قبل سنوات أجريت حوارًا مطولًا مع الكاتب الساخر محمود السعدنى كان من بين محاوره سؤال عن الثقافة المصرية وتراجعها النسبى فى مواجهة مراكز أخرى صاعدة، كانت إجابته وقتها واثقة بل ومستنكرة لطرح السؤال من الأصل، مستندًا فى ثقته على أن مصر تملك من كل موهبة وحرفة مئات من القادرين على إبراز وجه البلد الحضارى الراسخ، لكن المشكلة فى ظنه كانت فى عدم قدرتنا، أو فى تقاعسنا، عن الوصول إلى تلك المواهب والكشف عنها. لم أكن على قناعة كبيرة بإجابة السعدنى وقت أن أجريت الحوار، لكن وبعد اكتساب خبرة أكبر بطبيعة الحياة فى مصر فهمت ما قصده، ولو أنه كان حيًا بيننا الآن لهاتفته معترفًا بأن فوز فيلم «رفعت عينى للسما» بجائزة مهرجان العين الذهبية فى مهرجان «كان» فى دورته الحالية يثبت بشكل قاطع صحة وجهة نظره. ثمة أسباب مختلفة للفرح ب«رفعت عينى..» وليست الجائزة من بين تلك الأسباب إلا لكونها لفتت الانتباه إلى العمل وصناعه وقصتهم الفنية المذهلة التى يكفى تأملها قليلًا لإعادة صياغة الكثير من مفاهمينا عن الفن والثقافة والهدف من أى ممارسة تنضوى تحت أى من مجالاتهما. كنت أبحث عن وسيلة ما أشاهد بها الفيلم، وإن لم أجده متاحًا على أى منصة، لكننى فى المقابل ربحت معرفة بفريق العمل، بعد أن قضيت وقتًا أتأمل فى تفاصيل قصة خلابة حول ما يمكن للفن أن يفعله بصُنَّاعه وبالمجتمع الذى يتوجه إليه. قصة نحتاج إلى إبرازها لا لمجرد الفخر بحصول فيلم مصرى على واحدة من أهم الجوائز الدولية فى مجال السينما، فمع أهمية هذا، إلا أن الأكثر أهمية إدراك لِمَ فاز؟ ما الطريق الذى سلكه فريق العمل للوصول إلى تلك المكانة؟ على الأغلب نحن سنتعامل مع فوز الفيلم كمحترفين يدرسون الأمر بهدف المضى على الطريق نفسه، أملًا فى تحقيق نتائج مشابهة، سنقول: نعم، نعرف. الوصول إلى العالمية شرطه الإغراق فى المحلية. هذا ما سبق أن قلناه عندما فاز نجيب محفوظ بنوبل، وسار كثيرون على دربه لكنهم لم يربحوا سوى «غرق محلي»! وهذا لأنه فى حالة «نوبل» سابقًا، وفى حالة «كان» حاليًا، يتم إغفال شرط أساسى ووحيد يجمع بين القصتين، ألا وهو أن الحصول على الجائزة يتطلب عدم السعى إليها، لم تكن هى الهدف بل أمور أخرى مفتقدة فى ممارستنا الثقافية والفنية! أصبح معروفًا لدى الجميع أن «رفعت عينى للسما» الفائز يحكى قصة حقيقية لفرقة من إحدى قرى الصعيد، البرشا، محافظة المنيا، مركز ملوى. «بانوراما البرشا» اسم الفرقة المكونة من مجموعة بنات كان من الطبيعى أنهن سينفقن حياتهن فى ظروف مثل التى تحياها غيرهن، بالإحباطات والضيق نفسيهما، بالأحلام المهدرة والهواء المسمم بالأعراف والتقاليد البالية، لولا تصديق بنات الفرقة الفطرى فى أن الحياة حق ممنوح للجميع، وعلى هذا خرجن لتجربتها وفى الطريق عثرن على الفن الذى كان يبحث بدوره عمن يستخدمه كأداة للمقاومة. ميرنا سمير. ماجدة مسعود. مونيكا يوسف. يوستينا سمير. هايدى سامح. مريم نصار. أسماء تكتسب قيمة أكبر عندما تسمع صاحباتها يتحدثن عن المسرح وعن رؤيتهن وتصوراتهن للفن. «حبيته لأنه حببنى فى نفسى» هكذا تقول واحدة منهن فى فيديو معد قبل سفرهن إلى «كان». لا يبدو وصفها هذا للمسرح ملائمًا من الناحية الأكاديمية، لكن ما أهمية الأكاديميا السجينة بين جدرانها، لا تتأثر بما يجرى فى مجتمعها ولا تؤثر فيه، ما قيمة الأكاديمى» فى مقابل حركة مسرحية تستقى خبراتها ومعارفها من خلال التجربة والاحتكاك المباشر مع الجمهور بما يعنيه هذا من عقبات ومصاعب وتهديدات هى جزء طبيعى من بيئة الصعيد المحافظة والرافضة لأى اقتراح من شأنه خلخلة المتعارف عليه من ثوابت وتقاليد بل وحتى قبول الإدعاء بفسادها. تحكى يوستينا سمير عن التجربة فتقول إنه عندما بدأن العروض كان ذلك فى مكان صغير ولم يكن الجمهور الحاضر مرضيًا لهن، معظمه من الأطفال ونساء قليلات، وهن من البداية حددن مهمة الفن بأنه ساعٍ إلى التغيير عبر عرض المشكلات اللاتى يعشنها، ولهذا اتخذن قرار الخروج بالعروض إلى الجمهور بدلًا من انتظاره: «يلا بينا مسرح شارع.. ولا كان عندنا خلفية أصلًا عن حاجة اسمها مسرح شارع»! من المتصور أن الفتيات لم يجدن عونًا من جهة ما، على الأغلب لن نجد فى هذه التجربة حضورًا ما لوزارة أو هيئة أو جامعة، والعون المقصود هنا لا يكمن فقط فى توفير المكان أو المعدات، بل حتى فى تلقى المعرفة بما سبق، بتجارب المسرح المصرى، بما يعنيه مسرح الشارع والدلالات المختلفة للمصطلح والخلافات المنهجية حوله، لهذا فإن فرقة «بانوراما البرشا» بدأت تجربتها لا من حيث انتهى الآخرون بل من اللحظة القديمة التى فكر فيها الإنسان فى التعبير عن مشاكله وآلامه، بالطريقة التى اكتشف بها القدماء الفن ثم طوروه، اكتشفت البنات مسرح الشارع فخرجن به للمواجهة، بوعى كامل أن فعلهن إعلان حرب فنية على سجون التقاليد والأعراف، لكنهن لم يدركن أن الأعمق فى الفعل أنه إعلان واضح عن خراب كامل فى البنية الثقافية والمعرفية إلى الدرجة التى باتت تمنع تناقلها وتواصلها بين الأجيال المختلفة، بحيث أنه عندما تبدأ فرقة مثل هذه فإنها تنطلق من نقطة الصفر سواء من ناحية الإمكانيات أو الخبرات.. كأن لا تاريخ للمسرح فى هذا البلد، وكأن لا وجود لممارسة ثقافية، رسمية كانت أو غير رسمية، يمكن التوجه إليها لنيل الرعاية وتلقى المعرفة. ما الذى يدعو أى ممارس للفن فى ظروف كهذه إلى الاستمرار؟ فى معرض حديثها عن التجربة وأثرها تقول ماجدة مسعود: «كملت لأنه من بعد المسرح بدأت أعرف أقول رأيى فى البيت، احنا تغيرنا فأكيد هنغير فى البلد». هذا ما يمنحه الفن لأصحابه، الإيمان بالذات والقدرة على التغيير، التطلع للأفضل، فهم طبيعتنا البشرية، وهو ما لن يتحقق إلا إن انطلق من الذات أولًا وهو ما تعبر عنه ميرنا سمير: «أنا لا أجسد قصة أحد، بل قصتى أنا التى أعيشها» قصة كهذه تستحق التدوين لهذا أنفق الزوجان أيمن الأمير وندى رياض (إخراج وإنتاج) سنوات طوال (أكثر من أربع سنوات) ومئات الساعات من التصوير (400 ساعة) ولم يكن الأمر هنا عملية إنتاج عمل فنى بل حياة رغب الزوجان المخرجان أن يكونا جزءًا منها، أن يتورطا فيها بالكامل ليس للخروج بفيلم وعرضه فى «كان» كما تقول ندى، بل لصناعة فيلم مصري يتوجه لجمهور مصرى ويعمل على تحريك وجدانه، وساعتها فإنه، وبتعبيرها أيضًا، ستكون هناك فرصة لأن يتواصل الجمهور الأجنبى مع العمل ويرى نفسه فيه. فى الظاهر يبدو أنه لدينا إنجاز مصري تحقق بفوز فيلم بجائزة رفيعة من مهرجان دولى وعالمي، لكن فى عمق القصة ثمة الكثير مما نحتاج إلى التوقف عنده لأن القراءة المدققة تؤكد على أنه نجاح مذهل لعمل فنى محلى لكنه كاشف عن عوار منظومة الثقافة بأشكالها المختلفة!