كان أول عهدي بمطابخ القنوات الفضائية في قناة ART أو قناة الأوربت أو قناة دريم فأنا لا أذكر بالضبط اسم القناة فإن هذا تقريبا منذ خمسة عشر عاما أو أكثر. الذي أذكره أن إحدي هذه القنوات كانت في شهر رمضان تستضيفني مع كل مسلسل من كتابتي ويلقي نجاحا هائلا وذلك أنا والمخرج وبعض نجوم المسلسل في حوار معاد يتكرر كل عام ومع كل مسلسل. وفي أثناء الحوار مع مقدم أو مقدمة البرنامج كنت ألمح في الخلفية الممثل حسين الإمام وقد انهمك بالطهي في ديكور لمطبخ فاخر. كان الوقت عادة يقترب من فترة السحور وحيث كانت المسافة بعيدة في العودة عن بيوتنا كان حسين الإمام يطهو لنا ما نقتات به حتي لا يفوتنا طعام السحور. وللحقيقة كان حسين الإمام رحمه الله طاهيا ممتازا ويفوق طهيه معظم طهي الزوجات بل كان يفوق أيضا مقدرته في التمثيل. ورغم أنني حتي الآن لا أعرف أسماء أصناف الطعام التي كان يقدمها لنا إلي أنني اذكر أنها كانت لذيذة الطعم حتي أنني كنت أطلب المزيد. كان الأمر ينتهي عند هذا الحد ولم يكن حسين الإمام يقوم بشرح تفاصيل إعداد هذه الاصناف إلا لنا ونحن نلتهمها بشهية نحسد عليها ولكن دون استعراض لأطباق الطعام والزهو بها بشكل يثير شهوة الجائعين المحرومين الذين باعدت حالتهم المادية بينهم وبين هذه الأصناف التي هي في عداد الأحلام المستحيلة التحقيق. لاحظت في الآونة الأخيرة ان برامج المطابخ قد انتشرت في القنوات الفضائية انتشار النار في الهشيم. أصبح لكل قناة مطبخها الفاخر وأصبح لكل برنامج طاهي بطرطور أبيض كبير يعرف اسمه كل من يشاهدون ويستمعون الي وصلة الطبيخ. ولاحظت بعد ذلك ان المرأة بدأت تنافس في تقديم هذه البرامج ومن الواضح انهم اشترطوا الجمال وأناقة المظهر في الطاهيات وكأن الرجال هم الجمهور الذي يقتصر عليهم مشاهدة هذه البرامج التي يتم من خلالها طهي واستعراض أصناف من الطعام لا يقدر علي تكلفتها سوي من هم قادرون كل القدرة. وكذلك من لديهم الوقت والفراغ والصبر علي متابعة تفاصيل طهي هذه الأصناف من الأطعمة مهما كانت تكلفتها. ثم تطور الأمر فلاحظت ان هذه البرامج لا تكتفي بعملية الطهي وتوضيح تفاصيلها ومقاديرها بل بدأت تدريجيا يتم كتابة سيناريوهات لها واستقدام بعض نجوم ونجمات السينما والتليفزيون ممن يجدن الثرثرة والاستظراف عملا بمقولة «رزق الهبل علي المجانين». وأصبح هؤلاء النجوم والنجمات يقمن باستظراف الحوارات بينهم وبين الطاهي أو الطاهية. وأخشي كل ما أخشاه ان تتحول هذه البرامج إلي أعمال درامية تدور في المطبخ أحداثها السخيفة. السؤال الذي يلح علي ذهني وربما علي ذهن غيري من الملايين من المشاهدين المستنيرين هو: لمن تقدم هذه البرامج كل هذه الأصناف الفاخرة من الطعام؟ هل للمشاهدة فقط أم هي للتوعية المطبخية أم هي للتحسر وتعذيب النفوس المحرومة؟ كما نعرف كلنا ان معظم من يشاهدون برامج التليفزيون هي الطبقات المطحونة حيث هذه هي تسيلتهم الوحيدة التي لا تكلفهم سوي ثمن الكهرباء. ونحن نعلم جيدا ان طعام هذه الطبقات ينحصر في أصناف محدودة رخيصة بقدر المستطاع مثل الفول والطعمية والفول النابت والفول المدشوش الذي يطهي بصلصلة الطماطم والبطاطس المقلية أو المسلوقة اذا استحال وجود الزيت. ولست اقول البصارة أو العدس لان العدس أصبح من طعام الأثرياء فهو في المطاعم الفاخرة يقدم طبق الشوربة منه بثمن ليس بالرخيص. وحتي الكشري اصبحت مكوناته غالية الثمن وفي المحلات الشعبية اصبح طبق الكشري المتوسط الحجم لا يقل ثمنه عن خمسة جنيهات واذا أراد المرء منه شبعا فعليه ان يطلب طبقا آخر. وأنا أذكر عندما كنت أسكن في حي السيدة زينب كان الكشري هو طعام الفقراء وكذلك الكسكسي والبليلة والعاشورة والجبنة البيضاء والحلاوة الطحينية ولكن الآن اصبحت هذه الاصناف لا يقدر علي تناولها باستمرار إلا صاحب القدرة. للأسف لم يحاول أصحاب برامج المطابخ أن يتفننوا في تقديم أصناف من الطعام تكون تكلفتها في متناول الغالبية من الناس البسطاء وتتميز في نفس الوقت بشهية الطعم والتجديد وكلما ابتعدت هذه الأصناف عن استخدام اللحوم والأسماك كلما كان ذلك أفضل وأكثر رحمة وانسانية. رفقا ياأصحاب برامج الطهي بغالبية الناس الذين يشاهدون التليفزيون وتذكروا قول مصطفي لطفي المنفلوطي: «إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».