كنت أتمنى أن أعيش زمنه ولكي ألتقى به وأوجه له عدداً من الأسئلة التى لم أجد لها إجابة واضحة ومباشرة وصريحة فى مذكراته التى نشرها مسلسلة بمجلة «الإثنين» بعنوان «يوميات مجنون»، وكل ما قرأته عنه من مقالاتٍ ومؤلفات، وما رُوى عن نوادره مع كبار عصره من الأدباء والشعراء والمفكرين الذين تفوق عليهم بشعره فى الهجاء والمديح. نتحدث اليوم عن الشاعر البائس المعذب المشرد عبد الحميد الديب فى ذكرى ميلاده ال 126، ونضيء له 126 شمعة، كنا نتمنى أن تحتفى الفضائيات العربية - وما أكثرها - والمؤسسات الثقافية الرسمية بذكرى ميلاده لأنه من الشعراء الكبار جداً، ومأساة حياته تصلح لعمل درامى تليفزيونى فريد ومتميز يروى 45 عاماً عاشها منذ مولده فى يوليو 1898 بقرية كمشيش بمحافظة المنوفية حتى رحيله فى أبريل 1943 بالقاهرة، رحلة قصيرة عاشها كما لم يعشها شاعر آخر، منذ أن جاء للدراسة بالأزهر وانتقاله منه إلى دار العلوم عندما علم أنها تمنح الدارس وجبة غذائية ومكافأة مالية هزيلة. يقول كاتب سيرته د.عبد الرحمن عثمان: إن الديب تلقى أولى صدامات الحزن عندما مات صديقه الشاب الإعرابي سالم، وعصرته حياة البؤس فى أسرة فقيرة عانت من الفقر المدقع، وجاء رحيل والده أثناء دراسته بدار العلوم ليزيد من البؤس والفاقة التى كان يعيش فيها، كان يسكن فى غرفة فقيرة يسميها «جحر الديب» بلا أثاث أو أى شيء، يصفها لنا قائلاً : « أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها / فأرجله امضى من الصارم الهندي/ تساكننى فيها الأفاعى جريئة / وفى جوها الأمراض تفتك أو تعدى / ترانى بها كلّ الأثاث فمعطفى / فراش لنومى أو وقاء من البرد/ وأما وساداتى بها فجرائد/ تجدد إذ تبلى على حجر صلد»، وعندما عجز عن دفع إيجارها طرده صاحب البيت، فكان يبيت فى المساجد والخرابات ومداخل البنايات وفى أغلب الأحيان على دكة خشبية بمقهى الفيشاوى بملابسه الرثة وطربوشه «المزيت»، وله مع الطربوش دعابة، إذ أنه كان يذهب به إلى الطرابيشى كل فترة بعيدة من الزمن ويطلب منه أن «يقلبه» على الوجه الآخر، فيقول الطرابيشي: إنه قلبه من قبل، فقال الديب: «طب أعدله» ! ◄ اقرأ أيضًا | حكايات| عملاق الفكر مع القرد والثعلب وفرس النهر.. حديقة حيوانات في منزل «العقاد»! ويتحدث عبد الحميد الديب عن نفسه أمام ما يتعرض له من ظلم ونظرة دونية يقابله بها الناس قائلاً : « أذله الدهر لا مال ولا سكن / فتى تزيد على أنفاسه المِحَن / إذا سعى فجميعُ الأرض قبلتُه / وإنْ أقام فلا أهل ولا وطن / ثيابه - كأمانيه - ممزَّقة / كأنها وهى حىٌّ فوقه كفن»، ويصرخ لاعناً زمانه الذى لا يعرف قيمته قائلًا: «يا أمة جهلتنى وهى عالمة / إن الكواكب من نورى وإشراقى / أعيش فيكم بلا أهل ولا سكن / كعيش مُنتجِع المعروف أفاق/ وليس لى من حبيبٍ فى دياركُمُ / إلا الحبيبين أقلامى وأوراقى». وصل الأمر بعبد الحميد الديب إلى أن يأخذ حقه من الناس والدنيا التى جارت عليه بلسانه السليط، مثلما فعل مع «الحلاق» الذى ينفحه قروش يعتاش بها فكتب يمدحه: «أخى وجارى وحلاقى وديانى / وممسكى إن أمال الدهر ميزاني/ مقصه خالق الشيب يمحقه / وحالق بالحديث الغث أحزانى/ مرآة زينةَ للعين ساحرة / وموساه أفضل من موسى ابن عمرانِ»، وعندما انتقده البعض على تشبيه حلاقه بالنبى موسى روى قصة مُختلقة أسندها للجبرتى والجبرتى منها براء، زعم أن «موسى ابن عمران» هذا كان نقيباً للحلاقين فى زمن الحملة الفرنسية، قطع بموساه رقبة ألف جندى من جنود الفرنسيس، ومن يطالبه بما عليه من ديون متراكمة لا يسددها يهجوه بسخرية موجعة مثلما فعل مع « المالكى» اللبان عندما كتب على حائط دكانه: «برىء منك مولانا ابن مالك / رماك الله فى شر المهالك / لبانك كله سم زعاف / ومن غش البرية رأسمالك / فويل من رجال الحى طرا / ونسوته إذا علموا بذلك». فى رحلة الصعلكة والبؤس الذى كان يعيشه الديب، لعبت الصدفة دورها عندما ذهب إلى مقهى «البرابرة الوحيد»، جلس لعل أحداً يعطف عليه بشيء، سمع شاباً قوى البنيان يترنم بجملة لحنية يبدأها بعبارة «والله تستاهل يا قلبى» ويعانى فى البحث عن استكمال الكلمات، فيذهب الديب نحوه قائلاً: «والله تستاهل يا قلبى / ليه تميل ما كنت خالي/ أنت أسباب كل كربى / انت أسباب ما جرالى»، تفرس الشيخ سيد درويش فى وجهه وملابسه المذرية وعرف منه أن اسمه عبد الحميد الديب، من تلك اللحظة أصبح الديب فى معية سيد درويش، أقام معه بمسكنه وعاش حياة المترفين، إلى أن رحل الشيخ سيد عام 1921، وبرحيله عاد الديب لحياة الجوع والفقر والصعلكة، وغرق فى مستنقع الهيروين، أصبح الديب عدوانياً بسبب الإدمان، كان يحتقر الناس الذين ينظرون له بدونية ويهجوهم بسخرية مؤلمة، ويحتقر نفسه وملابسه المذرية، كان يتسول «شمة» هيروين وكأس خمر رخيص، كان يبيت فى الخرابات، وزبوناً دائماً بأقسام البوليس للديون المتراكمة عليه ! وله مع المفكر الكبير عباس محمود العقاد نادرة تُروى فى المجالس الأدبية، كان العقاد من المعجبين بأشعاره ويود أن يعطف عليه دون أن يجرح شعوره، فكتب العقاد إهداء على كتاب جديد صدر له لمجموعة من الكتاب والأدباء والشعراء والصحفيين، ونفح الديب مبلغاً من المال لكى يقوم بتوزيع الكتاب على من أهداها لهم ، تسلم الديب ربطة الكتب وكان قد صدر للعقاد كتاب جديد أراد أن يقدم نسخاً بإهداء منه لأصدقائه من أعلام الأدب والصحافة وطلب من الديب أن يقوم بتوزيعها نيابة عنه، حمل الديب الكتب وانصرف لحال سبيله، وبعد دقائق جاء بائع من باعة سور الأزبكية للمكتبة التى لم يغادرها العقاد بربطة الكتب وأخبره أنه أشتراها من رجل بائس.. ولما فتحها وجد على كل نسخة إهداءً إلى شخصية شهيرة فجاء بها إلى المكتبة ليتصرف فيها صاحبها، ودفع العقاد للبائع المبلغ الذى اشترى به النسخ من الديب وزيادة ! ومن نوادره التى يرويها الساخر محمود السعدنى فى كتاب «الظرفاء» أنه ذهب مع صديق له لتأدية واجب العزاء، وكان السرادق مليئاً بأصحاب العمائم، ووقف فجأة على دكة خشبية قائلاً: «يا أيها الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات عزيز عليكم فحلوا عمائمكم»، حل المعزون عمائمهم، ثم قال لهم: «أعيدوها كما كانت»، ويتنبه طالب أزهرى كان بالسرداق لعدم وجود حديث نبوى فى هذا الشأن، فثار من غرر بهم الديب وانهالوا عليه ضرباً مبرحاً جعله يرقد شهراً بلا حركة ! ويحدثنا عبد الحميد الديب فى مذكراته التى نشرها مسلسلة بمجلة «الإثنين» تحت عنوان «يوميات مجنون»، عن الهيروين الذى أتلف عقله، والفترة التى أقتيد فيها إلى مستشفى «الخانكة» للمجانين الذى لم يخرج منه إلا بعد أن تم شفاؤه، لكنه خرج بجسد هزيل يثير الشفقة، خرج ليلعن عديمى الموهبة، ويواصل الديب حياته مبدعاً فى شعره وبائساً فى حياته حتى يشعر بدنو الأجل وقرب نهاية رحلة الشقاء والتعب والتعاسة، وتصعد روحه إلى بارئها فى 20 أبريل عام 1943، عاش بائساً ومات وحيداً، الوحيد الذى تذكره عند رحيله صديقه الشاعر الكبير كامل الشناوى الذى كتب يودعه: «تعرى الديب واكتست حوائط الأضرحة.. وطعمت كلاب الأرض وجاع عبد الحميد الديب». وقد وصفه السياسى فتحى رضوان فى كتاب «عصر ورجال» بالشاعر الفذ، وتناوله الكاتب يوسف الشريف فى كتاب «صعاليك الزمن الجميل» «واصفاً حياته بالقصة المأساوية لشاعر عظيم، وكتب عنه كامل الشناوى فى كتاب «زعماء وفنانون وأدباء» بأنه عاش بلا مأوى، بلا أهل، بلا عمل، كان يعيش فى الزمان لا فى المكان، ويحز فى نفسه أن الناس لا يعطفون عليه لأنه شاعر، وإنما لأنه بائس، فقير مريض، فيشعر بالمرارة إزاء الناس جميعًا». عبد الحميد الديب له شارع يحمل اسمه فى منطقة الخلفاوى نهاية شارع شبرا، وكُتبت فيه مئات المقالات والكثير من المؤلفات فى شعره وحياته البائسة، ويبقى السؤال الذى كنت أود أن يجيبنى عليه: «هل جنت عليك الدنيا يا عبقرى الشعر والسخرية.. أم أنك من جنيت على نفسك وأستعذبت البؤس والصعلكة لحياتك القصيرة التى عشتها ؟!»