يكتبها اليوم : مجدى أبو الخير لم يمتد طرفها يومًا إلى ما متّع الله به غيرها من زينة الدنيا وأزهارها، فلم نرها يومًا غازيةً محتلةً غاصبةً لحق غيرها. مصرُ التى رأيناها بأعيننا نحن لا بأعينِ غيرنا، ولا كما سمعناه عنها أو قرأناه من مفرداتٍ وعباراتٍ تُنبئُ جميعها وتقطع إلى كم هى عظيمة، فريدة فى كل شيء، فريدة حتى قبل أن يصبح للتفرد لفظٌ ومعنى، عريقة عراقة الدنيا، ضاربة بجذورها فيها منذ أن أبدعها خالقها، فهى الدنيا قبل أن تكون لها أمًّا أو أبًا، وهى التاريخُ قبل أن يكون هناك تاريخٌ. فارسة كأبلغ ما تكون الفروسية فى أرقى معانيها نُبلًا وتحضرًا وعفّة، أمٌّ رءومٌ حانيةٌ لكل مَن يمّمَ وجهه يومًا نحوها، يد عونٍ وخيرٍ لسابعِ جيرانها، ولسابعِ سابِعهم دون مَنٍّ منها أو أذىً، ويد سلامٍ وأمانٍ لمَن كان يومًا فى حاجةٍ إليها دون غدرٍ منها أو خذلان. لم يمتد طرفها يومًا إلى ما متّع الله به غيرها من زينة الدنيا وأزهارها، فلم نرها يومًا غازيةً محتلةً غاصبةً لحق غيرها، عزيزة عفيفة لم تستجدِ أحدًا يومًا ولم تستعطفه، تموت جوعًا ولا تأكل بثدييها، تبيتُ طاويةً دون أن تسأل كائنًا كِسرة خبزٍ عِزّةً وأنفةً، فإذا ما أصابت يومًا خيرًا أبت نفسها إلا أن تشارك فيها غيرها على حاجتها إليه. تكالبت الضباعُ عليها، وتآمر السِّفلة ضدها، وممّن طعموا خيرها وشربوا ماءها ونُسبوا زورًا إليها، ورغم ذلك ظلت شامخة باقية، أرادوا منها نيلًا مؤامراتٍ وتسفيهًا وتشويهًا، وهم المدركون لعظمتها، إلا أنها أبت دومًا إلا أن تخرج عن صمتها لتخرس ألسنتهم وتميط اللثام عن زيفهم وكذبهم، لم تنم عن حقّ لها، ولم ترضَ ساعةً بهوانٍ، لم تشرب يومًا كأس الحياة بذلةٍ، وإنما تجرّعت بالعزة كؤوس الحنظل. أرادوا لها موتًا لينعم جمعهم بفرائسهم، وعملوا فى ذلك جهدَهم، إلا أنها دومًا وعلى حين غرةٍ منهم تفجعهم وتذهلهم وتبهتهم، فنراها تَطأُ جراحَها وتعلو فوق آلامها، فتُبعث من جديد، تنفض عن كاهلها غبار سمومهم وسحرهم؛ ليذهب كل ذلك وفى لحظةٍ أدراج الرياح، ليعمّ نورُ شمسها كعادتها أرجاء الدنيا بأسرها. إنها مصر كما أرادت أن تكون دومًا لنفسها وأهلها وللإنسانية أجمع بردًا وسلامًا، لا كما أراد، إنها مصر عندما تعود لها شمسُها الذهبُ، تبثّ الأمل وتُثير الفرح وتبعث الطمأنينة فى نفوسٍ حُرمت منها وتاقت إليها، إنها مصر إذا نهضت نهضت معها أمتها والدنيا بأسرها، فتأمن من خوفٍ وتشبع من جوع، إنها مصر كما رأيناها بأعيننا، لا كما قرأنا وسمعنا، وهو فى ظلها نذرٌ يسيرٌ. إنها مصر جنة الله وكنانتُه فى أرضه، ما طلبها عدوٌّ إلا أهلكه الله، لذلك كله ويزيد والله نُحبّها ونحب مَن يحبها ونُرضع حبها أبناءنا، ويصغُر فى حبها كلُّ غالٍ ونفيس، ونُبغض مَن رامها بسوء ولو بكلمةٍ وإن كان يومًا عزيزًا علينا. مصر التى فى خاطرى وفى فمي... أحبُّها من كل روحى ودمى ... يا ليت كل مؤمنٍ يُحبها مثلى أنا... (بتاح - م - ويا) والاستدلالات عديده: بعيدًا عن كل ما قيل حول الكشف الأثرى العظيم بمنطقة سقّارة فى نوفمبر2020م، وسابقاتٍ عليه ولاحقاتٍ حتى تاريخه كلها لا شكّ عظيم، من المختصين والمبهورين، إلا أن اللحظة التى كان الغطاء الخشبى فيها يُزاح عن مومياء ذلك الجدّ العظيم، وفى بثٍّ مباشر تفوق كل ما سواها إثارةً وإبهارًا وعظمةً وفخرًا بأجدادنا. شعورك وأنت تتابع ذلك بشغفٍ لا حدّ له، وقد سكنت حواسّك إجلالًا للموقف، وأبت عيناك أن يرتدّ إليها طرفها فى لحظةٍ مهيبةٍ، إنما هو شعورٌ بعظمة أصلك، وعراقة منبتك، شعورك أن تكون عينُك أنت أول عينٍ تنظر إلى آخر ما نظرت إليه عينُ جدّك الفرعون المصرى منذ آلاف السنين، شعورٌ يفوق كل وصفٍ وشعور. ففى اللحظة التى يُزاح فيها الغطاء بيد الأحفاد شيئًا فشيئًا، ويرفع عن جدّنا، يقابلها تلك اللحظة التى يقوم فيها الأجدادُ بالتغطية، إنما هى لحظةٌ فارقة وفاصلةٌ بين الفعلين -التغطية والكشف- لم تستغرق من كليهما فعليًا سوى دقائق، غير أن بينهما آلاف السنين، وكأن الأجداد والأحفاد قد اجتمعوا فى لحظةٍ توقف فيها الزمنُ وتلاشت فيها السنون عند ذات الغطاء، عينٌ تُسْلم أختها، ونظرة تتلقّفها أخرى، ويدٌ تناول أُخراها. لحظةٌ تقطع فى أبلغ معانيها أمام الدنيا المراقِبة، وهى تعضّ أناملها من الغيظ، أننا ومهما أصابنا من عوامل الزمن وتطاول السفلة ولصوص التاريخ والجغرافيا، وفى لحظةٍ يأبى أصلنا إلا أن يثبت حضوره فى عزةٍ وشموخٍ وبهاءٍ. لحظةٌ تجود بها مصر على الدنيا كلها كلّ حينٍ، ويجود بها الأجداد علينا نحن الأحفاد تسليةً وتعزيةً وإلهامًا وتحفيزًا، لحظةٌ متجددة لتذكرنا بأننا أبد الدهر عظماء. مَن له مثلُ مجدي؟! انتباهةُ العالم يوم حفل المومياوات الملكية فى أوائل أبريل2021م، ووقوفه مشدودًا مشدوهًا، شاخصةً أبصارُه، مُحدقةً عيونُه، فاغرةً أفواهُه، ساكنةً أعضاؤه فى خشوعٍ، لا تطرف له عينٌ كى لا يفوته من ذلك الموكب الملكى الفرعونى ما يستحيل تعويضه من تسجيلٍ لا يضاهى متعة متابعته فى بثٍّ حيٍّ ومباشرٍ. إن وقوف العالم وقتها فى ذهولٍ لا يقوى معه على حراكٍ، وكأن خُروءَ الطير فوق رءوسه أمام هذا المشهد الذهبى لملوك الدنيا، وفراعنة مصر العظام، لَيُثبتُ إلى أى حدٍّ لا يقوى معه عقلٌ على سَبْر غَوْره وبلوغ أبعد نقطةٍ فيه كم أننا أمة عظيمة، لَيُثبتُ إلى أى حدٍّ لا يقوى معه لسانٌ مهما بلغت لغتُه معجمًا وفصاحةً وحضورًا كم أننا أمة مهيبة تَخرس فى حضورها كلُّ الألسنة، لَيثبت إلى أى حدّ لا يقوى فى ظله كلُّ مَن سولت له نفسُه يومًا وأوهمته بأنه قد بات عظيمًا وذا شأنٍ لتأتى تلك اللحظة، ويأتى ذلك الموكب المهيب، ليعلم هؤلاء جميعًا حدّهم وحجمهم، وأنه لا ظل لهم يبلغ قدر أُنمُلةٍ فى ظلها. وكأن ملوك مصر قد بُعثوا يومها ونهضوا لِيربتوا على أكتافنا حنوًّا ودعمًا، وكأنهم بُعثوا يومها وفى حديثٍ لا يسمعه سوانا، ليبثّوا فينا الأمل من جديدٍ، ويستنهضوا طاقاتنا وعزائمنا، ويستثيروا فينا حضارة آلاف السنين. وكأن ملوك مصر قد بُعثوا يومها لا لنتباهى بهم وحسب -وهو كذلك- بل ليُباهوا بأحفادهم كذلك أمام الدنيا بأسرها؛ فها هى مصرُهم ورغم مرور آلاف السنين بهم باقية. ولم ندرِ وقتها، وكلانا يحتضن الآخر فى لحظة دفءٍ استثنائية، لحظة دفءٍ تمتد لنحو أربعة آلاف سنة، أيُّنا يفخر بالآخر ويزهو؟! لا شك أننا كنّا وما زِلنا فى لحظةٍ تفوق كلَّ وصفٍ، وتعجز أمامها ألسنةُ البيان ومعاجم اللغة، ونحن بجوار أجدادنا، يُجاور كلانا الآخر، وفى شوارع مهدتها أيدينا لهم، نفاخر بهم الدنيا. لا شك أننا أمام لحظةٍ ستتوقف أمامها الدنيا لأمدٍ بعيد، لحظة سيذهب فيها الجميعُ كلَّ مذهبٍ ووُجهةٍ، إلا أنهم وفى الأخير سيجمعون على أمرٍ لا ثانى له ألا وهو عظمة مصر، وأنها أمةٌ متى ما أرادت تم لها ذلك. وكأننا وقتها، وفى لحظةٍ، وأمام هذا الجمع الملكى الذهبى الاستثنائي، قد تلاشت وتبخرت جهودُ كل مَن حاول جهده إقصاءنا، وإن جلب وأصخب وزوّر؛ فأضحى كلُّ فعله عبر الزمان كضَرْطةٍ فى فلاةٍ. إن هذا الموكب المهيب بهذا الإعداد المهيب إلى متحف الحضارة بالفسطاط بمصر القديمة -درّة متاحف الدنيا- والذى يُطل على عين الصيرة، والتى أضحت فى زمنٍ قياسى جنةً تسرّ الناظرين إليها، وقبلةً تهفو إليها النفوس بعد أن ساء حالُها لردحٍ من الزمان. كل هذا ما هو إلا دليلُ واقعٍ ملموسٍ قد باتت عليه مصر الآن فى كل اتجاه، لا مجرد بروباجندا كاذبة، ولا دعاية فارغة، ولا محض سرابٍ. الأوبت ولا يقلّ جلالًا ومهابةً عن حفل نقل المومياوات الملكية إلى متحف الحضارة من حفل افتتاح طريق الكِباش بالأقصر نوفمبر2021م بالأقصر، وبعثه من جديد، ومحاكاة طقوس عيد الأوبت الغائب عن (كِمِت / مصر) منذ أكثر من ثلاثة آلاف وأربعمائة عام، وهو أحد أهم الأعياد الدينية والشعبية فى مصر القديمة، والذى كان يواكب شهر نوفمبر خلال موسم الحصاد وفيضان النيل العظيم، حفل أُعلنت فيه الأقصر رسميًّا كأكبر متحف مفتوح على وجه الأرض. حفظ الله مصر، شعبًا هؤلاء أجدادُه، وجيشًا مهيبًا لا تزالُ زمجراتُ جنوده يتردد صداها عبر آلاف السنين فتملأ الأرجاء والأركان، فترتعدُ منها فرائصُ أعدائه، جيشًا يُلامسُ زئيرُه عنان السماء وزمجراته حارسة لمصر عبر الزمان، ورئيسًا بارًّا بأجداده، يفاخرُ بهم الدنيا.