■ كتب: رشيد غمري استعادت القاهرة على استحياء مؤخرا، الفنانة السيريالية إيمي نمر (1898-1974) من خلال معارض، حضرت فيها بعض من لوحاتها النادرة. الفنانة المصرية التي أقامت أغلب معارضها فى أوروبا، خلال الفترة من عشرينيات إلى ستينيات القرن الماضي، وعرضت أعمالها بالمشاركة مع فنانين عالميين، غابت طويلا عن ذاكرة الحركة التشكيلية المصرية، عدا إشارات لعلاقتها بجماعة «الفن والحرية» فى مصر منذ أواخر الثلاثينيات. ولايزال الغموض يحيط بها، مع ندرة المعلومات عنها، وحتى صور أعمالها. ◄ والدها الصحفى راجع مرثياته وأشرف على نعيه وهو يحتضر ◄ رسمت النوبيين والبدو وجلبت السيريالية وتحولت للتجريدية ■ الفنانة الإنجليزية بربارا هيبورث عرضت أعمالها مع إيمي نمر ضمن معرضى «الفن المصري في العشرينيات»، بمجمع الفنون 2022، و«تاء مربوطة» ب«جاليرى أرت توكس» 2021، حول المصريات الرائدات، ظهرت بعض أعمال إيمى نمر، لكن أول ذكر لها بعد غياب لأكثر من أربعة عقود، أورده الناقد سمير غريب فى كتاباته عن جماعة «الفن والحرية» ذات التوجه السيريالى خلال الأربعينيات. ودوليا ظهرت أعمال لها فى معرض «الفن والحرية.. الانشقاق، الحرب، والسيريالية في مصر..» الذى أقيم فى مركز «جورج بومبيدو» فى باريس 2016، محتفيا بالسيرياليين المصريين، الذين شاركوا بندية ضمن الحركة السيريالية العالمية فى أوجها، لكن لا تزال حياتها ومسيرتها الفنية مليئة بالغموض. ■ لوحة للفنانة إيمي نمر ضمن معرض الفن المصري في العشرينيات بمركز الفنون 2022 ◄ ابنة الباشا فى عام 1875، نزح والدها الصحفى فارس نمر مع عديد من أقرانه الشوام، بعد تضييق العثمانيين هناك، على عكس انفتاح مصر تلك الفترة. وفى عام 1888 أسس مع شركائه جريدة «المقطم» اليومية فى القاهرة، لتستمر فى الصدور حتى عام 1952، وكان أول رؤساء تحريرها. وفى بيته بالمعادى أنجب ابنته «إيمى» التى حملت الجنسية المصرية منذ ميلادها. وأصبح هو شخصية بارزة ومؤثرة، له بعض الكتب، وعضوا بمجمع اللغة العربية، كما حصل على الباشوية والدكتوراه. ■ لوحة من أعمالها المبكرة وقد ذكر كتاب «المسامرات» للدكتور محمد رجب البيومى نقلا عن أحد صحفيي «المقطم» واقعة تتعلق بحرصه الشديد على سيرته بعد موته. فعندما شعر بدنو أجله، وكان فى الثالثة والتسعين، جمع محررى المقطم، وطلب منهم التعجيل بكتابة نعيه وكلمات رثائه، ليراجعها بنفسه قبل رحيله. وأشرف بنفسه على تفاصيل العدد الذى صدر بتاريخ 17-12-51 مجللا بالسواد، ويتصدره صورته على مساحة كبيرة فى الصفحة الأولى مع عنوان كبير «فجيعة مصر والشرق فى وفاة المرحوم الدكتور فارس نمر باشا». أما والدتها «إلين إينود»، فكانت تحمل جنسيات بريطانيا وفرنسا والنمسا. وهو ما أثر على نوعية التعليم والثقافة التى تلقتها ابنتها مبكرا، وما تمتعت به من حرية استثنائية. ■ من أعمال إيمي نمر في معرض بالقاهرة قبل ثلاثة أعوام ◄ الحياة فى الخارج درست إيمى الفن فى مدرسة «سليد» للفنون الجميلة بلندن، خلال الفترة من 1916 إلى 1920، والتحقت بمرسم «والتر سكيرت»، فنان ما بعد الانطباعية هناك. وكان غريب الطباع، حتى أنه كان أحد من أشيع أنهم «جاك السفاح»، القاتل المتسلسل المجهول لعدة نساء فى الأحياء الفقيرة بلندن بين عامى 1888 و1891. وتضاعفت الشائعات بعد عودة تلك الجرائم عام 1907 على مقربة من مرسمه فى حى «كامدن تاون»، بالتزامن مع رسومه لمجموعة من النساء الممدات فى الفراش، بنوع من الواقعية التوثيقية التى كانت جديدة على الفن البريطانى. لم يتهم الفنان رسميا، لكن الشائعات تحولت إلى عدد من الأفلام والأعمال الأدبية. ■ الفنان الإنجليزي روبرت ميدلي شارك مع إيمي نمر في بعض المعارض وفنيا كان أحد من تأثروا بالفرنسى «إدجار ديجا» الذى نصحه بالرسم فى الاستوديو والهروب من سطوة الطبيعة، والاعتماد على الذاكرة. وهو ما تأثرت به إيمى التى كانت تبدأ خطواتها الفنية الأولى. وكانت أول مشاركة لها فى «صالون الخريف» باريس 1925. وتبعه معرضها الفردى الأول عام 26 فى قاعة «برنايم جون» فى باريس أيضا. ثم بدأت بعرض أعمالها ضمن صالون القاهرة المرموق خلال الثلاثينيات. ولفتت انتباه الفنان محمود سعيد. وكتب عنها الشاعر أحمد راسم كتابا بالفرنسية، وهو ابن عم الفنان محمود سعيد، وشغل مناصب دبلوماسية، وكان محافظا للسويس. وخلال النصف الأول من الثلاثينيات عرضت أعمالها بنشاط فى قاعات «وارن» و«فيجنون» و«قصر الدوبارة» فى لندنوباريسوالقاهرة. كما شاركت فى معارض مع الإنجليزيين «باربارا هيبورث»، و«روبرت ميدلى». وعاشت فترة، ضمن المجموعة المحيطة بالكاتب الأمريكى هنرى ميللر خلال سنواته فى باريس. وتأثرت بالأجواء المتحررة فى الفن والفكر. ■ من أعمالها السيريالية 1936 ◄ العودة إلى مصر بعد رسومها الأولى لمشاهد دينية، وطبيعة صامتة، وراكبى أحصنة، حاولت استلهام موضوعات مصرية، فاتجهت فى رحلة إلى الصعيد والصحراء، وقامت برسم النوبيين والبدو، وسرعان ما توجهت للسيريالية. كان مجموعة من الكتاب والرسامين فى مصر قد أصدروا عام 38 بيانا بعنوان «يحيا الفن المنحط» تضامنا مع الفنانين الحداثيين الذين كان «هتلر» و«موسيلينى» ينكلان بهم فى أوروبا، مدشنين جماعة «الفن والحرية»، إحدى أجرأ الجماعات الفنية والفكرية فى التاريخ المصرى. لم نعثر على توقيع «إيمى نمر» عليه، والمصرية الوحيدة التى ورد توقيعها هى «فاطمة نعمت راشد»، أول رئيسة تحرير مصرية لصحيفة «المصرية» التى كانت تصدرها «هدى شعراوى». الجماعة كانت على صلة بالسيرياليين الفرنسيين، وعلى رأسهم أندريه بريتون، الذى جمعته مراسلات ولقاءات بالشاعر المصرى جورج حنين. وظهرت أعمال إيمى ضمن معارضها التى استمرت على مدى عشر سنوات بين القاهرةوباريس. كما كان بيتها فى الزمالك المكان الذى احتضن أعضاءها، وجرى فيه تبادل الأفكار. ■ من حقبة المأساة 1943 كانت قد تزوجت فى القاهرة من «السير والتر سمارت»، المستشرق، والعالم فى اللغتين العربية والفارسية، والمسئول الدبلوماسى الرفيع، (سكرتير شرفى للسفارة البريطانية فى القاهرة). وورد اسمه فى مفاوضات دقيقة مع شخصيات سياسية مصرية خلال بعض الأزمات. وكان هو الآخر مولعا بالفنون، ورحب فى بيته مع زوجته بالفنانين المصريين، والمبدعين الأوروبيين الذين توافدوا على مصر خلال الحرب العظمى. وهو ما أوردته «أرتيميس كوبر» فى كتابها «القاهرة خلال الحرب العالمية الثانية..» وذكرت فيه كرم «إيمى»، ورعايتها للمبدعين، ومنهم الكاتب البريطانى «لورانس داريل» صاحب رباعيات الإسكندرية الذى ساعدته بعد فراره من اليونان مع زوجته «نانسى» وابنته «بينلوب»، وحيث بدأ بكتابة الافتتاحية ومقال أسبوعى فى «الإيجيبشن جازيت»، ثم التقى ب«والتر سمارت» زوج «إيمى» الذى أعجب بمعرفته بلغة اليونان وتاريخها، فعينه ملحقا صحفيا أجنبيا. وبعدها دعاه لبيته بعد أن قرأ بعضا من كتابته. وصار وزوجته «نانسى» ضيفين دائمين على منزل «إيمى» و«سمارت» بحديقته ذات البئر، والمحاطة بالنخيل، واعتبراه واحة الراحة فى القاهرة التى لم يحتملا جوها. ■ أوليفيا مانينج كما ذكرت أنه كان ل«إيمى» شقيقة تدعى «كاتى»، تزوجت من «جورج حبيب أنطونيوس» أول مؤرخ للقومية العربية، وسكرتير الوفد العربى فى مؤتمر المائدة المستديرة فى لندن 1939. ونقلت قول الكاتب «باتريك كين روث» عن صديقته «إيمى»: «تمتلك عقل رجل فى كثير من النواحى، لكنها فى أمور أخرى تتسم بروح شرقية وأنثوية». عاشت «إيمى» مع زوجها وابنها فى المنزل رقم 19 بشارع «ابن زنكى» بالزمالك. وفيه علقت لوحاتها إلى جوار مجموعة من أجمل السجاجيد الفارسية والخزف الصينى، وأحاطت المكتبة بأغلب الجدران، بكتبها المغلفة بالجلد البنى، الموشى بالذهب والفضة. وفيه آوت مبدعين مثل الشاعرة اليونانية «إيلى بابا ديمترى» التى هربت من بلادها، وكان لها سرير دائم فى منزل «إيمى». وكانت بجدارة راعية الحياة الثقافية فى القاهرة، حتى أن بعض المبدعين الأوروبيين كانوا يعتبرون عدم دعوتهم إلى بيتها بمثابة عدم اعتراف بمواهبهم. وذكرت الكاتبة من هؤلاء الروائية الإنجليزية «أوليفيا ماننج»، وقالت إنها انتقمت من تجاهلها بعد ذلك حين أوردت شخصية «إيمى» وفاجعتها فى ابنها، ضمن روايتها «شجرة الخطر»، وجعلت من بطلتها امرأة مستهترة، وهو ما عابه عليها أصدقاء «إيمى»، كما طالب محامى العائلة بتغييره دون جدوى. ■ طبيعة صامتة 1928 وضمن دائرتها ظهرت لفترة المصورة السيريالية الأمريكية «لى ميلر»، والتى تزوجت من الوجيه المصرى «عزيز علوى بك»، وعاشت فى مصر خلال الفترة من 1934 وحتى 1939. وضمن أرشيف «ميلر»، صور التقطتها ل«إيمى» فى القاهرة قبل سفرها لتعمل كمراسلة عسكرية فى الحرب العالمية الثانية، وتتوج عملها بصورتها تستحم فى «بانيو» «هتلر» بعد انتحاره. كما توجد صور لزوجها «عزيز»، الزوج السابق ل«نعمت علوى» الحب الأخير فى حياة الشاعر «ريلكة». ■ الصحفي فارس نمر باشا والد الفنانة ◄ تجريد بقيت الفنانة فى مصر حتى اضطرت وزوجها للمغادرة مع العدوان الثلاثى عام 56. لكن قبل ذلك بحوالى ثلاثة عشر عاما وخلال جولة عائلية - بصحبة زوجها وآخرين- بصحراء سقارة، تعرض ابنها «ميكى» (ثمانى سنوات) لحادث انفجار لغم أرضى أودى بحياته. ومرت بعدها بفترة عصيبة. وعندما عادت للرسم امتلأت لوحاتها بالهياكل العظمية والأشلاء. وهى الأعمال التى عرضت منتصف الأربعينيات بمعرض الفن المستقل فى باريس. وبعد فترة شعرت بالعجز عن التعبير عن مأساتها، فاتجهت للتجريد. ويبقى أغلب ما يتعلق بكتاباتها مجهولا، عدا نقد أدبى حول شاعر الإسكندرية «قسطنطين كفافيس» عام 45. ■ من مرحلة الاكتشافات الأولى في مصر وأفريقيا كتب عنها الناقد «إميه أزار» ضمن كتابه «فنانات مصريات» الصادر فى القاهرة بالفرنسية عام 53. والمعلومات عن نشاطها الفنى بعد مغادرة مصر قليلة، عدا معرضها عام 61 فى قاعة «دومارينان» فى باريس، والذى كتب مقدمة «كتالوجه» صديقها «لورانس داريل»، واصفا لوحاتها بأنها صنعت من الحصى والرمل والأحجار القاسية. وتبقى الفترة التالية حتى رحيلها عام 1974م غامضة.