يأتي هذا المقال ليكون ختام موضوعنا الذي افردنا له ستة أجزاء، أردنا خلال هذه الأجزاء أن نصل إلى المنهج التي اتبعه أفلاطون ليصل إلى المعرفة الحقة، ولكي يكتمل مبتغانا أردنا ختم هذا الموضوع بأسطورة الكهف الأفلاطونية، الأسطورة الأشهر في تاريخ الفكر الفلسفي القديم والحديث، ولا نجانب الصواب إن قلنا إنها الأشهر حتى الآن. على الرغم من أننا لفتنا لها النظر في كبسولة فلسفة، نُشَرَتَ سابقًا، إلا أنها تأتي هنا لتكون الضلع المتمم لاكتمال تصورنا حول المنهج الأفلاطوني في وصوله للمعرفة. عزيزي القارئ، أسطورة الكهف التي وردت في كتاب «الجمهورية» (باليونانية: Πολιτεία – بالإنجليزية: Republic) حيث يحاول من خلالها أفلاطون أن يقرب لنا نظريته في المعرفة: «يجعلنا أفلاطون في هذه الأسطورة نتصور أناسًا مقيدين منذ نعومة أظافرهم في كهف مظلم، بحيث تعوقهم تلك القيود من الالتفات إلى الوراء أو الصعود خارج الكهف. وفي الكهف هناك ما يشبه النافذة التي ينبعث منها نور الشمس، وبين النور ونافذة الكهف هناك طريق يمر منه أناس يحملون أشياء عديدة، وحينما تضرب أشعة النور في تلك الأشياء تنعكس ظلالها على الجدار الداخلي للكهف. هكذا لا يرى السجناء داخل الكهف من الأشياء الموجودة خارج الكهف إلا ظلالها. وقد حدث أن تم تخليص أحدهم من قيوده، بحيث تمكن من الصعود خارج الكهف ولو بشق الأنفس. وقد أدرك أن الأشياء خارج الكهف تختلف عن الأشياء بداخله، بحيث تعتبر هذه الأشياء مجرد ظلال أو نسخ للأولي. هذا سُر بما رآه ثم قرر بعد ذلك العود إلى الناس داخل الكهف لإخبارهم بحقيقة ما شاهده، وتنبههم إلى حالة الأخطاء والاوهام التي يعيشونها». وبهذا نستطيع أن نصل إلى المعرفة الفطرية من خلال رموز أسطورة الكهف، فإن المقصود بالكهف عند أفلاطون هو العالم الحسي، أي عالمنا نحن وسائر الأشياء المادية حولنا. والأسري فيه هم نحن بنو البشر المكبلين بأغلال وقيود هي الجسد التي تحل فيها نفوسنا، فالجسد سجن للنفس، ولذلك فإن محاولة أهل الكهف، الدائبة نحو الإفلات من الأغلال، للنفس التي تحاول جاهدة التحرر من شهوات الجسد وأهوائه، قاصدة عالم الحقائق الكلية الأبدية، عالم القيم والمثل، عالم الحق والخير والجمال والنظام والانسجام البهاء. والضوء الذي يطل على أهل الكهف ليس إلا صورة الحقائق الكلية التي تطل على النفس فتشع فيها وتنشد وتضيؤوها بالمعارف والعلوم بعد أن كانت مليئة بالجهل المظلم بسبب محايثتها للبدن ومعاشرتها له. والشمس التي تشرق عليهم هي مثال المثل، هي الخير الأبدي الأزلي الذي هو محور كل الفلسفة الأفلاطونية. والرجل الصاعد هو عبارة عن الأنسان الذي استطاع أن يتغلب على مطالب جسده، وتحرر من جميع شهواته ورغباته الحسية المادية، وتعالي عليها، وانشغلت نفسه، ومليء قلبه وعقله بسائر الامور العقلية الروحانية الأبدية الكلية، التي هي أمور إلهية عند أفلاطون. إلا أننا نري شيئين تتضمنهما قصة أفلاطون الرمزية عن الكهف: الأول: أن رؤية الفيلسوف للعالم تختلف عن نظرة التأمل العاديين. لأنه ارتفع فوق عالم الظاهر، ودخل عالم الحقيقة. الثاني: أنه ليس من الممكن لفيلسوف أن يوصل للناس العاديين تجربته مع العالم الحقيقي، لأنه لا يوجد شيء في تربيتهم يمكنهم من فهم ما يمكن أن يحاول الفيلسوف ان يخبرهم به. وغالباً ما يسخرون منه، وأحياناً يلومونه بسبب سوء حظهم كما هي الحال عندما حكم الأثينيين على سقراط بالموت. ومن هنا يمكن القول، إن حياتنا في هذا العالم المحسوس هي حياة السجناء في الكهف، فنحن أثناءها مقيدون بجسمنا لا نستطيع أن ندرك إلا ما هو محسوس. وبالرغم من أن هذا المحسوس لا يمثل إلا ظلال الحقيقة، فإننا مع ذلك نتعامل معه على أنه الحقيقة. هكذا فنحن لا نستطيع إدراك الحقيقة في هذا العالم المحسوس، بل يتعين بلوغها في العالم المعقول عن طريق التحرر من قيود الحواس والجسد، وهذا ما يفعله بالضبط الفيلسوف. عزيزي القارئ لاحظنا خلال الأجزاء الستة من موضوعنا، أن أفلاطون أرد أن يُبلغنا أنه لا يجوز اعتبار الحواس وحدها أساسًا للمعرفة، وإنه لا بد من توسط العقل لتصحيح الإدراك الخاطئ ولإعطاء صورة حقيقية عن المُدرك. وإن لهذه الحقيقة العقلية وجوداً ذاتيًا مستقلًا أصيلًا، مم دفع بأفلاطون للانطلاق إلى نظرية الحقائق الكلية أو نظرية المُثل، التي أسس عليها أفلاطون سرح فلسفته المثالية، والتي كانت الأساس التي شيد عليها نظيرته في المعرفة.