محمد نور يرفعون شعار "التراب دهب"، إنهم الشيشنجية الذين يحترفون هذه المهنة من زمن بعيد، ولهم دكاكين صغيرة فى منطقة الحسين وداخل أروقة وحارات وأزقة القاهرة التاريخية. "آخر ساعة" زارتهم فى حارة أبو طاقية المتفرعة من حارة اليهود، حيث تتراص العديد من الورش الصغيرة المتخصصة فى الفضة والذهب التى تضم تجار تراب الذهب وأصحاب مسابك التراب، الذين يحولون التراب إلى ذهب، فهذه الحرفة ورثها المصريون من يهود مصر الذين كانوا يقطنون هذه المنطقة وتعلموها على أيديهم وأتقنوها وتوارثتها الأجيال. ثلاث ساعات هى المدة الزمنية التى قضيناها متنقلين بين ورش الذهب ومع الشيشنجية وأصحاب الورش والحرفيين، للتعرف على مراحل تحويل التراب إلى ذهب، فصنعة مسابك التراب تعتمد على "رايش" ورش المشغولات الذهبية، وخلال تشكيل المشغولات شاهدنا ذرات دقيقة جداً تتطاير من المعادن النفيسة التى يصعب على أى إنسان رؤيتها بالعين المجردة، وتسمى "البُرادة" أو "رايش" التى تختلط بالأتربة الموجودة فى الورش، حيث يقوم العمال بجمع هذا التراب المختلط بذرات الذهب فى أوانٍ أو براميل وبيعها إلى التجار أو أصحاب مسابك التراب، لتبدأ عملية تجميع هذا التراب، وتحميصه من خلال نيران قوية كثيفة، بعدها يُوضع هذا التراب فى بوتقة صغيرة غير قابلة للانصهار يضاف لها قليل من الرمال وبعض المواد الأخرى مثل بيكربونات الصوديوم وأكسيد الرصاص الخام، التى تعمل على صهر المعادن، إذ تساعد درجات الحرارة المرتفعة على إذابة جميع المعادن فى البوتقة لتصل إلى حالة سائلة. وفى خطوة تالية تُصب المعادن السائلة فى قوالب مصنوعة من مادة الزهر لتحملها الحرارة، فالمعدن يكون فى هذه الحالة أكثر كثافة، كما أن الذى يصل القالب فى البداية يُسمى "الخبث" الذى يحتوى على عنصرى الأكاسيد والسيليكون، ثم تتم عملية نزول المعدن أى الذهب المطلوب، وعلمنا من العاملين فى هذه المهنة أن السائل المصبوب بعد أن يبرد يتحول إلى سبيكة تحتوى على خط فاصل يكون واضحاً نتيجة اختلاف كثافة الخبث عن المعدن العادي، وفى هذه المرحلة يجرى فصل السبيكة وتحولها إلى سبيكتين (خبث ومعدن نفيس)، حيث يتم الاحتفاظ بسبيكة المعادن النفيسة. كما أن السبيكة التى يمتزج بها الذهب بالفضة يمكن بيعها أو القيام بفصل الفضة عن الذهب، وهذه مرحلة يطلق عليها "الحل"، حيث يتم وضع السبيكة فى مادة كيميائية يسمونها "الكذاب" أو "ماء النار"، كما يُستخدم حمض النتريك القوى فى تحويل الفضة إلى سائل يُسمى "فضة حل"، فضلا عن أن الذهب فى هذه الحالة يتحول إلى سائل شديد الكثافة يُسمى "ذهب حل" أى خام، حيث يُضاف إلى كل منهما مواد تعمل على تخشينها ثم تُترك لدقائق حتى تبرد فى سبائك، لتبدأ بعد ذلك مرحلة الصياغة وتشكيل الذهب على هيئة سلاسل وغوايش وأقراط وخواتم..إلخ، حيث يعمل داخل هذه الورش عمَّال مهرة يشكِّلون الذهب بهذه الأشكال الجذابة والمتنوعة. والشيشنجية من أهم الطاقات والعناصر الرئيسة فى مجال صناعة الذهب، حيث يجمعون التراب ويفصلونه ويدقون السبائك، كما يقيسون جودة الذهب المستخرح ودرجاته المتنوعة من حيث الأعيرة المختلفة (21 أو 24 أو 18) فمهمة فصل التراب واستخراج الذهب وتصنيعه شاقة وبالغة الدقة تتطلب فناً وقدراً كبيراً من المهارات الفريدة. داخل هذه الورش تحدثنا إلى بعض العاملين المتخصصين فى هذه المهنة، من بينهم أمجد السباك (55 عاماً)، حيث يقول: "أجمع تراب الذهب من الورش أو ما يطلق عليه (كنس الورش أو كنس ماكينة التصنيع) ثم يتم قياس نسبة الذهب المختفى داخل هذا التراب، لتبدأ مرحلة التصنيع، وهى صب التراب بعد خلطه برمال ومواد أخرى مثل البيكربونات وأكسيد الرصاص الخام كمواد مساعدة على صهر المعادن، وبفعل درجة الحرارة المرتفعة وانصهار المعادن يتم تقليب المزيج إلى أن نتأكد أن المزيج وجميع المعادن الموجودة به تحوَّلت لحالة سائلة، ثم نبدأ عملية تحويله إلى (سالقون) ناعم تحت درجة حرارة 700 مئوية، ثم يتحول السالقون إلى معدن الرصاص أو ما يشبه البلى الرفيع، بعد ذلك تبدأ مرحلة تحميص التراب وحرقه، وبعد أن يبرد ويصبح فى درجة حرارة الجو العادية يتم تحويله لمعدن ويدخل مرحلة التصنيع". يلتقط منه أطراف الحديث هيثم السيد (29 عاماً): "يتم صب المعادن بعد وصولها إلى الحالة السائلة فى قالب مصنوع من مادة الزهر لتحملها درجة الحرارة العالية، ونتيجة لأن المعدن النفيس يظل ثقيلاً، فإن القالب يصل فى البداية إلى حالة نسميها (الخبث)، التى تحتوى على الأكاسيد والسيليكون، ثم بعد ذلك ينزل معدن الذهب". يتابع: "فى البداية نأخذ عينة من التراب ثم نقيس نسبة الذهب فيها، حيث نحسب عدد الأسهم فى كيلو التراب الواحد، فمثلاً إذا كان هناك كيلو تراب فإن الذهب الذى يُستخلص منه ربما يصل إلى جرام ونصف الجرام بسعر 600 جنيه". أما حمدى أحمد (52 عاماً)، مالك ورشة لصياغة الذهب، فتحدث إلينا عن خطوات جمع تراب الذهب، قائلاً: "التراب الذى نجمعه هو البرادة أو مخلفات الورش أو المصانع، حيث يتم تخزينها، ثم يأتى التراب ونأخذ منه عينة وتقدر كمية هذا التراب بحسب حجم العمل فى الورشة طوال العام، فإذا كان العمل باستمرار تزيد كمية التراب أو المخلفات، وهناك مواسم يزيد فيها العمل بطبيعة الحال مثل عيد الأم وشهر رمضان، بالتالى تزيد نسبة المخلفات التى يطلق عليها (تراب الذهب)". يضيف: "تشكيل الذهب أى تحويل السبيكة إلى غويشة مثلاً يتم بعد عِدة مراحل، منها السبك أو التسييح ثم مرحلة الجلخ، بعدها تتم عملية القص أو التقطيع إلى مقاسات (19و20و21و22) وهى مقاسات السيدات، أو (15و16و17و18) الخاصة بالأطفال، ثم تتم عملية اللحام وتقطيع الغويشة بشكل مستدير لتبدأ مرحلة النقش ثم مرحلة الدمغة والموازين". ويوضح حمدى وجود نوعين من التراب، الأول (تراب الورش)، وهذا النوع عند مروره بمراحل التصنيع يعطى أعيرة (21، ع21، 875 سهما)، والثانى (التراب الخام) الذى يأتى من الجبال والمناجم، مثل منجم السكري، أو يتم استيراده من الخارج، وهذا التراب عيار 24 نقى صافٍ (9.999)، وعند تحويله إلى عيار 21 أو 18 تُضاف إليه مادة النحاس، لافتاً إلى وجود فرق فى النقش ودرجة النقاء بين الذهب المصرى والمستورد لكن العيار واحد. ويشير إلى أن مراحل التصنيع تبدأ بالسبك أو التسييح، وهى عبارة عن سائل يصب فى إناء حديدى لنبدأ مرحلة الجلخ ثم يتم تحويله إلى سبيكة ذهب ثم إلى غويشة أو قرط أو سلسلة، سواء عيار 21 جراما 875 سهماً من الألف، أو عيار 18 جراما 750 سهماً من الألف.