ريزان العرباوى اعتاد الجلوس على مقهى "وادى النيل" وسط القاهرة, تعلو أصداء صوته فى سماء الحرية, لتبدأ حكاية الشاب الأسمر ذو الملامح المصرية الأصيلة والصوت المميز, تحدى الغربة وقسوتها، ولأن الأرزاق على الله, جاء من أقصى الجنوب إلى القاهرة حاملا بين كفيه حلمه بتطوير الأغنية، تحركه مشاعره الثورية المتمردة ضد الظلم والاستبداد حتى وإن كان بره الشبابيك غيوم, وحتى يعلو صوته بالغنا ليروي حدوتة مصرية وقف صامدا أمام التحديات، فلم يكن طريقه ممهدا, فهو طفل تعلق بحب مصر حتى لو فى نص السكة تاه, فقد تذوق طعم البيوت وعشق الحواديت والسهر ليصبح فى عيون معشوقته مغرم صبابة, هو "الكينج" محمد منير الذى قدم بطاقته الشخصية وعرف نفسه قائلا: "الاسم الكامل انسان الشعب الطيب والديا.. المهنة بناضل بتعلم تلميذ فى مدرسة شعبية". خاطب الشباب بكلمات بسيطة حملت بين طياتها الطابع الثورى والحماسى لامست الوجدان, فانجذب إليه عدد كبير من فئة الشباب الحالم, رأوا فى الفتى الجنوبى رمزا لهم ولثورتهم بأغانيه الناطقة بصوت المقهورين والرافضين للظلم من خلال نوع مختلف من الفن مزج بين الأصالة المصرية والعالمية. وعند تأمل تجربة محمد منير والتى بدأها كهاو منذ الصغر عندما كان يغنى لرفاقه فى الجيش, نجد أنه أحدث إنقلابا فى شكل ومضمون الأغنية العربية ونحت لنفسه طريقا غير مألوفا ليغرد منفردا بكلمات خارج المسار المعروف, ابتكر أشكال موسيقية مختلفة تعكس أصوله والبيئة التى نشأ فيها, قدم نوعا جديدا من الأغاني جمعت بين التراث النوبي والموسيقى الحديثة، عشق الوطن وتغنى فى حب معشوقته مصر وكأنها محبوبته التي وقع في غرامها، فقدم العديد من الأغنانى ما بين الغزل في جمالها، أو معاتبتها، والحزن عليها لما مر بها من أحداث. بات لغزا محيرا وشفرة من الصعب فك طلاسمها، كيف تمكن من الاستحواذ على اهتمام الجمهور بمختلف فئاته ليتربع على عرش الأغينة ويصبح "الكينج" ملك البسطاء والحالمين, فكان ولازال لونا خاصا لاينافسه فيه أحد، بالرغم أنه جاء فى مرحلة ضبابية شعر فيها الكثير بالتيه والضياع, وإرباك المشاعر بين بقايا عصر عبد الحليم وأم كلثوم والأغانى الرومانسية وبداية عصر جديد بمفردات أغانى مختلفة, ولكن ولأنه يمتلك ذكاء و وعى فى اختيار كلماته شكلت أغانيه حالة خاصة من النضال الغنائى, حمل على أكتافه هموم الوطن وقضاياه فكان عاملا مشتركا بينه وبين عدد من الشعراء الثائرين ممن يمتلكون رؤى فنية فريدة لتأتى التجربة أكثر اثراءا وإلهاما, فكان الناتج مكتبة من الأغانى الوطنية الجريئة والتى هاجم فى بعضها الأنظمة بشكل مباشر والبعض الآخر كان بمثابة محرك للضمير الثورى. كانت معظم عناوين ألبوماته تشير إلى انحيازه للحرية الكاملة وانحيازه للناس، وتشير إلى إيمانه بهذا الوطن منذ أول ألبوم غنائى له عام 1977 "علمونى عنيكى"، وبعده ألبوم "بنتولد" ثم "شبابيك"، "اتكلمى" ,"وسط الدايرة", "ممكن" و"الأرض..السلام". ومع ثانى ألبوم لمنير "بنتولد" عام 1978، كانت أغنية "عروسة النيل" مع نفس الثنائي عبدالرحيم منصور وأحمد منيب. وفى عام 1981 تم إصدار الألبوم الثالث "شبابيك" الذى فتح له نوافذ الشهرة والعالمية وحقق طفرة فى عالم الغناء وثورة فنية أجمع عليها النقاد محققا أعلى نسبة مبيعات فى تلك الفترة, فجاءت كلمات الأغانى بروح المتمرد المتطلع لأقصى درجات الحرية, ومن المفارقات هنا أن الألبوم ضم أغنيتين بدأت فكرة كتابتهما داخل سجن الواحات, الأولى حملت اسم الألبوم "شبابيك"، وكتبها الشاعر مجدي نجيب وقصد من كلماتها التعبير عن نفسه والأزمة التي مر بها. أما الأغنية الثانية "الليلة ياسمرا"، فبدأ الشاعر الراحل فؤاد حداد كتابتها كقصيدة عامية, ويجمع أكثر من مصدر على أن هذه الأغنية ولدت بين جدران سجن الواحات السياسي بداية ستينيات القرن الماضي، عندما اجتمع فيه الشاعر فؤاد حداد والملحن أحمد منيب والمطرب محمد حمام والمناضل اليساري زكي مراد، ابن قرية أبريم النوبية، وكانت الأغنية إهداء له في عيد ميلاده داخل السجن, وبعد خروجهم، قرر محمد حمام تسجيلها للإذاعة المصرية وحققت نجاحا كبيرا بين الجمهور، وتمر سنوات ويقررمحمد منير إحياء هذه الأغنية التي دفنتها الأيام، لتظهر في شكل جديد بصوته عام 1981، بالتزامن مع عودة طابا إلى أرض الوطن, وغنى منير: "البنت قالت فستانى منشور على الشط التانى.. خدنى المركبى وعدانى ورجعت فى القمرايه الليلة". فى هذا الألبوم أيضا أكد منير على اهتمامه بالقضية الفلسطينية فغنى "شجر اللمون", وفى بداياته غنى "القدس" سنة 1977 للشاعر مجدى نجيب إلا أنها منعت حتى عام 1986 لتكون ضمن ألبوم "برىء"، كما غنى لجمال بخيت "أتحدى لياليك"، "العمارة" و"ياابن العرب ياللا ياويكا". ولأن قواعد العشق لا تخلو من العتاب بين العاشقين, عاتب منير الوطن, في أغنية "اتكلمي" مع نفس الثنائي، عبدالرحيم منصور وأحمد منيب، ومازال منير محافظًا على الموسيقى النوبية، والسلم الخماسي. ويستمر عتاب الحبيب للحبيبة عتاب المجروح من خلال أغنية "بعتب عليكى" من كلمات مجدى نجيب وألحان أحمد منيب. ومع الشاعر جمال بخيت والملحن عبد العظيم عويضة، غنى منير في ألبوم "وسط الدايرة"، أغنية "أتحدى لياليك"،عبر فيها عن حزنه الشديد لما يحدث من انتهاكات الكيان الصهيونى ضد الشعب اللبنانى, والأغنية كتبت إهداء لأول فتاة تقوم بعملية استشهادية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهي اللبنانية سناء محيدلي حتى أنه وضع اسمها كاشارة على غلاف الألبوم. ومن الأغانى المميزة فى حكاية العاشق المتيم لتراب الوطن, أغنية "شمس المغيب" 1989 في ألبوم "شوكولاتة"، من كلمات عبد الرحيم منصور وألحان محمد الشيخ، قدم منير أغنية من أحلى أغانيه الوطنية والعاطفية في نفس الوقت، فيقول في الأغنية: "وأنا حرف تايه في اسمك لون صغير في رسمك وأنا خيط في شمسك في أمسك في بكرة اللي جاي قريب". أما أغنية "قلب الوطن مجروح"، صدرت بألبوم "افتح قلبك"، وهي من كلمات الشاعر إبراهيم رضوان وألحان مدحت الخولي, عبر فيها منير عن خوفه على حال البلد وقلقه من متغيرات كثيرة فى تلك الفترة. وتعتبرأغنية "إزاي" من أهم الأغانى التي ارتبطت بثورة 25 يناير، وهي من كلمات نصرالدين ناجي، وألحان وتوزيع أحمد فرحات. , ورغم أن محمد منير سجل الأغنية قبل اندلاع ثورة 25 يناير بل وقبل انتشار دعاوي بالنزول إلى ميدان التحرير إلا أن طرحها خلال فترة الثورة جعلها واحدة من أشهر وأنجح أغاني الثورة التي أشعلت حماس آلاف المصريين المتواجدين في الميدان عام 2011. وكانت "لو بطلنا نحلم نموت" أكثر من مجرد أغنية، بل شعار جيل كامل يرفعه دائما في حالات الانكسار والاحباط، الكلمات للشاعر عصام عبد الله والألحان لمصطفى على إسماعيل. كذلك أغنية "علي صوتك بالغنا"وصدرت عام 1997، خلال أحداث فيلم "المصير" وهو واحدا من أهم أفلام يوسف شاهين. ولم تختلف أغنية "طعم البيوت"عن منهج منير الذي يحاول فيه الابتعاد قدر الإمكان عن الأغاني العاطفية التقليدية النمطية ويفضل الغناء للمواقف والأحلام أو حتى للبيوت. وعبرت أغنية "حدوتة مصرية"عن الهوية الوطنية وجسدت معاناة وآمال الشعب لتصبح رمزا للتحدى والصمود. أغنية "بلاد طيبة" دويتو جمع بين منير وأنوشكا فى حالة غنائية فريدة مليئة بالشجن وحب الوطن, كلمات وألحان مدحت الخولي وتوزيع محمد هلال. وكتب له الشاعر أحمد فؤاد نجم, "ليه يا إسكندرية، بلح أبريم" وأغانى مسرحية "الملك هو الملك", وتميزت تلك الأغانى بالإسقاطات السياسية حيث جسدت علاقة الشعب بالحاكم الظالم لتقدم نموذجا للمسرح السياسى. وختام هذا المشوار مع مقولة منير في حوار تليفزيوني مع الإعلامي محمود سعد، يشرح فيه مفهومه لمشاركته السياسية قائلا: "السياسة همي وإلهامي، السياسة مش وظيفة، السياسة إنك تستنشق الناس اللي حواليك, همومهم ومفاهيمهم وأوجاعهم،وتترجمها لسينما أو مزيكا أو أغنية". اقرأ أيضا : من 600 ل80 ألف جنيه.. أسعار تذاكر حفل الكنج محمد منير بالعلمين