نائب رئيس جامعة الأزهر يشدد على ضرورة الالتزام بالضوابط واللوائح المنظمة لأعمال الامتحانات    جامعة جنوب الوادي تشارك في الملتقى العلمي الثاني لوحدة البرامج المهنية بأسيوط    «التعليم العالي» تنظم حفل تخرج للوافدين من المركز الثقافي المصري لتعليم اللغة العربية    إعلان نتائج مسابقة الطلاب المثاليين بكليات جامعة المنيا الأهلية    أسعار الدواجن والبيض مساء السبت 14 يونيو 2025    إزالة 60 حالة تعدٍّ على أملاك الدولة والأراضي الزراعية في أسوان    خبير اقتصادي: الدولة المصرية تتعامل بمرونة واستباقية مع أي تطورات جيوسياسية    بمنافذ ثابتة ومتنقلة.. طرح خضروات وفاكهة بأسعار مخفضة في الوادي الجديد    تاياني: إسرائيل حصلت على معلومات عن استعداد إيران لإنتاج 10 قنابل نووية    «سنقف إلى جانب إيران».. وزير دفاع باكستان يطالب باتحاد العالم الإسلامي ضد إسرائيل    مانشستر سيتي ينهي إجراءات ضم النرويجي سفيري نيبان والكشف الطبي الاثنين    «توقعاتي مختلفة».. أول رد من ميسي قبل مواجهة الأهلي في كأس العالم للأندية    نجم الأردن يكشف حقيقة اهتمام الأهلي والزمالك بضمه    بعد توصية ميدو.. أزمة في الزمالك بسبب طارق حامد (خاص)    ديمبلي: أطمح للفوز بالكرة الذهبية    محافظ القليوبية يعلن جاهزية اللجان لاستقبال طلاب الثانوية العامة    عاجل.. السجن المؤبد لمتهمة وبحيازة مواد مفرقعة بالهرم    تخفيف عقوبة السجن المشدد ل متهم بالشروع في القتل ب المنيا    تاجيل الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير للربع الأخير من العام الجاري    «إيه اليوم الحلو ده؟».. أول تعليق ل يوسف حشيش بعد زفافه على منة القيعي    رئيس الوزراء يتفقد مركز تنمية الأسرة والطفل ب زاوية صقر بالبحيرة (صور)    مسلسل فات الميعاد.. هل تطلب أسماء أبو اليزيد الطلاق من أحمد مجدي بعد سرقته لها    رئيس جامعة القاهرة يهنئ عميدة كلية الإعلام الأسبق بجائزة «أطوار بهجت»    محافظ المنوفية يدشن القافلة الطبية والغذائية بالمجان لعمال منظومة النظافة    اختيار مصر للاستفادة من برنامج CIF لخفض الانبعاثات بالقطاع الصناعي بقيمة مليار دولار    وزير الصحة يعتمد خطة التأمين الإسعافية لامتحانات الثانوية العامة    هيئة الرقابة النووية تنفي أي تغير أو زيادة بالخلفية الإشعاعية في مصر    القوات المسلحة تنظم زيارة للملحقين العسكريين إلى عدد من المنشآت.. صور    ستاد القاهرة يستضيف مباريات منتخب مصر في بطولة العالم لناشئي كرة اليد    أهم أخبار الكويت اليوم السبت 14 يونيو 2025    ثقافة الإسماعيلية تنفذ أنشطة متنوعة لتعزيز الوعي البيئي وتنمية مهارات النشء    غدا.. بدء التقديم "لمسابقة الأزهر للسنة النبوية"    فضل صيام أول أيام العام الهجري الجديد    بريطانيا تنفي تقديم الدعم لإسرائيل في الهجوم على إيران    توقيع بروتوكول تعاون بين جامعة كفر الشيخ وأمانة المراكز الطبية المتخصصة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم    وزير الصحة يعتمد خطة التأمين الإسعافية تزامنًا مع بدء امتحانات الثانوية العامة    تل أبيب تلوّح بالهيمنة الجوية على طهران.. فهل تغيّر إيران معادلة الرد؟    يسرى جبرى يرد على من يقولون إن فريضة الحج تعب ومشقة وزيارة حجارة    رئيس الوزراء يتفقد مدرسة رزق درويش الابتدائية بزاوية صقر الطلاب: البرنامج الصيفي مهم جدا لصقل المهارات    "القومي للأشخاص ذوي الإعاقة" ومؤسسة "شجرة التوت" يطلقان فعاليات منصة "القدرة على الفن - Artability HUB"    غدا .. انطلاق فعاليات مؤتمر التمويل التنموي لتمكين القطاع الخاص    مواطن لرئيس الوزراء: "بنتي اتعمت".. ومدبولي: "هنعمل اللازم فورًا"    إجرام واستعلاء.. حزب النور يستنكر الهجمات الإسرائيلية على إيران    طلب إحاطة يحذر من غش مواد البناء: تهديد لحياة المواطنين والمنشآت    القبض على شخص أطلق النيران على زوجتة بسبب رفضها العودة اليه بالمنيا    إيران تؤكد وقوع أضرار في موقع فوردو النووي    تأجيل محاكمة " أنوسة كوتة" فى قضية سيرك طنطا إلى جلسة يوم 21 من الشهر الحالي    نجاح استئصال جذرى للكلى بالمنظار لمريض يعانى من ورم خبيث بمبرة المحلة    "الحياة اليوم" يناقش آثار وتداعيات الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران    وكيل تعليم الإسماعيلية يجتمع برؤساء لجان الثانوية العامة    ضبط 3 عاطلين وسيدة بتهمة ارتكاب جرائم سرقات في القاهرة    نجم الأهلي: لن نبخل بنقطة عرق أمام إنتر ميامي    الطبيب الألماني يخطر أحمد حمدي بهذا الأمر    مدرب إنتر ميامي يراهن على تأثير ميسي أمام الأهلي    على غرار ياسين.. والدة طفل تتهم مدرب كاراتيه بهتك عرض نجلها بالفيوم    الصحة: قافلة متخصصة في جراحات الجهاز الهضمي للأطفال ب«طنطا العام» بمشاركة الخبير العالمي الدكتور كريم أبوالمجد    «الإفتاء» توضح كيفية الطهارة عند وقوع نجاسة ولم يُعرَف موضعها؟    ما حكم أداء النافلة بين الصلاتين عند جمع التقديم؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملامح موسيقية في الملحمة الشهرزادية
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 18 - 07 - 2024

تقدم الملحمة الشهرزادية للأديب المصرى حجاج أدول عبر أجزائها الستة عشر - حتى الآن- سردية كبرى وافرة الثراء والتنوع الجمالي، يتجلى ثراؤها على المستوى الكمى فيما تكتنزه داخلها من سرديات صغرى محكمة داخل إطارها الحكائى الأول والرئيس والذى يرتبط بشخصية عبد الرحيم الوسيم، وعلى المستوى الكيفى يتجلى ثراؤها فى تنوع طبيعة عناصرها السردية من فضاءات زمكانية وشخصيات وأحداث، فمنها ما يتماس مع صميم الواقع التاريخى الخارجى حتى نكاد نشير إلى مرجعه الخارجى الذى يرمز إليه، ومنها ما يضرب فى التخييل مبحرًا نحو عمق الأسطورة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ضبط الأداء السردى وإحكامه داخل هكذا بنية سردية تمتد نصيًا على مدى ستة عشر جزءًا وعلى هذه الدرجة من الثراء والتنوع؛ يضع أمام السارد رهانًا صارمًا يختبر قدرته على تنظيم السرديات الصغرى وإضفاء الوحدة على عناصرها متغايرة الطبيعة، ونظمها داخل السردية الكبرى فى وحدة وتناسق. وهذا منوط بسيطرة السارد على آليات تنظيمية للسرد، والتى جاءت فى الملحمة الشهرزادية أشبه بما يطلق عليه فى الموسيقى «درجة الركوز» وهى الموضع النغمى الذى ينطلق منه المقام الموسيقى محلقًا فى فضاء اللحن ثم ينتهى بالعودة إليها بالأخير.
سوف نحاول الوقوفَ على بعض أبرز الملامح السردية فى الملحمة الشهرزادية، من خلال تناول أهم العناصر التى مثلت درجات الركوز السردى فى الملحمة والتى حققت الوحدة السردية داخلها.
نظام العنونة
نظام العنونة فى الملحمة الشهرزادية نظام ثلاثى المستويات؛ تبدأ عنونة كل رواية من الروايات بلافتة عريضة تحمل العنوان الأول هو «ملحمة شهرزادية»، وهذا العنوان يشير إلى وجود علاقة دالة بين الملحمة الشهرزادية التى بين أيدينا وبين ليالى ألف ليلة وليلة، فما هى هذه المشتركات؟ وإذا كان ثمة مشتركات فهل يوجد ثمة اختلافات؟ وهذا ما سنقف عليه عند تناول المتن الروائي.
ثم يأتى المستوى الثانى للعنونة ويزداد فيه التخصيص بدرجة ما، ويضم العنوان التالى «حكايات عبد الرحيم الوسيم»، وهذا العنوان يشير إلى إحدى شخصيات الملحمة، وظهور اسم إحدى الشخصيات فى العنوان هو مؤشر دال على أهمية دورها فى المتن، فما هى تلك الأهمية؟ عندما تناول هذه الشخصية سنقف على واحدة من أهم درجات «الركوز» التنظيمية فى الملحمة.
يلى ذلك المستوى الثالث من العنونة وهو الأكثر تحديدًا وتخصيصًا بين مستويات العنونة الثلاثة، وهو يختلف من رواية إلى أخرى بحسب العنصر الأبرز الذى سيتم التبئير عليه فى ذلك الجزء من أجزاء الملحمة، فنجد من تلك العناوين: ابن ابيه، الطموح المستحيل، جونجى الهندي، جونجى وغضب الآلهة، صراعات البادية والواحة، ميناء القراصنة وعصابة العاهات، ميناء القراصنة ومخبول السماؤول.
نخلص من هذا الاستعراض السريع لطبيعة نظام العنونة فى الملحمة الشهرزادية إلى القول بأن العنونة فى روايات الملحمة الشهرزادية بمثابة العقدة التى تتجمع عندها أطراف الخيوط السردية والموضوعية التى تتفرع وتتشابك داخل الملحمة بكل أجزائها. وانطلاقًا من تلك الأسئلة التى أثارها لدينا تأمل نظام العنونة سوف نقارب المتن الروائى لنقف عند بعض ملامحه المائزة.
لماذا شهرزاد ساردة دون أى سارد آخر؟
استلهمت الملحمة الشهرزادية طرفى التواصل السردى (السارد/المخاطب السردي) من ألف ليلة وليلة، فالساردة هى شهرزاد التى تحكى وتتحكم فى تنظيم السرد وكمية المعلومات السردية وتوقيت الإفصاح عنها، وهى التى تملك صلاحية بدء الحكى وإنهائه، والمخاطب السردى أمامها هو شهريار الذى تتوجه إليه شهرزاد بخطابها والذى يقتصر دوره فى الملحمة الشهرزادية على الاستماع.
هنا نجد أن نمطى السارد والمخاطب السردى فى الملحمة الشهرزادية يختلفا عنه فى الليالي، فشهرزاد وشهريار فى الملحمة ليسا طرفين فى الحكاية كما فى ألف ليلة وليلة، كما نجد فارقًا آخر فى وظيفة الحكى ذاته، فاستمرار الحكى فى ألف ليلة وليلة على لسان شهرزاد كان كفيلًا بأن يضيف إلى حياتها كل ليلة يومًا جديدًا، ويؤجل أمر شهريار لمسرور السياف؛ رغبة منه فى معرفة تكملة الحكاية، وهذا ما لا نجده فى الملحمة الشهرزادية، وهنا يتبادر السؤال التالي: لماذا تم اختيار شهرزاد بالتحديد ساردة للملحمة الشهرزادية دون أى سارد آخر كلى المعرفة إذا كان الأمر مقتصرًا على تنظيم السرد دون أن يكون مشاركًا فى الحكاية؟ وخاصة أن الملحمة الشهرزادية لا تسعى إلى إعادة إنتاج الليالي، وإنما تسعى إلى إنشاء ليال على نسق خاص وإن كانت تستلهم روح وطبيعة الحكى فى ألف ليلة وليلة؟ والإجابة التى توضح اختيار شهرزاد على وجه التحديد بوصفها ساردة نعثر عليها على مستوى التنظيم البنائى للملحمة.
التنظيم البنائى للملحمة
تمتد الملحمة الشهرزادية نصيًا فى ستة عشر جزءًا، وهذا الامتداد النصى الطويل نسبيًا إن لم يتأسس على نقاط «ركوز» وتنظيم سردى ضابطة لوحدته يكون مهددًا بفقد وحدته النصية، وأولى تلك النقاط الضابطة كان التنظيم البنائى للملحمة نفسه، فالملحمة الشهرزادية تنقسم إلى ليال مرقمة بعنوان كل ليلة، تملك شهرزاد فيها زمام الحكي، الذى تبدأه فى مقدمة كل ليلة بديباجة تفتتح بها باب الحكى مخاطبة شهريار، وينتهى الحكى مع انتهاء الليل عند حدث صاعد نحو التأزم لضمان استمرار تشويق المخاطب السردي/شهريار، خاتمة كلامها باللازمة الشهيرة «مولاي».
هذه البنية التركيبة الموحدة لكل فصول الملحمة/لياليها، وعبر أجزائها والتى استلهمت البنية التركيبية لليالى ألف ليلة,كان لها دور كبير فى إسباغ الوحدة والتناغم بين العناصر السردية المتنوعة كمًا وكيفًا والتى أشرنا إليها سابقًا، وجعلت من اختيار شهرزاد بالتحديد بوصفها ساردة ضرورة فنية، حيث أنها ترتبط بالفعل فى ذهن المتلقى وخلفيته الثقافية بذلك النسق البنائى بالتحديد دون غيره.
اختيار شهرزاد بوصفها ساردة فى الملحمة الشهرزادية كان إحدى نقاط الركوز والتنظيم السردى عبر أجزاء الملحمة. فاختيارها أضاف إلى وظائف السارد المعهودة وظيفة إضفاء الوحدة والتناغم بين العناصر المتنوعة والمختلفة داخل هذا المحيط السردى المترامى الأطراف، وكان التنظيم البنائى الذى تحتل شهرزاد مركزة أشبه بدرجة «الركوز» فى المقام الموسيقى التى يبدأ منها المقام وينتهى إليها.
الشخصيات.. الوفرة والتنوع
من السمات البارزة التى تميز عالم الشخصية فى الملحمة الشهرزادية هى وفرتها كمًا وتنوعها كيفًا، فالملحمة الشهرزادية ثرية بشخصياتها المتنوعة فى طبيعتها السردية؛ فبعضها يشير إلى مرجعه الخارجى الواقعى بوضوح، وبعضها يبحر فى عمق التخيل والزمكانية الأسطورية، بعضها يرتبط بالمسار السردى الرئيسى منذ الجزء الأول، وبعضها يقتصر على كونه دوامة تعبر نهر السر، وبعضها يحضر فى السرد بوصفه رافدًا فرعيًا يخرج عن نهر السرد الرئيس يمتد عبر جزء أو أكثر وما أن ينتهى دوره السردى حتى تتم العودة إلى المسار الرئيس مرة أخرى.
وسوف نستعرض ثلاثة نماذج للتمثيل على تنوع طبيعة الشخصية فى الملحمة الشهرزادية؛ وهى شخصيات: عبد الرحيم الوسيم، وفودة، والمخبول.
عبد الرحيم الوسيم
تعد شخصية عبد الرحيم الوسيم من أبرز عناصر الارتكاز السردى فى الملحمة الشهرزادية، فعلى مدار أجزاء الملحمة تمثل شخصيته العمود الفقرى للسرد، الذى تنتظم حوله مختلفُ العناصر السردية من أحداث وشخصيات وفضاءات.
تتجلى الإشارة إلى الأهمية الوظيفية لشخصية عبد الرحيم الوسيم فيتواتر اسمه فى عناوين أجزاء الملحمة، كما تتجسد أهمية شخصيته سرديًا على النحو التالي:
أولًا: شخصية عبد الرحيم الوسيم هى الشخصية المحورية التى ترتبط بمسار السرد الإطارى الرئيس فى الملحمة منذ الجزء الأول، فالملحمة تبدأ فى الجزء الأول بولادته غير الشرعية عبر علاقة أمه «النبيلة» وحبيبها «تامر بن الفارع»، وتنتقل فى الجزء الثانى إلى طموحه المستحيل فى القوة والسيطرة، التى يزكيها فى نفسه الإنسى المسخوط جونجى الهندى الذى يمتد حضوره السردى فى الجزأين الثالث والرابع، وفى الأجزاء الخامس والسادس والسابع يتبع انتقاله انتقال السرد إلى أفضية مكانية مختلفة هى واحة النخيل ثم ميناء القراصنة، فيصبح وجوده فى تلك الفضاءات المكانية هو المسوغ السردى لانتقال بؤرة السرد إليها وظهور شخصيات تلك الفضاءات الجديدة على مسرح الأحداث.. وهكذا.
يبدأ الجزء الخامس برحلة عبد الرحيم إلى واحة النخيل لمقابلة «تامر بن الفارع» والذى يعرف أنه أبوه الحقيقي، ليستعين به على دخول ميناء القراصنة الذى تحكمه عصابة العاهات، وهذه الرحلة فى المكان تمثل لقاء بين نسقين ثقافيين مختلفين، نسق بدوى صحراوى يعتمد على قطع الطرق والسلب يمثل الخلفية الثقافية التى جاء منها عبد الرحيم. ونسق أكثر تحضرًا يعتمد على التعايش السلمى والتجارة مع قراصنة الميناء دون إراقة دماء وتمثله واحة النخيل وأهلها.
ابنة عبد الرحيم الأحب إلى قلبه»النبيلة الثانية» تتردد على واحة النخيل، وتتحرر من قيود البادية وتقع فى حب «غريب» الفقير الغريب عن الواحة، وعندما يعلم بأمرها يستدعيها ويشتد فى عقابها بركلة تكاد تودى بحياتها، فتهرب النبيلة مع حبيبها، فيتبعها عبد الرحيم إلى ميناء القراصنة رغبة فى التكفير عن شعوره بالذنب. لكنه يصل ميناء القراصنة بعد أن تكون المركب التى أقلتها قد دخلت فى عمق البحر، فيلقى بنفسه خلفها ولكنه وهو الصحراوى الذى لا يتقن السباحة، يكاد يغرق ويسقط مغشيًا عليه.
يبدأ الجزء السادس عندما يستفيق «عبد الرحيم» ويجد نفسه فى بيت المتعة بجوار الفتاة «صقر» الموجود فى ميناء القراصنة، وهذا الميناء سيمثل الفضاء الرئيسى لأحداث الجزئين السادس والسابع. وهنا تجدر الإشارة إلى وفرة الشخصيات التى تقطن ميناء القراصنة والتى ستظهر على مسرح الأحداث فى هذين الجزئين ومنها: الجارية صقر، والفتاة أربعة عشر، وأفراد عصابة العاهات والمخبول، والأخوة التوائم الثلاثة الأعمى والأخرس والأطرش، والكتعاء، وزعيم العصابة الخرتيت، والذكر، والقرصان الطويل النحيل... إلخ.
هذه الشخصيات اقترب السرد منها وتعمق فى حياتها وتفاصيلها الدقيقة وتاريخها، لدرجة أصبحت معها تلك الشخصيات تكاد تستقل بسردياتها داخل إطار سردية الملحمة الشهرزادية، ومع ملاحظة أن هذه الطائفة من الشخصيات خرجت إلى عالم التخييل الروائى بعد وصول «عبد الرحيم» إلى ميناء القراصنة، والذى كان حضوره إلى ميناء القراصنة هو المسوغ السردى لظهور هذه الشخصيات، ومع مغادرته الميناء تكون أدوراها السردية قد انتهت.
فودة.. التخييل يقدم التحية إلى الواقع
تعد شخصية فودة من أبرز شخصيات الملحمة التى تشير إلى مرجعها الخارجى بوضوح، ومرجعها هو المفكر الراحل فرج فودة، والذى وجهت له الملحمة التحية مرتين فى الجزء الخامس؛ الأولى حملها الإهداء: «إلى المفكر الشجاع فرج فودة. أنت المتواجد النبيل رغم الاغتيال، أما تواجد مغتاليك، فمثل خيبات تبعث القرف وتذكر بالانحطاط».
والتحية الثانية كانت عبر شخصية «فودة» وسرديته فى الرواية، والتى وظفت توظيفًا ثقافيا يؤكد التضاد بين النسق الثقافى للبادية المتأسس على العنف، وبين النسق الثقافى المغاير فى واحة النخيل الذى يقوم على إحلال السلم كأساس للتعاون وتبادل المصالح المشتركة، أما الوظيفة السردية الموضوعية لشخصية فودة فتتمثل فى كونه أحد العقول الأربعة الرشيدة التى تقود أهل الواحة فهو: «من أقوى الشخصيات الرافضة لسيطرة بدو الصحراء على الواحة، وفودة هو المدافع المستميت ضد غزو أفكار ذوى الذقون الشبرين» ج 5 ص4.
شخصية «فودة» هى المقابل السردى والثقافى لشخصية الشيخ «بعرور» المتطرف الذى أتى أكثر من مرة لزيارة واحة النخيل، «وجالس مجاميع من أهل الواحة ليبث فيهم تطرفه، خطب خطبة الجمعة مرة وأعلن بكل جرأة وقحة، أنه وأتباعَه هم الفرقةُ الإسلامية الناجية التى حدث عنها رسولُ الإسلام، وأن غيرهم من الفرق فرق هالكة وسيردون جهنم» ج 5 ص4.
«فودة» هو الذى يتصدى فكريًا للخطاب التكفيري، ويحطم مقولاته وتفسيراته، فيدب الرعب والحقد فى قلب»الشحات» ابن الواحة الذى صار صنيعة ذلك الفكر المتطرف الذى يستحل دم فودة.
وتكتمل الرمزية السردية لشخصية «فودة» الذى عاش على شجاعة الرأى ومات ثابتًا على موقفه، بتلك النهاية السردية التى تستدعى حادثة اغتيال فرج فودة:
«فودة يخرج من بيته ليتابع بعض أمور الساقية الكبيرة، لا يتوقف فودة عن العمل، أمام بيته العديد من أشجار الفاكهة والتمر وكأنها خيالاتٌ فى الظلام. الصبيُ مختبئٌ خلف ساق شجرة وقد أعد القوس والسهم. لم يبتعد فودة عن باب بيته خطوات، حتى رشق السهم فى صدره. صاح ألمًا وهو يسقط أرضًا» ج5 ص49.
المخبول وتحقيق المحال
يعد الأديب حجاج أدول من أمهر صناع الشخصيات الأسطورية، فهى يحتفى برسم الشخصيات بكل عناية حتى لو لم تكن شخصيةً محوريةً أو جاءت فى سردية ثانوية متفرعة عن السردية الرئيسية، فإنه يرسمها بعناية ويمنحها من التفاصيل ما يضخ فيها من الحياة ما يبقيها فى ذاكرة المتلقي. فى الجزئين السادس والسابع نلتقى مع عدد من تلك الشخصيات الأسطورية عبر سرديات: الخرتيت الذى عشقته عمته فعشقها فغضب الله عليهما ومسخهما، وحكاية التوائم الثلاثة، وحكاية المخبول، وغيرها..
ومن تلك الشخصيات تتقدم شخصية المخبول إلى صدارة السرد، بدءاً من تواجدها فى عنوان الجزء السابع «ميناء القراصنة ومخبول السماؤول» وحتى نهاية الرواية التى تنتهى بمقتله، وبانتهاء سردية المخبول يعود السرد مرة أخرى إلى سردية عبد الرحيم الوسيم التى تمثل نقطة الإرتكاز السردى فى الملحمة، والذى يغادر ميناء القراصنة. عقب معركة الانقلاب التى تحدث بين أفراد عصابة العاهات.
أول ما نلاحظه فى بناء شخصية المخبول، هو مدى التعاطف مع الضعف الإنسانى المتمثل فى تلك الشخصية، وتلك الروح الإنسانية التى تختفى خلف قناع القوة والبأس الذى تتظاهر به، فشخصيته تمتلك جوهرًا إنسانيًا عميقًا ضاربًا فى الزمن ومغرقًا فى البؤس.
عبر تقنية الاسترجاع الخارجى external analepsis يعود السرد إلى طفولة المخبول منذ كان فى عمر الثامنة، كاشفًا عن جوهر متأصل فى شخصيته يستمر معه حتى آخر لحظة فى حياته، وهو عشقه الجارف للطيور الذى غلب أى عشق آخر لديه، والذى يتجسد فى رغبته العميقة بالتحليق نحو السماء، تلك الرغبة التى لازمته منذ طفولته وتسببت فى سقوطه عندما حاول الطيران وقفز من فوق البيت، فجُدع أنفه تاركا عاهة لازمته طيلة حياته، هرب المخبول من قريته بعد أن قتل العمدة والد الفتاة التى أحبها والذى أهان أمه التى ذهبت لخطبتها له، وعندما وصل إلى ميناء القراصنة انضم إلى عصابة العاهات، وخاض معارك شرسة قتل وسفك فيها الدماء وانتصر، ولكنه بعد كل معركة كان يعود ليلقى بنفسه بين أحبابه الطيور تلك الكائنات التى أحبها وأحبته بصدق وإخلاص، يراوده حلمه المستحيل فى التحليق بجناحين حمراوين فى السماء. والمفارقة أن تنتهى حياته الأسطورية بطعنة خنجر من «الغلبان» الذى لم يخض معركة فى حياته، وكل ما يشغل المخبول فى لحظاته الأخيرة أنه سيموت دون أن يحقق حلمه فى الطيران:
«يا ربي. هل سأموت محروما من الطيران؟ هل أموت إنسانًا بائسًا وليس طير السماؤول؟ لا. لقد أتانى الملاك وأنا صغير وقال لى أن الله سيحقق لى طلبي. وسيصنع لى جناحين حمراوين وسأطير. والله الملاك قال لى هذا. فهل الملاك يكذب يا الله؟» ج7 ص71
«فتح الصندوق وأخرج الجناحين, ارتداهما واتجه نحو الشرفةِ محدثاً ربه..
سأطير برحمتك. سأطير بقدرتك. وإن سقطتُ أرضًا مثلما سقطت وأنا طفلٌ. لا يهمنى أن تتهشم عظامي. أن يفطس أنفى أكثر مما هو أفطس. فأنا ميت ميت». ج7 ص71.
هنا تتحقق له المعجزةُ التى تمناها طيلة حياتِه، وتنتهى حياتهُ نهايةً أسطورية تناسب شخصيته، فيحلق بالجناحين الحمراوين، يحلق بهما للأعلى فوق الميناء، والطيور تتابع حبيبها ما بين فرحةٍ به وحزينةٍ لحاله, حتى شبع من منظر غروب الشمس، بدأت قواه تنهار سقط على الشجرة العالية الضخمة، ساقاه لأسفل وذراعاه ممتدان جانبًا ورأسه مائل لليسار والطيور تحيطه من كل جانب. مجسدًا بتلك النهاية وتلك الوضعية رمزا سرديًا للمخلص وللجوهر الإنسانى العميق الذى يقوم على الحب الصادق والرحمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.