جسر للجغرافيا.. بجانب جسور التاريخ والمصير والمحبة بدا الملك سلمان بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين، سعيداً في جلسة المباحثات الموسعة التي جمعته بالرئيس عبدالفتاح السيسي أمس في قصر الاتحادية، وهو يستهل حديثه باسترجاع ذكريات أيام عاشها في مصر. كان الحنين يراوده، لتلك الأيام، في قلب القاهرة وشوارعها التاريخية، وهو يروي ذكرياته التي وصفها بالجميلة مع شخصيات مصرية في مختلف عهود جرت مياهها علي مرأي منه مع نهر النيل الخالد. كل من يعرف الملك سلمان، يعلم عشقه لمصر، ولعل هذه المشاعر هي التي دفعته لأن يقرر دون تردد مع أشقاء له منهم العاهل السعودي الراحل الملك فهد التطوع في الجيش المصري عام ١٩٥٦، فور وقوع العدوان الثلاثي. هذا الموقف النبيل، أشار الرئيس السيسي إليه بامتنان، في كلمته خلال المؤتمر الصحفي بعد أن قلد الملك سلمان أرفع وسام مصري وهو قلادة النيل العظمي، وأن يصفه وغيره من مواقف بأنها تعبر عن أصالة وتنم عن شهامة عربية خالصة ستظل محل إعزاز وتقدير من شعب مصر الوفي. ولعلنا نذكر أن الملك سلمان - حين كان أميراً للرياض- جاء إلي مصر منذ قرابة ثلاثين عاماً، كأول مسئول عربي رفيع المستوي يزور القاهرة بعد توقيع اتفاقات «كامب ديفيد»، لافتتاح معرض «السعودية بين الأمس واليوم»، وحرص علي أن يلقي بياناً في المطار يعبر فيه عن حبه لمصر التي وصفها بأنها حصن الإسلام وقلعة العروبة.
من ذكرياته التي يعتز بها في مصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين، انتقل الملك سلمان بحديثه إلي مفاجأة سارة للشعبين، فجرها في المباحثات، دون أن تتطرق إليها الجلسات التحضيرية أو اجتماعات المجلس التنسيقي المشترك المصري السعودي. أعلن الملك سلمان أمام الرئيس السيسي نيته إنشاء جسر بري يربط بين البلدين، وهو مشروع ظل حلماً علي مدي ثلاثين عاماً مضت، وحان الوقت لتنفيذه - علي حد قول الملك-. رحب الرئيس السيسي بمفاجأة الملك سلمان، وكلف الزعيمان حكومتي البلدين بسرعة اتخاذ الإجراءات الفنية والتمويلية لبدء التنفيذ. وفي المؤتمر الصحفي الذي جمع الزعيمين، أعلن الملك سلمان للشعبين عن إنشاء الجسر، ثم تحدث الرئيس السيسي قائلا: سيكون اسم الجسر.. «جسر الملك سلمان».
لم تكن مصر والسعودية بحاجة إلي جسر يربط تاريخ علاقات الشعبين بحاضرهما، أو يصل بين رؤي قيادتين وبين مواقف سياسية في بلدين. فالروابط وشيجة، والأواصر متينة، والعلاقات يعززها إيمان بوحدة مصير، وإدراك عميق بأن مستقبل أمة تعصف بها أنواء التقسيم والتفتت وشعوب تهددها مخاطر التطرف والإرهاب، رهن باتحاد الرؤي الاستراتيجية لمصر والسعودية، والعمل المشترك في مجابهة التحديات ودرء المخاطر، وردع التهديدات. لكن ضرورات الجغرافيا، واعتبارات الاقتصاد، كانت تحتم وجود جسر بري يعبر مياه البحر الأحمر في خليج العقبة، ويربط أرضي البلدين. المشروع الحلم يقضي بإنشاء جسر للسيارات والقطارات بطول 30 كيلو مترا منها 10 كيلو مترات فوق خليج العقبة، بين شمال شرم الشيخ، ورأس حميد شمال غرب السعودية. يري الملك سلمان في هذا الجسر، خطوة تاريخية، لأنه سيحقق الربط البري ليس فقط بين مصر والسعودية، وإنما بين آسيا وافريقيا، مما سيرفع حجم التبادل التجاري إلي مستويات غير مسبوقة، ويعزز صادرات البلدين للعالم، ويشكل منفذاً دولياً للمشروعات الواعدة في البلدين، ومعبراً أساسيا للحجاج والمعتمرين والسياح، إضافة إلي فرص العمل التي سيوفرها لأبناء المنطقة. ولقد سألت المهندس شريف اسماعيل رئيس الوزراء عن موعد البدء في المشروع، فقال إنه سيتم علي الفور، مراجعة أي دراسات سابقة، والشروع في اتخاذ الإجراءات اللازمة نحو التنفيذ. كما سألت الدكتور جلال السعيد وزير النقل عن تلك الدراسات، وكان وقع المفاجأة السارة باديا عليه، فقال إنه سيبدأ بعد اجتماعات المجلس التنسيقي المصري السعودي في إجراء الدراسات اللازمة في كل النواحي وفقا لما سيتم الاتفاق عليه. التقديرات السابقة لإنشاء الجسر كانت تشير إلي الانتهاء منه في غضون 7 سنوات بتكلفة في حدود 4 مليارات دولار. غير أن من يعرف نهج الرئيس السيسي والملك سلمان، لابد أن يدرك أن زمن تنفيذ المشروع سيقل عن تلك المدة بكثير!.
في ختام جلسة المباحثات الموسعة.. شهد الرئيس وخادم الحرمين، مراسم التوقيع علي ١٧ اتفاقية ومذكرة تفاهم للتعاون بين البلدين في إنشاء جامعة الملك سلمان بالطور، وتجمعات سكنية ضمن برنامج الملك لتنمية سيناء، ومشروع محطة كهرباء غرب القاهرة، وتطوير مستشفي قصر العيني، بجانب التعاون في الاستخدام السلمي للطاقة النووية ومجالات النقل البحري والزراعة والكهرباء والإسكان والتجارة والقوي العاملة والتربية والتعليم والثقافة والإذاعة والتليفزيون، وكذلك تجنب الازدواج الضريبي ومكافحة الفساد، بالإضافة إلي تعيين الحدود البحرية بين البلدين. هذه الاتفاقيات، ستتلوها اتفاقات أخري للاستثمار سيتم توقيعها اليوم بين المستثمرين في البلدين لإنشاء مشروعات مشتركة كبري في مجالات الصناعة والعقارات والزراعة وغيرها. بخلاف الاتفاق - الذي تم إقراره في المباحثات الموسعة أمس - علي توفير احتياجات مصر من المواد البترولية لمدة خمس سنوات قادمة بشروط ميسرة وبفائدة بسيطة.
مع أهمية التعاون الاقتصادي والمشروعات المشتركة بين مصر والسعودية لصالح الشعبين، فلا يمكن اختزال علاقات البلدين في التجارة والاستثمار والتمويل. مصر والسعودية، هما جناحا الأمة العربية - علي حد وصف الرئيس السيسي، وهما الحصن المنيع للأمة العربية والاسلامية مثلما ذكر الملك سلمان. الحقيقة أنهما الجناحان، والعقل، والحصن الأخير، لأمة عربية في مهب رياح الخطر. لذا يجب ألا نستغرب لجوء أعداء البلدين في داخل الأمة وخارجها ممن فشلت مخططاتهم وخابت أطماعهم، بقيام ثورة ٣٠ يونيو والدعم السياسي والمعنوي السعودي لها، إلي تحين أي فرصة لتعكير صفو مياه، أو الإيحاء بخلافات، أو بث شائعات الفرقة والوقيعة. لكن زيارة الملك سلمان، التي كانت محل حفاوة رسمية وشعبية بل حفاوة ٩٠ مليون مصري - كما قال الرئيس السيسي- قطعت الطريق علي الواهمين وأصحاب المكائد، وكشفت الزيارة منذ يومها الأول، والمباحثات منذ جلستها الأولي، أن العلاقات الاستراتيجية المصرية السعودية، لم تكن يوما في أقوي مراحلها مثلما هي اليوم. كان الملك سلمان واضحا في تعبيراته عندما قال إننا فخورون بما حققناه علي مختلف الأصعدة، فأصبحنا نعيش واقعا عربيا واسلاميا جديدا، عندما اتحدنا ضد محاولات التدخل في شئوننا، ورفضنا المساس بأمن اليمن واستقراره، وأكدنا تضامننا من خلال تحالف اسلامي عسكري لمكافحة الإرهاب وبعثنا برسالة إلي العالم كله عبر مناورات رعد الشمال نعلن فيها قوتنا وتوحدنا. ثم أجهز الملك سلمان علي تقولات أعداء مصر والسعودية حين أكد إن مصر وكعادتها كانت من أوائل الدول المشاركة بفاعلية في هذه التحالفات وهذا التضامن الذي دشن لعصر عربي جديد يكفل لأمتنا العربية هيبتها ومكانتها. وأسكت خادم الحرمين أصواتاً كانت تتمني فشل مبادرة الرئيس السيسي بإنشاء قوة عربية مشتركة، وأكد مجدداً علي موقف السعودية الداعم والساعي لإنجاح جهود إنشاء هذه القوة العربية. وكان الرئيس عبدالفتاح السيسي قاطعاً في تأكيده علي أن التنسيق المصري السعودي وخصوصية العلاقة بين البلدين يكفلان لهما مواجهة التحديات والتعامل الجاد مع كل من يسعي للمساس بالأمن القومي أو الإضرار بالمصالح العربية.
غداً.. يتحدث الملك سلمان بن عبدالعزيز أمام مجلس النواب، كأول زعيم علي الإطلاق يلقي كلمة في البرلمان المصري. وبينما يترقب الشعبان هذه الكلمة، ترقب الشعوب العربية بأمل نتائج الزيارة من أجل تغيير حال أمة علي محك المصير، وتخيب أوهاماً وتخرس ألسنة