عبدالله البقالى حفلت الدراسة التى صدرت عن البنك العالمى، خلال النصف الثانى من هذا الشهر، والتى اختار لها مسؤولو هذه المنظمة المالية العالمية عنوان (تدفقات الديون العالمية، أسبابها ونتائجها ) بالمعطيات والحقائق، واكتظت بالتنبيهات إلى المخاطر الكبيرة المحيطة بالدول الفقيرة والنامية، ولكنها كانت معطيات متفاوتة الخطورة والتأثيرات على الأوضاع الاقتصادية فى العالم، تعكس بطبيعتها حقيقة النظام العالمى السائد، فى مجال منح وصرف الديون الخارجية العالمية. فالدراسة تنبه إلى الارتفاع المهول فى وتيرة ومعدلات الاستدانة من طرف الدول الفقيرة والدول النامية، وتكشف فى هذا الصدد أن هذه الوتيرة تعتبر الأسرع فى الارتفاع منذ 2010 إلى اليوم، بل إنها الأقوى تأثيرًا طيلة الخمسين سنة الماضية، ونبه معدو التقرير إلى أن استمرار هذه الوتيرة سيقود لا محالة إلى أزمة مالية عالمية جديدة أكثر خطورة من سابقاتها، وكشفت الدراسة أن تكلفة هذه الديون وصلت مستويات غير مسبوقة، حيث بلغت فى نهاية سنة 2018 نسبة 168 بالمائة من الناتج الداخلى الخام للدول المستدينة، فى حين كانت قبل ثمانى سنوات خلت فى مستوى 114 بالمائة من هذا الناتج. وعددت الدراسة أوجه مخاطر الديون التى تراكمت على الاقتصاديات الضعيفة والنامية على حد سواء. وهى الديون التى تستخدمها القوى الاقتصادية العالمية لاستدامة هيمنتها ونفوذها على نظام اقتصادى عالمى مختل، ومن هذه المخاطر الجديدة أن جزءا كبيرا من هذه الديون محصل من دائنين خواص، إذ بعد الهزة العنيفة التى تعرضت لها البنوك الكبرى، خلال الأزمة المالية لسنة 2008، مما نتج عنه نوع من الانكماش من طرف هذه البنوك،حيث اضطرت معه الدول الفقيرة والنامية إلى البحث عن جهات أخرى للاستدانة، ووجدت ضالتها فى البنوك الجهوية وفى أسواق الرساميل، وإذا كانت البنوك العالمية الكبرى والقروض الصادرة عن المنظمات الدولية تراعي، بل وتشترط فى كثير من الأحيان، توجيه هذه القروض نحو خدمة التنمية فى تلك البلدان، فإن الديون الصادرة عن البنوك الجهوية وأسواق الرساميل لا تفكر الا فى ضمان الأرباح الطائلة، ولو على حساب القدرات البسيطة والضعيفة للدول الفقيرة، وهنا تتجلى الخطورة الكبيرة لهذا الصنف الجديد من القروض العالمية، وتضيف الدراسة ما هو أخطر من ذلك، حينما تكشف عن نمو ملحوظ للديون المحصلة من المستثمرين الخواص الأجانب (حوالى 43 بالمائة إلى حدود نهاية 2018)، وتتميز هذه الديون بآجال تسديد قصيرة المدى، وبنسب فوائد ليست تفضيلية كما هو الشأن بالنسبة لبنوك التنمية، وهذا يعنى تشددا كبيرا فى نظام القروض وتضييقا كبيرا على عنق المستدين المحتاج. و تشير الدراسة من جهة أخرى إلى أن تسديد الديون الخارجية يتم بواسطة العملة الصعبة، وأن ارتفاع حجمها يعنى خدمة دين أكثر ارتفاعا بالعملة الصعبة مما يزيد من استنزاف مخزون احتياطى الدول المستدينة من العملة الصعبة. كل هذه العوامل وغيرها كثير، يرى معدو الدراسة أنها جعلت الدول الفقيرة والنامية المثقلة بالديون أكثر عرضة لمخاطر كثيرة، بسبب ارتفاع محتمل فى معدلات فوائد هذه الديون، وأيضا بسبب ضعف منسوب ثقة المستثمرين الأجانب فى القدرات المالية والاقتصادية لهذه الدول. و مهم أن نوضح أن الدراسة تشير إلى حقيقة مثيرة حقا، ذلك أنه فى الوقت الذى تتشدد فيه بعض المؤسسات المالية فى منح هذه القروض وتفرض معدلات فائدة جد مرتفعة، تورد الدراسة أنه من ضمن الأسباب التى ساهمت فى ارتفاع حجم الديون الخارجية لكثير من الدول، انخفاض معدلات الفائدة لدى بعض البنوك فى أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية، مما يمكن تفسيره بمنهجية الإغراء إلى أن يقع الإغراق. لكن فى تقديري، فإن أهم وأخطر ما تضمنته هذه الدراسة فى قضية الديون الخارجية العالمية تمثل فى إشكالية الشفافية حول منح وتدبير هذه القروض. فمعلوم أن الجهات الدائنة لم تعد تقتصر على البنوك العالمية ولا على الصناديق المالية الدولية، بل اقتحم هذا المجال فاعلون جدد، وفدوا إليه بشروط وبمواصفات جديدة، ويتعلق الأمر بمجموعات غير نظامية تتمثل فى بنوك صغرى ومستثمرين أجانب وبأندية مالية محلية، والأكيد، أن شروط منح الديون تغيرت مع دخول هؤلاء الفاعلين الجدد، وبالتالى تغير نظام القروض فى العالم، وهنا برزت مظاهر فساد خطيرة ومدمرة لأهداف ومرامى القروض نفسها. وهكذا، لم يعد خافيًا الحديث عن تلقى العمولات، وكلما كانت نسب الفائدة مرتفعة انتفخت قيمة هذه العمولات، ولم يعد غريبا منح القروض دون التأكد من وجهتها الحقيقية، هل هى مخصصة لخدمة التنمية فى البلاد المستفيدة أم لخدمة حسابات مصرفية معينة ؟، ناهيك عن ظاهرة البنود السرية فى عقود القروض، والتى لاتظهر إلى العلن بل تظل طى الكتمان بتواطؤ بين الجهة المانحة للقروض والجهة المستفيدة منها، وهى بنود يتم بمقتضاها تطويع القروض لخدمة المصالح الشخصية من هذه الجهة أو تلك. وتنتهى الدراسة إلى الاعتراف بأن الأسواق المالية العالمية المانحة للقروض لفائدة المنظمات والدول تفتقد للشفافية، وفى ذلك إقرار واضح بفساد منظومة الديون العالمية، التى تتخذها القوى الاقتصادية والمالية العالمية شكيمة للتحكم فى الدول الفقيرة والنامية، بما يخدم استمرار النظام الاقتصادى العالمى الظالم، وبما يتيح لها تكريس مصالحها الاستراتيجية ومراكمة مزيد من الأرباح. لهذه الأسباب وغيرها كثير، أضحى مستحيلا إقناع شعوب الدول الفقيرة والنامية، التى تمثل الغالبية الساحقة من سكان الكرة الأرضية، بعدالة نظام الديون العالمية. نقيب الصحافيين المغاربة