فتاةٌ بالكاد انتصف عِقدها الثانى؛ أثناء تنزهها مع الأصدقاء فى النادى النوبى، ندهتها أصواتٌ تتجادل، فانساقت وراء فضولها لمعرفة الأمر. وجدتهم يتحدثون عن شخص غائب، لم يحضر سوى اسمه وسيرته، فنصب له البعض محاكمة وأنصفه آخرون. اختزنت تلك الأصوات والمشاهد فى ذاكرتها، وبعد عشرين عامًا ساحت خلالها فى الحياة، جمعها القدر بذلك الغائب، رغم حضوره فى تكوينها ونشأتها. لا تعلم إن كان الأمر صُدفة أم اصطفاء، لكنها قررت فى لحظة أن تعافِر للاقتراب من عالمه، وبعد عامين من الصدِّ قرر هو أن يوارب بابه، وكان عليها أن تُسرِع لفتحه قدر الإمكان. الفتاة هى المخرجة هند بكر، والغائب هو الأديب محمد حافظ رجب، ابن الإسكندرية الذى لم يطق العيش خارجها، ولا داخلها أيضًا، فبعدما هجر عمله ب المجلس الأعلى للثقافة فى أوائل السبعينيات، عاد ليستقر فى مدينته، وفور خروجه للمعاش من وظيفته ب المتحف اليونانى الرومانى؛ قرر الانزواء واعتزال الحياة، حتى رحل عنها – فعليًا – فى فبراير 2021، لكنه ترك وراءه ملخصًا للسنوات الست الأخيرة من حياته، موثَّقًا بكاميرا «هند» ورؤيتها؛ فى فيلم تسجيلى مدته 76 دقيقة، حمل عنوان «جولة ميم المملة». يتتبع الفيلم مسيرة حافظ رجب الحياتية والإبداعية، منذ وجد ضالته وتمرُّده فى الكتابة، فسار معها وعبث بكل ما عداها، وكان الناتج «غير مرضٍ» كما جاء على لسانه بين مشاهد الفيلم. وفى غالبية لقطاته المصوّرة تغلُب على رجب؛ نظرة دهشة وعدم تصديق، يبدو خلالها أنه يتعامل مع الأمر باعتباره مزحة تمنحه قدرًا من اللهو، تمامًا كما اعتاد أن يتعامل مع قسوة الحياة، فيحيلها بقلمه إلى عوالم غرائبية. وتقاسمه الشاشة ابنته سامية؛ البطلة المهمَّشة، فهى شريك رئيسى فى كل تحركات أبيها ونشاطه داخل منزلهما الصغير، لكنها صامتة تقريبًا، فكان وجودها يشبه الطيف، بل ويشبه «رجب» نفسه، ما يُشعِرك – أحيانًا – بأنها انعكاس له ولحياته، خاصة مع ظهور صورتها وهى تُكرَّم كشاعرة فى شبابها، قبل أن تقرر الاكتفاء بأعمال المنزل وإعداد الطعام. لم يتوقف أثر صاحب «الكرة ورأس الرجل» عند ابنته وبيته، بل امتد لجيل من الأدباء، الذين مثَّل لهم نموذجًا مدهشًا للأديب الجامح والمتمرد، منذ أطلق جملته الشهيرة «نحن جيل بلا أساتذة»، ولذلك لم يتقبلوا موقفه وانعزاله وهو يردد «المأساة هى المأساة». يتجلى الموقف بشدة فى المشهد الذى جمع حافظ بالكاتب أحمد عبد الجبار، لتعكس نظراتهما المصحوبة بكلمات قليلة هامسة؛ حجم الصراع ومقدار الغضب الذى يحمله كل منهما داخله. وبالتوازى؛ يتقاطع معه مشهد بصوت الشاعر علاء خالد فى الخلفية، من تسجيل ندوة «أصيل» 1995 وهو يتعجب بحدة من موقف حافظ رجب، ويرى نوعًا من الانفصام بين حياة الكاتب وإبداعاته. بدا الأمر وكأنه محاكمة نُصِبت لمحمد حافظ رجب، وهو يقف أمامها مشدوهًا، غير مبالٍ، غارقًا فى تيه وفوضى يشبهان الأصناف التى يأكل منها فى المشهد، إذ يوضع السمك بجانب البيض وعلى يسارهما قطعة من «الكيك» يأخذ منها إربًًا على مهل. «جولة ميم المملة» كان نقطة فاصلة فى حياة ومسيرة مخرجته هند بكر؛ على أثره ستتبين مدى صحة الطريق الذى تسلكه وملاءمتها له. لم يكن ذلك يسيرًا، خاصة مع سطوة الطاقة التى راح يصدِّرها لها محمد حافظ رجب بأنه لا جدوى للفن، ونصائحه المتكررة بالانتباه لحياتها ومنزلها بدلًا من ذلك السراب الذى لن يعود عليها بالنفع. وزاد من صعوبة الأمر طول المُدة وما تخللها من معوقات، لعل أكثرها قسوة هو وفاة حفيد «رجب»، ثم ابنته سامية بعد شهرين، ثم هو نفسه بعد شهرين آخرين. يمكن القول إن هند بكر توصلت إلى إجابة حاسمة فيما يخص مهنتها، وأعلنت عن ميلاد مخرجة متميزة، من خلال فيلمها الفردى الأول الذى عرضته عدة مهرجانات حول العالم، بدءًا من مهرجان أسوان لسينما المرأة، ومهرجان عمان السينمائى الدولى، وصولًا لحصوله على تنويه خاص من لجنة التحكيم للإنسانية والاستمرارية فى مهرجان الأفلام الوثائقية المستقلة السينمائى الدولى فى موسكو – روسيا، وعلى جائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان «جابس» للسينما بتونس، ولا يزال المزيد فى انتظاره وانتظار مخرجته. لكن المؤكد أن التساؤلات حول محمد حافظ رجب وعالمه؛ لم تُحسَم إجاباتها بعد، بل أن الرحلة التى سلكها «جولة ميم المملة» طرحت المزيد، وألقت إشارات متعددة فى حاجة إلى التتبُّع.