حسن حافظ بروح تجريبية لا تعرف الحدود، وعشقا للفن حتى الثمالة، ورغبة متجددة لاكتشاف كل أشكال الكتابة وفنونها، ترك الأديب والمفكر الكبير توفيق الحكيم (9 أكتوبر 1898 - 26 يوليو 1987) علامات لا تمحى فى صفحات الأدب المصرى الحديث، وخرج من تحت عباءته العديد من الأجيال الأدبية فى الرواية والمسرح والقصة وفن المقال، التى تعلمت فى مدرسة راهب الفكر والفن والساكن فى البرج العاجي، فن السهل الممتنع فى الكتابة، والسلاسة فى طرح الأفكار، والرغبة التى لا تحد فى التجديد وطرح الأفكار، والانفتاح على التراث المصرى بجميع طبقاته، وفى ذكرى ميلاده، تعود آخرساعة لعوالم الحكيم المدهشة، لتعيد تسليط الضوء على واحد من أكبر المبدعين المصريين وأكثرهم تأثيرا. تقدم الحكيم الصفوف الأدبية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، فجرّب أشكالا أدبية مختلفة للتعبير عن أفكاره، ففتح الأبواب أمام جميع المبدعين من خلفه، فاعترف الجميع بأستاذيته وريادته، بداية من نجيب محفوظ والأجيال الأدبية التى جاءت من بعده، فالحكيم وصل بالرواية إلى شكلها الحديث والمكتمل فنيا فى مصر عبر روايته الشهيرة (عودة الروح) وهى الرواية التى فتحت باب الكتابة الاجتماعية فى الرواية، بل إنها تعدُّ أول نموذج لرواية الحارة، التى تأثر بها محفوظ بشدة وغيّرت وجهته من كتابة الروايات ذات البعد التاريخى القديم إلى الكتابة الاجتماعية عن الحارة المصرية التى أبدع فيها معظم روائعه الروائية. ولم يتوقف إبداع الحكيم عند الرواية، بل نراه يضع أساس مسرح مصرى قائم على نصوص أدبية تُقرأ كنص إبداعى بشكل منفصل، وهو الخط الذى بدأه بمسرحيته (أهل الكهف)، التى احتفى بها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، إذ قال الأخير عن العمل المسرحى غير المسبوق: اقصة أهل الكهف ذات خطر، لا أقول فى الأدب العربى المصرى وحده، بل الأدب العربى كله، تؤرخ فى الأدب العربى عصرًا جديدًا، وحققت كل ما أريد للقصة التمثيلية فى أدبنا العربىب، ويتابع العميد قائلا: اإن قصة أهل الكهف أغنت الأدب العربي، وأضافت ثروة لم تكن له، ويمكن أن يُقال إنها قد رفعت من شأن الأدب العربي، وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة، ويمكن أن يقال إن الذين يعنون بالأدب العربى من الأجانب سيقرؤونها فى إعجاب خالص لا عطف فيه ولا إشفاق ولا رحمة لطفولتنا الناشئة، بل يمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من النقاد الأجانب يستطيعون أن يقرؤوها إن تُرجمت لهم ويجدوا، فيها لذة قوية، ويجدون فيها متاعًا خصبًاب. لواء الريادة المسرحية الذى نصّبه طه حسين فى ساحة توفيق الحكيم الإبداعية، لم يمنع الأخير من تطوير أدواته ليواكب التيارات الأدبية العالمية والمحلية المختلفة التى ظهرت فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فعندما ازدهر المسرح الاجتماعى فى مصر على يد نعمان عاشور ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي، وكلهم ممن تأثر بالحكيم، شارك الأخير معهم فى هذا الازدهار بمسرحيات من نوعية (الصفقة)، كما اشتبك مع مسرح اللا معقول الذى ازدهر فى فرنسا، فكتب مسرحية (الطعام لكل فم)، و(يا طالع الشجرة)، كما عمل على التأصيل النظرى للمسرح المكتوب فى كتابه الشهير (قالبنا المسرحي)، بل إن الميل إلى التجريب والريادة، جعلته يشارك فى تأسيس أدب الخيال العلمى فى مصر والأدب العربى بعامة، عندما كتب مسرحية (رحلة إلى الغد) فى خمسينيات القرن الماضى. كذلك شارك الحكيم فى التأصيل للرواية القصيرة إذ كتب رائعته (يوميات نائب فى الأرياف) كرواية قصيرة، كما كتب رواية (أشعب ملك الطفيليين)، واستخدم مصطلح رواية قصيرة فى عمله (راقصة المعبد)، ورغم كونه من كتّاب الزعيم جمال عبد الناصر المفضلين، إلا أنه وجّه انتقادات صريحة للنظام الناصرى فى مسرحية (السلطان الحائر)، والمسراوية (بنك القلق)، وصدرتا فى عقد الستينيات من القرن الماضي، وتتميز (بنك القلق) بأنها أول مسرحية روائية فى الأدب العربى الحديث، كما واصل الحكيم نقده للتجربة الناصرية، فى كتابه (عودة الوعى)، الذى صدر بعد وفاة عبد الناصر ومطلع حكم أنور السادات، وفجّر الكتاب موجة هائلة من ردود الأفعال بين مؤيد ومعارض، خصوصا أبناء التيار الناصرى الذين هاجموا الحكيم بقسوة. الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربى الحديث بجامعة القاهرة، حلّل ظاهرة الحكيم الإبداعية قائلا لاآخر ساعةب: اتجربة توفيق الحكيم، الرحبة والغنية والمتنوعة، واحدة من أهم التجارب الإبداعية والثقافية المصرية والعربية خلال القرن العشرين، وقد توزعت هذه التجربة فى مجالات شتى، فبجانب إسهاماته الكبيرة المعروفة فى الفن المسرحى التى ارتبطت بنقلات حاسمة على سبيل (توطين) ثم (تطوير) هذا النوع الإبداعى فى الأدب العربى. وكانت هناك كتاباته الروائية مثل (يوميات نائب فى الأرياف) و(عودة الروح) و(عصفور من الشرق) و(الرباط المقدس)، وكتاباته القصصية مثل (ليلة الزفاف) و(سلطان الظلام)، وكتاباته (السيرية) مثل (زهرة العمر) و(سجن العمر)، وكلها قدمت استكشافات مبكرة فى فنون السرد الروائى والقصصى والسيرى والسير الذاتية، وانطلقت من اهتمامات واضحة بقضايا مهمة، حاضرة فى الريف والمدن المصرية، وحاضرة أيضا على مستوى آخر يتصل بعلاقة الشرق والغرب، كما كانت هناك دراساته الفكرية، ومنها (التعادلية)، و(قالبنا المسرحي)، ومقالاته الغزيرة التى جمعها فى كتب عدة، مثل (شجرة الحكم)، و(حمار الحكيم)، وغيرهاب. وتابع حمودة: اإسهامات الحكيم فى هذه المجالات جميعا إسهامات كبيرة، وإن اقترن اسمه بدرجة أكبر بفن المسرح الذى أنجز فيه إنجازات كبيرة القيمة، والحقيقة أن مسرح الحكيم، بجانب دوره التأسيسي، يرتبط بمغامرات إبداعية متنوعة، انطلقت من إدراك حقيقى لجماليات الفن المسرحي، التى استوعبها وتمثّلها وأضاف إليها إضافات واضحة، كما انطلقت من معرفة واسعة بالميراث الذى يمكن استلهامه، وقد تعدد هذا الميراث كما هو معروف تعددا لافتا، بين التراث الشعبى فى مسرحيات مثل (يا طالع الشجرة) أو (مجلس العدل)، والتاريخى مثل (إيزيس)، والدينى فى مسرحيات مثل (أهل الكهف)، كما تنوع هذا التراث بين العربي، وغير العربى فى أعمال مثل (بيجماليون) و(الملك أوديب). وأضاف: ابجانب ذلك كله انطلقت هذه المغامرات من اهتمام بقضايا كبيرة ناقشها الحكيم فى مسرحياته، وهى قضايا متنوعة بدورها، سياسية واجتماعية وفلسفية وأخلاقية ووجودية إلخ، بعضها قديم متجدد، وأغلبها مرتبط ارتباطا واضحا بأبعاد كثيرة فى المجتمع المعاصر لتوفيق الحكيم، وخلال عالمه كله، فى كتاباته جميعا، راهن الحكيم على استكشاف لغة خاصة به، سهلة وبسيطة ومفعمة بالحيوية، قاربت بين لغة الكتابة ولغة الحياة، أو حوّلت لغة الحياة إلى لغة للكتابة.. وقد آثر الحكيم، دائما، فى كل ما كتب، أن يكون وأن يظل فى معترك الحياة، حتى وإن تقلّبتب. بدورها، قالت سكينة فؤاد، الكاتبة الصحفية والروائية: اتوفيق الحكيم كان قطعة من الفن تمشى على الأرض، قطعة من الإبداع، وسعدت وشرفت بلقائه وهو فى ذروة العمر، ووجدت أنه مازال يمتلئ بالأفكار رغم تقدمه فى السن، فتأكدت أن عقله لا يشيخ، إذ كان يتدفق بالأفكار غير العادية، لأنه مبدع استثنائى ومفكر غير عادي، وكان يسبق الزمن بأفكاره الجريئة، فرغم أنه قدم الكثير من الإبداع للمسرح المصري، إلا أنه كان يتمنى أن يقدم أكثر وأكثر للمسرح، فالرجل عاش للفن حتى لو كان هذا الأمر على حساب أسرته وحياته الخاصةب، لافتة إلى أنه جمعته علاقة خاصة بالزعيم جمال عبدالناصر، لكن الحكيم فضّل أن يحتفظ بمسافة عن عبدالناصر لأنه اكان يخشى على المبدع من أن يقترب من صاحب السلطان، لأن الإبداع كان القبلة التى أخلص لها على حساب أى شيء آخرب. وعن لقب اعدو المرأةب الذى التصق بالحكيم، تنفى سكينة فؤاد هذه التهمة قائلة: اهذا ادعاء لا أساس له، لأن الحكيم كان يحترم عقل المرأة وفكرها، ويرى أن حصولها على الحق فى التعليم وتقدير قيمتها جزء من نهضة الأمة، فليس حقيقيا أنه عدو المرأة على الإطلاق، لكنه عدو الجهل، وعدو ترك المرأة دون تزويدها بالعلم والمعرفة وبما ينمى طاقتها وقدرتها، فهو عدو لكل من لا يحترم المرأة وعقلها وقيمتها، ومازلت أذكر كيف كتب مقدمة لكتابى (ترويض الرجل)، وهى من المرات النادرة التى كتب فيها مقدمة لكتاب، وذلك لأننى استوحيت فكرة الكتاب من فكر المبدع الكبير، الذى كان يرى أن للمرأة عقلا فى قلبها، وللرجل قلب فى عقله، وأنهما يتكاملان ولا يتنافران أبدا، وأن التكامل بينهما يصنع الجنة على الأرضب.