للعالم موعد جديد مع عنوان آخر من عناوين الأزمات الكثيرة التى تسببت فيها جائحة كورونا التى لا تزال تلقى بتداعياتها على مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مخلفة تكاليف باهظة وخسائر كبيرة، ولا أحد، ولا جهة، بإمكانهما الجزم اليوم فى موعد محدد بنهاية هذه الفترة العصيبة فى تاريخ البشرية الحديث، مما يزيد من احتمالات تفاقم الأزمات فى المستقبل المنظور. عنوان هذه الأزمة مرتبط هذه المرة بالغذاء العالمى مع توجه مؤشرات أسعار مختلف أنواع الغذاء الرئيسية إلى الارتفاع كنتيجة طبيعية للتدابير الاحترازية الكثيرة والمتعددة التى سارعت جميع دول العالم إلى اتخاذها لمواجهة انتشار وباء خطير، إذ احتمت الدول الصغيرة كما الكبيرة، والقوية قبل الضعيفة، فى إجراءات الإغلاق التام للحدود، والحجز الصحى للمواطنين داخل المنازل، وفرض حالة الطوارئ. وكان من الطبيعى فى ضوء جميع هذه التدابير القاسية أن تتوقف وحدات الإنتاج، وتترك الغلات الفلاحية والزراعية تواجه التلف بعدما منعت هذه الإجراءات الاحترازية اليد العاملة من الوصول إليها فى الوقت المناسب، كما تقطعت سلاسل الإمدادات البرية والبحرية بالخصوص، حيث انتصبت الجائحة فى منتصف الطريق مانعة جميع وسائل النقل، بما فى ذلك نقل المواد الغذائية، من التحرك ومن العبور والمرور. ومن المثير فى شأن هذه الأزمة المرتقبة تنامى حدتها فيما سيأتى من أسابيع وشهور فى هذه السنة، أن تتعدد القراءات والتقييمات بين المنظمات الدولية المختصة. فإذا كانت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة تقر فى تقرير حديث لها بتسجيل ارتفاع فى أسعار الغذاء العالمية، خصوصا أسعار الحبوب والزيوت النباتية ومنتجات الألبان واللحوم والسكر، التى يؤكد التقرير الأممى الجديد أنها (وصلت إلى أعلى مستوى لها)، وإذا كان تحليل حديث آخر صادر عن مجموعة من الاقتصاديين المتخصصين توقع حدوث أزمة عالمية فى الغذاء، مستدلا بأن أسعار مجمل المواد تتجه تدريجيا إلى الارتفاع، بسبب كورونا، وبسبب دوافع أخرى يسجل أنها كانت معلومة ومعروفة من قبل أن تحل الجائحة ضيفا ثقيلا على العالم. ويسجل فى هذا الصدد أن آفة الجراد، مثلا دمرت كمية كبيرة من المحاصيل الزراعية فى شرق إفريقيا منذ سبعين سنة، ولم يكترث العالم إلى هذه الكارثة. كما أن انتشار حمى الخنازير الأفريقية لأكثر من ربع الخنازير فى العام الماضى، تسبب فى ارتفاع أسعار المواد الغذائية فى الصين بنسبة تراوحت ما بين 15 و22 بالمائة. إلا أن البنك الدولى رأى فى النشرة نصف السنوية التى يصدرها (آفاق أسواق السلع الأولية) فى هذا الارتفاع الذى اجتاح أسعار مجمل المواد الغذائية (انتعاشة) حيث يؤكد (أن السلع الأولية المعدنية والزراعية استعادت خسائرها جراء جائحة كورونا، وينتظر أن تحقق مكاسب جديدة ضئيلة فى عام 2021)، ولعل البنك الدولى ينظر إلى أسعار المواد الغذائية من منظور المستثمر الجشع الذى لا تهمه إلا مصلحته المتمثلة فى تحقيق أعلى مستويات الأرباح، مهما كانت الظروف قاسية، ولو كان ذلك على حساب المستهلكين من البسطاء والفقراء، لذلك فإن البنك الدولى يرى فى ارتفاع الأسعار انتعاشة لها واستدراكا للخسائر السابقة وفرصة لانتفاخ الحسابات المالية للمستثمرين. إنجاز تقييم بسيط جدا لأوضاع الغذاء فى العالم يؤشر على وجود إشكاليات عميقة ومستعصية لا يمكن تجاوزها بشرب حبات (أسبرين) للتخفيف من أوجاع الرأس، بقدر ما أنها فى حاجة ماسة وملحة إلى حلول عميقة وجذرية تكون كفيلة بإعادة التوازن إلى ميزان توزيع الغذاء العالمى الذى تميل كفته إلى شعوب الدول الغنية والقوية، على حساب شعوب الدول الفقيرة والمتخلفة التى تواجه تحديات جمة وكبيرة لضمان الشروط الدنيا من أجل توفير لقمة العيش المرة. هذه الشعوب التى يمثل الغذاء فى أقطارها ما بين 40 و60 بالمائة من سلة الاستهلاك، وهو ما يشكل حوالى 5 إلى 6 أضعاف حصتها فى الأقطار التى تتمتع باقتصاديات متطورة ومتقدمة. والواضح أن ترجيح فرضية توجه العالم بخطى حثيثة نحو تعميق الاختلالات فى توزيع الغذاء العالمى تفرض نفسها بما يمثل تربة خصبة لظهور أزمة غذاء عالمية تبقى مرجحة، فقد أفضت عمليات الإغلاق التى فرضتها مواجهة وباء كورونا فى مختلف أقطار المعمور إلى حدوث انهيار فى الطلب على السلع والخدمات، ورافق ذلك سيادة أجواء الترقب، وحتى الخوف والقلق، من الإقدام على شراء كميات كبيرة من الغذاء فى ظروف الغموض، وأيضا إسراع بعض الجهات، من منتهزى فرصة الظروف الصعبة التى يجتازها العالم لتكديس المواد واحتكارها، ويضاف إلى كل ذلك تسجيل النقص المتزايد فى العمالة بسبب القيود الصارمة التى فرضت على التنقل داخل الدول وبينها، بما أثر على حجم العمالة الموسمية العادية التى يحتاجها القطاع الفلاحى بالخصوص، وأثر أيضا على حجم الرواج التجارى بين الدول بسبب الاختلالات المسجلة فى سلاسل التوريد. إذن شاء من شاء، وكره من كره، فإن حجم الغذاء العالمى سيواجه تحديات مستعصية خلال مرحلة نهاية الوباء وما بعدها، وستلقى بظلالها على حصة الأفراد والجماعات مما يتحصلون عليه من كميات الغذاء. فالمعطيات الواضحة تؤكد حاليا أن النظم الحمائية التى اتخذتها كثير من دول العالم تسببت لحد الآن فى زيادة وصلت نسبتها إلى 40 بالمائة فى أسعار القمح و25 بالمائة فى أسعار الذرة فى الأسواق العالمية، وهذه النظم التى تهدف إلى حماية المنتوج القطرى الوطنى تفضى بدورها إلى انخفاض فى معدلات النمو وزيادة فى معدلات البطالة وإلى توسيع العجز المالى وارتفاع حجم الديون الخارجية. وهذا كله لا يعنى غير تجذير وتعميق الاختلالات الكبيرة فى النظام الاقتصادى العالمي، مما يؤشر على توقع مرحلة صعبة جديدة سيواجهها العالم فيما سيأتى من زمن.