«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف إدريس .. قصة قصيرة طالت قليلا

يوسف إدريس، الأديب المصرى الراحل، أحد أبرز كتّاب القصة القصيرة فى الأدب العربى. منذ رحيله قبل 33 عامًا، لم يختفِ صدى إبداعاته، بل استمر فى التأثير على أجيال من القراء والكتاب، أبى أن يغادر قلوبنا وأرواحنا، لا تزال كلماته رغم مرور السنين، تنبض بالحياة، وكأنها كتبت البارحة، وصف نفسه فى لقاء تليفزيونى أجرى معه قبل رحيله بفترة قصيرة بأنه «قصة قصيرة طالت قليلًا»!، لكنه لا يعلم أن القصة مستمرة حتى اليوم! يوسف إدريس، الكاتب الذى رحل جسدًا لكنه بقى حاضرًا بروحه وأعماله، لا يزال يهمس فى آذان الشباب من خلال كلماته التى لا تخضع لقيود الزمان، فى عصر التغيرات السريعة والتكنولوجيا المتسارعة، «إدريس»؛ كان مرآة تعكس أعماق النفس البشرية، قصصه القصيرة حملت فى طياتها عوالم من المعانى التى تتخطى حدود الكلمات، عندما يقرأها الشباب اليوم، يجدون أنفسهم فى صفحاتها، وكأن «إدريس» كتبها خصيصًا لهم، ليعبر عن مشاعرهم المختلطة، وتحدياتهم الوجودية. إن الإنسانية التى طبع بها «إدريس» قصصه هى ما تجعله قريبًا من قلوب الشباب اليوم. رغم رحيله، لم تفقد كلماته قوتها أو قدرتها على التأثير. أعماله تُترجم إلى لغات العالم حتى اليوم، وتصل إلى أجيال جديدة فى مختلف الثقافات، وكأنها تعبر عن هموم إنسانية مشتركة، تتجاوز الحواجز الجغرافية والثقافية، وتؤكد أن إرث يوسف إدريس سيظل حيًا، ومؤثرًا، يلهم الأجيال القادمة من المبدعين والقراء.
ترجمت قصص يوسف إدريس إلى أكثر من عشر لغات منها: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية والإسبانية، والروسية، والصينية، واليابانية، والتركية، والهندية، باعتباره رمزًا للأدب العربى الحديث، وواحدًا من أهم الأدباء العرب الذين أثروا الساحة الأدبية العالمية.
ويحكى المترجم «دينيس جونسون ديفيز» فى كتابه «ذكريات فى الترجمة» عن ترجمة أعمال يوسف إدريس إلى الإنجليزية فيذكر أنه اختار قصة «حمال الكراسي» لإدريس فى مجلد القصص العربية الحديثة لمطبعة جامعة «أوكسفورد»، وأكد أنه على الرغم من شيوع ترجمات قصصه القصيرة إلا أن رواياته القليلة لم تجذب الكثير من الاهتمام، ولم تجر ترجمة رواية مبكرة له إلى الإنجليزية من قبل «نل هيوسون» تحت عنوان «مدينة الحب والرماد» وأشار ديفيز إلى رحلات إدريس إلى روسيا وترجمة روايته «الحرام» فى أكثر من مليون نسخة آنذاك، فى مقابل ما اعتبره إدريس ضعف توزيعه بالإنجليزية، كان ذلك فى الماضى، فقد انتشرت ترجماته إلى الإنجليزية وعرفت طريقها إلى دور نشر كبيرة مثل «هاربر كولينز»، وسلاسل «بنجوين» الشهيرة، التى ترجمت مجموعة «أرخص ليالي» فى سلسلة «كلاسيكيات» بترجمة وديدة واصف.
وهناك أيضا بالإنجليزية «حكايات المواجهة: ثلاث روايات مصرية قصيرة»، من تأليف يوسف إدريس (مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة) وترجمة الدكتور رشيد العنانى أستاذ الأدب العربى الحديث بجامعة «إكستر» البريطانية، ويضم الكتاب ثلاث قصص متوسطة الطول (نوفيلا) لإدريس، تغطى الفترة من أواخر خمسينات القرن الماضى، حتى أوائل ثمانيناته، وهذه القصص هى: «سره الباتع» (1958) «السيدة فيينا» (1959) «نيويورك 80» (1980).
أما فى الروسية فقد ظل إدريس متوهجا منذ بداية ترجمته إلى تلك اللغة، إلا أن من أشهر مترجميه إلى الروسية المستشرقة د. «فاليريا كيريتشنكو» التى ألفت كتابا عن عالم «إدريس»، وترجمت رواية الحرام وكانت صديقة شخصية لأسرة إدريس.
ومؤخرا جرت إعادة طبع ترجمة قصص يوسف إدريس إلى الفرنسية، والتى ترجمت فى مختارات فى تسعينات القرن الماضى منها «النداهة» ترجمة «لوك بمبريسكو»، و»فليب كاردينال»، كما ترجمت «بيت من لحم» بقلم «آن مينكوفسكي» وصدرت طبعتها الأولى عام 1995، وعام 2021 صدرت ترجمة روايته «الحرام» إلى الإيطالية، عن مركز الدراسات الشرقية «ألفونسو نالينو» بروما، بالتعاون مع الهيئة المصرية العامة للكتاب، وترجمة الدكتورة نجلاء والى، وذلك ضمن «سلسلة الأدب المصرى المعاصر»، وهو المشروع الذى لم يكتمل.
كما أن قصصه ترجمت فى معظم جامعات العالم، ففى فيتنام على سبيل المثال ترجم عدد من قصصه القصيرة إلى اللغة الفيتنامية لدراستها فى جامعات فيتنام.
ولعل عالمه القصصى هو الأكثر شيوعا فى الترجمة مقارنة بمسرحياته ورواياته.
«الحرام» بالإيطالية.. أحدث الترجمات
ترجمت قصص يوسف إدريس إلى أكثر من عشر لغات منها: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية والإسبانية، والروسية، والصينية، واليابانية، والتركية، والهندية، باعتباره رمزًا للأدب العربى الحديث، وواحدًا من أهم الأدباء العرب الذين أثروا الساحة الأدبية العالمية.
ويحكى المترجم «دينيس جونسون ديفيز» فى كتابه «ذكريات فى الترجمة» عن ترجمة أعمال يوسف إدريس إلى الإنجليزية فيذكر أنه اختار قصة «حمال الكراسي» لإدريس فى مجلد القصص العربية الحديثة لمطبعة جامعة «أوكسفورد»، وأكد أنه على الرغم من شيوع ترجمات قصصه القصيرة إلا أن رواياته القليلة لم تجذب الكثير من الاهتمام، ولم تجر ترجمة رواية مبكرة له إلى الإنجليزية من قبل «نل هيوسون» تحت عنوان «مدينة الحب والرماد» وأشار ديفيز إلى رحلات إدريس إلى روسيا وترجمة روايته «الحرام» فى أكثر من مليون نسخة آنذاك، فى مقابل ما اعتبره إدريس ضعف توزيعه بالإنجليزية، كان ذلك فى الماضى، فقد انتشرت ترجماته إلى الإنجليزية وعرفت طريقها إلى دور نشر كبيرة مثل «هاربر كولينز»، وسلاسل «بنجوين» الشهيرة، التى ترجمت مجموعة «أرخص ليالي» فى سلسلة «كلاسيكيات» بترجمة وديدة واصف.
وهناك أيضا بالإنجليزية «حكايات المواجهة: ثلاث روايات مصرية قصيرة»، من تأليف يوسف إدريس (مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة) وترجمة الدكتور رشيد العنانى أستاذ الأدب العربى الحديث بجامعة «إكستر» البريطانية، ويضم الكتاب ثلاث قصص متوسطة الطول (نوفيلا) لإدريس، تغطى الفترة من أواخر خمسينات القرن الماضى، حتى أوائل ثمانيناته، وهذه القصص هى: «سره الباتع» (1958) «السيدة فيينا» (1959) «نيويورك 80» (1980).
أما فى الروسية فقد ظل إدريس متوهجا منذ بداية ترجمته إلى تلك اللغة، إلا أن من أشهر مترجميه إلى الروسية المستشرقة د. «فاليريا كيريتشنكو» التى ألفت كتابا عن عالم «إدريس»، وترجمت رواية الحرام وكانت صديقة شخصية لأسرة إدريس.
ومؤخرا جرت إعادة طبع ترجمة قصص يوسف إدريس إلى الفرنسية، والتى ترجمت فى مختارات فى تسعينات القرن الماضى منها «النداهة» ترجمة «لوك بمبريسكو»، و»فليب كاردينال»، كما ترجمت «بيت من لحم» بقلم «آن مينكوفسكي» وصدرت طبعتها الأولى عام 1995، وعام 2021 صدرت ترجمة روايته «الحرام» إلى الإيطالية، عن مركز الدراسات الشرقية «ألفونسو نالينو» بروما، بالتعاون مع الهيئة المصرية العامة للكتاب، وترجمة الدكتورة نجلاء والى، وذلك ضمن «سلسلة الأدب المصرى المعاصر»، وهو المشروع الذى لم يكتمل.
كما أن قصصه ترجمت فى معظم جامعات العالم، ففى فيتنام على سبيل المثال ترجم عدد من قصصه القصيرة إلى اللغة الفيتنامية لدراستها فى جامعات فيتنام.
ولعل عالمه القصصى هو الأكثر شيوعا فى الترجمة مقارنة بمسرحياته ورواياته.
من داخل متحفه المهجور: لروحك السلام أيها الشبح
«باستمرار أريد أن أبدأ، حتى نهايتى أريدها بداية، فأنا لا أحب النهاية.. النهاية سخف وضيق أفق.. ما أروع أن نبدأ دائمًا، وأن نبدأ بأن نبدأ، وأن تكون البداية بداية لبداية أجد وأمتع».
قبل ميلادى بعشرة أعوام، رحل الأديب الكبير يوسف إدريس عام 1991، عن عمر ناهز ال64 سنة، ليترك خلفه عالما مليئا بكل أشكال الحياة التى نعرفها، وحتى تلك التى لا نعرفها.
فى المدينة التى ولد فيها يوسف، رأيت ما رآه، وثرت كما ثار، غضبت كما غضب، وكرهت الدنيا كما كرهها، لأرى -دون سابق إنذار- أن الريف ملىء بالتحف، والهدايا المختبئة خلف الألم والدخان وعرق الشقاء، لأبدأ بعدها الكتابة، تماما كما فعل.
كهف يوسف كان عميقا كسرداب يصل إلى مركز الأرض، سرت فيه بضع خطوات فأصابتنى الكآبة، ليس لأن القصص كانت حزينة، بل حقيقية، حيّة لدرجة تخيف، وأنا أشاهد أحداثها، حتى تلك التى ألبسها «يوسف» لِباس المدينة، كانت تحمل رغم ذلك رائحة الأرض والحقول.
طفل يسمى «يوسف» ولد هنا قبل سبعة وتسعين عاما، لا يمكن تصنيفه، أو قولبته، أو أن يوضع على رف مع أشباهه، يرى العالم بالطريقة التى أراها، حالما لكنه واقعى، وصريح لدرجة الوقاحة، ينطق بالحقيقة كأنه لا يعرف الكذب أو النفاق، فقط يقولها، لتنهدم العروش المزيفة من حوله.
ظل «يوسف» طفلاً حتى بعدما عبر الستين، أى أنه عندما مات: مات مرتين، طفلا ثم رجلاً، كأنه كان نجما فى غير زمانه، أو نجم كل الأزمان.
أبناء المدينة يلقبونه ب «تشيخوف العرب»، أو «رائد القصة الواقعية» ويضعون اسمه على جوائزهم، أما نحن، أبناء الريف المنسى، فلا تهمنا تلك الأسماء، ربما لأن آثار أقدامه لازالت مطبوعة حتى الآن على أرضنا، ولو تحدثنا عنه سنقول: «كان يا ما كان.. كان هناك طفل اسمه «يوسف»، ولد فى «البيروم» التابعة لمدينة فاقوس قبل مائة عام، والده كان يشتغل فى استصلاح الأراضى، وقد نبغ هذا الطفل فى شتى العلوم، حتى عمل طبيبا فى قصر العينى، بدأ «يوسف» من هنا، من تلك الناحية من الأرض، حتى وصل إلى باريس، فى الجرائد قالوا إنه كان كاتبا، لكن هذا غير مهم، لأننا لا نعرف القراءة أو الكتابة».
فى الريف يرث الأبناء أشياء لا تُدركها العين، أو توضع فى خزينة أو فى محفظة داخل جيب السِديرى أو تحت المرتبة، إنما يرثون الأفكار، والملامح السمراء، والأجساد غير المتناسقة والمِهن وحتى الأمراض والزرع والدود، وتلك أمور لم يفهمها أبناء المدينة قط، فالمدينة تضع سعراً على كل شىء، حتى على البشر، والسعر يكون بناءً على قيمة مُثمنة بأهمية الشىء ودوره، ومقدار احتياج أبناء المدينة له، أما فى الريف فحتى الأشجار لها أسماء، ولا معنى للحرية، لا يستسيغها «الأريفجية» ويطلقون على نقيضها «الهُوية» أما أبناء المدينة فيسمونها «سجن العادات والتقاليد».
ولأن «يوسف» لم يكن ليوضع فى قالب واحد، فقد تأكد من ثبات قدميه فى الأرض ثم حلق فى السماء طالباً الهُوية والحرية معاً.
مكتبة يوسف إدريس التى جرى تشييدها بجوار قبره والتى تحمل كتبا ذات قيمة كبيرة، خاوية دائماً، إلا من بعض المُريدين الذين يأتون إليها فى ذكرى ميلاده، ووفاته، أبرزهم الكاتب «محمود أحمد علي» الذى لقب نفسه ب «عاشق القصة القصيرة» بسبب عشقه ليوسف إدريس، أيضا يوجد فوق المكتبة متحف يحوى مقتنياته، مغلق طوال العام، لأنه لا أحد يأتى، مثل الأوراق التى كتب فيها مسودات قصصه بخط يده، وكذلك البدلة الكُحلى والجزمة وفرشاة الأسنان السوداء، والولاعة الذهبية، وبعض الجوائز التى حصدها، وصور له فى الجيش. ومن المثير للدهشة أن بعض الأهالى اقترحوا تحويل المكتبة إلى «طاحونة عِيش» لإنتاج الخبز، وأظن أنه لو كان حيا بيننا، سيوافق بالتأكيد، ألم يكن هدفه دوما «العَيش».
وفى ذكرى وفاته أقول له: أنا أحبك رغم كرهى الشديد لك، أشباحك المتمردة تُطاردنى، لذا أحاول قتلهم بالكتابة، لكنهم يتمسكون بالحياة تمسكا غريبا، وقد رأيت أحفاد الجيل الذى عاصرته ودونته فى قصصك، رأيتهم كلهم، ولم أرك بينهم!.
لروحك السلام، أيها الشبح..
«شيخوف».. يابانى أصلى!
قبل 24 عاما حصل اليابانى «فوكودا يوشاكى» على درجة الدكتوراه فى «الفضاء المدينى فى أعمال نجيب محفوظ،» ولكنه حين كان يعقد مقارنات تساعده على فهم (القاهرة) المدينة المحفوظية، انجذب إلى يوسف إدريس!
يقول د. «فوكودا»: يوسف إدريس من أبناء الدلتا، ينظر إلى القاهرة من الخارج، بخلفية ريفية فتجىء كتاباته عبر ثنائية المدينة والريف، ما يفتقره أدب محفوظ.
وأضاف: إدريس لم يكن معنى بكتابة قصص تدور أحداثها داخل المدينة فقط مثل «نظرة» و»مارش الغروب» و»شيخوخة بدون جنون» و»قاع المدينة»، لكنه مهموم بانتقال الشخص من القرية إلى المدينة.
وقال إن أعمال نجيب محفوظ التى ترجمت إلى اليابانية بعد «نوبل» اقتصرت على «بين القصرين» من الثلاثية، و»السمان والخريف»، و»السراب»، و»ليالى ألف ليلة وليلة»، وبعض قصصه القصيرة. عشق «يوشاكي» ليوسف إدريس، جعله يعكف على مشروع ترجمة أعماله، لأن قصص إدريس - من وجهة نظره - يمكنها أن تصل إلى قلوب اليابانيين بشكل أسهل من أعمال «محفوظ»، خاصة أن روايات الأديب العالمى مليئة بالسياسات، والتاريخ الخاص بمصر الحديثة، والقارئ اليابانى يحتاج دائما فى قراءتها إلى معلومات معينة وخلفية تاريخية حتى يفهمها، أما يوسف إدريس فيتحدث دائما فى أدبه عن الإنسان العادى، الذى يمكنك أن تقابله فى أى مكان فى العالم، بصرف النظر عن هويته.
«إدريس» بطلا لقصص غيره
حين يعشق القاص أحد أدبائه المفضلين، يحول معشوقه إلي بطلا لقصته، ويرغب في ابتكار نسخة جديدة من ملهمه ليكون أسطورة شعبية داخل عالمه، أو محاولة لتعبير عن حبه وامتنانه له.
هذا ما جرى مع أديبنا الفذ يوسف إدريس الذي صار محورا رئيسيا لقصص كتبها مبدعون مثل الأديب الكبير د.محمد المخزنجي؛ الذي كتب قصة بعنوان «يوسف إدريس» ضمن كتابه القصصي «البستان»، تحكي عن شخص ذاهب إلي منزل يوسف إدريس، وحين طرق بابه، وجد كهلا لا يشبه «إدريس»، دعاه إلي الدخول. كان أثاث المنزل قديما، تحدث المسن كثيرا معه، أدرك الشخص إنه ليس بيت «إدريس»، بل كان بيته هو المجاور، ثم نجح في العثور علي يوسف إدريس الحقيقي، وحين تقرأ القصة، تشعر إنها تحية إلي أديب قدير تجاوز سن الستين، لا يزال يكتب بروح شابة، يتابع نصوص الأجيال الجديدة، يقرأ أعمال إبداعية لأدباء في بداية رحلتهم في الكتاب.. كما كتبت الأديبة هند جعفر عن إدريس في قصة «رؤيا» ضمن مجموعتها القصصية «عدودة»، وتقول عن سبب اختيارها لإدريس: بعد أن قرأت مجموعته «أرخص ليالى»، عشقت القصة القصيرة قرأتها في مرحلة مبكرة للغاية كنت في المرحلة الابتدائية، أعدت قراءتها عشرات المرات حتى اهترأت نسختي التى اقتنيتها بجنيه واحد من مشروع مكتبة الأسرة، أحببت شخصياته وعوالمه، وتأثرت به كثيرا بعدها قرأت «موباسان» و»تشيكوف» وغيرهما، ولكن ظل «إدريس» هو المعلم بالنسبة إلى، أحيانا أحدث نفسي بأن «إدريس» لو كان صاحب جنسية أخرى لحصل على «نوبل بسهولة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.