة لقواه التي انهارت طوعا أمام جبروت العشق .. تحركت شفتاه بتلك الكلمات وطال طنينها أسماع الأطباء حوله .. تبادلوا النظرات خلسة ووقارا لحاكمهم الفارس القوى سابقا والذي شاهدوه يتهاوى سريعا وكأنه المبتلى بالسرطان وليس تلك النحيفة العظيمة . أسرع أحدهم ليمسك على هون بيد الحاكم التي امتدت لتلاطف شفاه ايفيتا كما كان يعتاد اكتشافها قبل أن يقبلها .. وكان تلك الشفاة سراب الظمأى في قيظ الحياة المتسربة المتسللة من يده التي خانها تقدير المسافة وظن القرب منها .. وراءه كل الحاضرين ببعيد حتى كاد أن يقع الحاكم، فسارعت يد الطبيب إليه لتوصله إلى شفاه ايفيتا القابعة في مخدعها في سكون ملائكى نصف مغمضة العينين شاحبة الألوان الخمرية الوجه والوردية الشفاه والزرقاوية العيون المحبوسة خلف أجفان جميلة متشابكة ليلية الشعر المنسدل بحياء... الأطباء اتفقوا جميعا دون حوار أن يركعوا على ركبتيهم مهابة في حضرة قدس العشق المسافر قريبا والمنفرط عقده الآن، تتدلى حبات .. حبات من لآلئ الوجد والصبو والهيام .. تجذبها لأعلى السماء ملائكة الهوى فلا هى أبت الرحيل ولا هى تكرمت بالبقاء لتظل علامات لآلهة النقاء والصفاء البشرى.. تفجرت في رأس كبير كهنة الأطباء فكرة البقاء الأبدي وتلقفها مع زملائه في حجرة الأحداث المتصلة بين عالمين إلى أن أومأوا بسداد الرأي لكن لن يتم الإعلان عنه الآن يستأذن رجل المراسم أن يعلن عن بدء لحظات الإعلان باسم الرئيس الجديد القديم وطقوس القسم الرئاسي، ويتأبط العشيق عشيقته ممسكا بكل أصابعها متشابكا متشبثا بالملازمة الآن هنا وبعد الآن هناك! هامسا بسمع عشيقته تلك اللحظات التي أردتيها أن تخرجي معي وتقفي بجواري اتكأ عليك لن أصير رئيسا بدونك .. فبادلته النظرة المعتادة مرسلة بكل قواها لتشجعه على المضي قدما لما أراداه معا وأراده شعبهما، فدفقت أوصالها بعزيمة وانتصبت أمشاجها ثائرة شابة تساند عشيقها تطمئنه، تشد من يده للأمام تسابقه لمحل القسم وتعود، ووسط هتافات الجماهير ايفيتا ايفيتا ..التى تصاحب دقات قلبها المعتل والراحل قريبا جدا.. تجلس على كرسيها تنظر للحضور من ساحات القصر الملئ بالعيون المترددة الخائفة من حوار دار بينها وبينهم جميعا على انفراد وخصوصية مطلقة تنادي تلك المرأة ان تبقى سديدة الراى وتشجع ذاك الشاب على أن يظل ممسكا بفأسه، وتربت على كتف هؤلاء الشيوخ حنانا متصلا، وتنهض مع مريض اعتادت زيارته ليشفي من سقمه. و.... هم جميعا يصلون بترانيم الوله لمعشوقتهم، وخلفية الصلاة صوت الزعيم الجديد العائد من القدم. يسود الصمت إيذانا بصرخة الرحيل تطلقها ايفيتا من على كرسيها وداعا لعشاقها -المتحجرة دموعهم المحبوسة صرخاتهم - المسموع أنينهم الصاخب: ايفيتا لا لا لا ...ايفيتا لا ترحلي ..ايفيتا ابقي ...ايفيتا ألم تعدينا بالبقاء.. ايفيتا إلى أين تذهبين ..لن نتركك.. يتخلى الرئيس عن مراسمهم ويطير كما كانت خطواته تسابقه عندما كانا يتواعدان أمام شجرة الزيتون القديمة .. يسبق زمنه ليمسك بيد ايفيتا .. مازال الميكرفون معلق على صدره: - أحبك ايفيتا لا ترحلي ...لن أكون بدونك... أنت وحدك صاحبة الحق في كل هذا .. ايفيتا لا تفعليها كاسابق عهدك حين تلعبين بعقلى .. حدثيني ايفيتا ...انظري إلىّ .. بيرون حبيبك زوجك ابنك ..بيرون عشيقك ...أنا طفلك لا ترحلي سأظل باكيا صارخا حتى تأتين .. ايفيتا اين عروستى وألعابي ...تنساب دموع الجنون تختلط بضحكات باكية عالية ..الساحة كلها تبكى العشيقان .. الحب اليوم يتخضب بالسواد .. السماء الكلاسيكية تبكى أمطارا فقيرة ..ندى حزين ...تتساقط على أوراق الشجر المائل يلامس الأرض سجودا... يقطع قدسية الحالة.. خطوات طبيب يحمل معه حقيبة ومجموعة من الحقن والمعدات الطبية المجهزة سلفا، يسحب يد ايفيتا من بين أصابع بيرون .. ينظر إليه كأنه ينفذ ما أمره به ليلة أمس ..يسحب الدم الوردي من أوصال ايفيتا.. والجماهير تبكي المشهد .. حتى آخر عقيفة حمراء.. يسرع بتدفق مادة الحقن الأبدية لتحل جريانا دائما في أوصال ايفيتا .. نعم أنهيت المهمة سيدى ستبقى ايفيتا كالمصريين لن ترحل .. إنها ملك لنا جميعا سيدي.. ينتبه الطبيب إلى أن سيده أيضا قد رحل .. لكن الحقن الأبدي انتهى داخل ايفيتا.. يردد الشعب معها .. معها... وكأنه استفتاء على البقاء الدائم .. فيسحب الطبيب دم بيرون كله ويستعير من ايفيتا بعض البقاء لبيرون ...ليخلدا معا وليتشبهان في خلود عشقهما وتبقى ايفيتا تعطى ككل المصريات الباقيات بقاء الزمن.