«زي النهارده».. 9 يونيو 1967 تنحي الرئيس عبدالناصر بعد نكسة 67    طلاب «إعلام المنوفية» يطلقون حملة «إعلامنا» للتعريف بالكلية ومميزات الدراسة بها    ارتفاع أسعار الدواجن والبيض اليوم في الأسواق    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 9 ونيو 2024    البترول: استيراد 15 شحنة غاز لشبكة الكهرباء.. والأولى تصل خلال 10 أيام    البنك المركزي يعلن معدلات التضخم في مصر بنهاية مايو.. الاثنين    الجيش الأمريكي يعلن استئناف عمليات الإغاثة عبر الرصيف العائم    حزب الله يعلن قصف مقر قيادة كتيبة السهل في ثكنة بيت هلل الإسرائيلية براجمة من صواريخ فلق 2    فلسطين.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تشن حملة اعتقالات واسعة    أيمن يونس: إمام عاشور افتقد للأداء الجماعي وحسام حسن أصاب بالاعتماد على الشناوي    «مين هيقدر يديره؟».. القيعي يكشف سبب رفضه لتعاقد الأهلي مع ميدو    أمم أوروبا 2024.. المنتخب الإنجليزي الأعلى قيمة سوقية ب 1.78 مليار يورو    بشرى عن طقس اليوم 9 يونيو.. انخفاض الحرارة 4 درجات    لماذا زاد ظهور عمرو دياب في الأفراح والمناسبات مؤخراً.. ناقد موسيقى يجيب    «زي النهارده».. وفاة الفنان عبدالله محمود 9 يونيو 2005    نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. «هيئة الدواء» تسحب أدوية جديدة من الصيدليات.. انفراد..النيابة العامة تحيل «سفاح التجمع» لمحاكمة عاجلة أمام «الجنايات».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم الأحد: 48 ساعة قبل عودة الغليان (تفاصيل)    10 سنوات إنجازات | طرق وكباري و3 محاور رئيسية لإحداث طفرة تنموية في قنا    هيئة التجارة البحرية البريطانية تعلن عن هجوم استهدف سفينة في السواحل اليمنية    ننشر أوائل الشهادات الإعدادية والإبتدائية الأزهرية بالوادي الجديد    أطول إجازة للموظفين في مصر خلال 2024.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى    حبس 8 مسجلين خطر بينهم سيدة ضبط بحوزتهم 13 كيلو مخدرات بالقاهرة    بايدن مخاطبًا ماكرون: شراكة الولايات المتحدة وفرنسا «لا تتزعزع»    أسامة كمال: الحكومة المستقيلة لهم الاحترام.. وشكل الوزارة الجديدة "تكهنات"    ليلى عبد اللطيف تكشف حقيقة توقعها بعيد أضحى حزين في مصر    تحرك عاجل من السعودية بشأن الحج بدون تصريح    سعر الدينار الكويتي في البنوك اليوم الأحد 9 يونيو 2024    مقتل 45 شخصا على الأقل جراء صراع عشائري في الصومال    ياسر إدريس: لا ينقصنا لاستضافة الأولمبياد سوى إدارة الملف    طارق سليمان: كنت مع مشاركة شوبير في نهائي إفريقيا على حساب الشناوي    «هيكسروا الدنيا».. سيف زاهر يكشف ثنائي جديد في الزمالك    خبير مائي: سد النهضة على وشك الانتهاء من الناحية الخرسانية وسيولد كهرباء خلال سنتين    مع بدء رحلات الحج.. خريطة حدود الإنفاق الدولي عبر بطاقات الائتمان في 10 بنوك    «القومى للمسرح المصري» يحتفي بدورة «سميحة أيوب»    ضبط مصري يسرق أحذية المصلين بمسجد في الكويت وجار إبعاده عن البلاد (فيديو)    جامعة العريش تطلق مبادرة شاملة لتأهيل الخريجين لسوق العمل    السعودية تبعد 300 ألف شخص من مكة لعدم حملهم تصاريح الحج    النديم: 314 انتهاك في مايو بين تعذيب وإهمال طبي واخفاء قسري    "نيويورك تايمز": قنبلة أمريكية صغيرة تقتل عشرات الفلسطينيين في غزة    طارق قنديل يتحدث عن.. سر نجاح الأهلي ..البطولة الأغلى له.. وأسعد صفقة بالنسبة له    ليلى عبداللطيف تتسبب في صدمة ل أحمد العوضي حول ياسمين عبدالعزيز (فيديو)    شاهد.. أكشن وكوميديا وإثارة فى برومو عصابة الماكس تمهيدا لطرحه فى عيد الأضحى    إصابة 6 أشخاص في تصادم سيارة وتروسيكل بالإسماعيلية    ما أهم الأدعية عند الكعبة للحاج؟ عالم أزهري يجيب    مصرع طفل عقب تعرضه للدغ عقرب فى جرجا بسوهاج    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد انتظام سير العمل بعيادة الجلدية ووحدة طوسون الصحية    عاجل.. انفراجة جديدة في مفاوضات بن شرقي وحقيقة عرضين الخليج ل "الأخطبوط"    ما هي أيام التشريق 2024.. وهل يجوز صيامها؟    دعاء ثالث ليالي العشر من ذي الحجة.. اللهم بشرنا بالفرح    حظك اليوم برج الحوت الأحد 9-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    عقوبة تصل ل مليون جنيه.. احذر من إتلاف منشآت نقل وتوزيع الكهرباء    وزير الصحة يتفقد مستشفى رأس الحكمة والضبعة المركزي بمحافظة مطروح    انتصار ومحمد محمود يرقصان بحفل قومي حقوق الإنسان    «تخلص منه فورًا».. تحذير لأصحاب هواتف آيفون القديمة «قائمة الموت» (صور)    وزير الصحة يوجه بسرعة توفير جهاز مناظير بمستشفى الضبعة المركزي    تحرير 40 مخالفة تموينية فى حملة على المخابز والمحال والأسواق بالإسماعيلية    وزير التعليم الفلسطيني: تدمير 75% من جامعاتنا والمدارس أصبحت مراكز للإيواء    جامعة المنوفية تشارك في مبادرات "تحالف وتنمية" و"أنت الحياة" بقوافل تنموية شاملة    فضل صيام العشر من ذي الحجة 1445.. والأعمال المستحبة فيها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
طلع حتة نمرة

من العبارات الحاكمة في لغة المصريين ذات الدلالات المتعددة، دا فلان ده طلع حتة نمرة!
للنمرة مفهوم خاص عند المصريين، يقولون مثلاً: فلان دا نمرة، أي ظهر منه ما لا يتوقعه أحد، أو يضمر خبثاً لا يظهر في سلوكه البيّن، أو تعني عدداً ما وهذا هو المفهوم الشائع، وقد تعني الدور في طابور ما غالباً يكون مرتبطاً بحرفة فيها حركة أو انتقال، وتعني أيضاً فقرة في كازينو أو مرقص ليلي أو سيرك أي يرتبط الوضع هنا بالرزق، بأكل العيش ومما يتردد بين أبناء هذه الفئة، »‬أنا عاوز ألحق النمرة بتاعتي»، »‬أنا عاوز أبدع في النمرة»، »‬ربنا يسهلها والنمرة تطلع حلوة»، أول رئيس »‬نمرة» لمصر كان محمد مرسي، في الجلسات الأولي لمحاكمته كنت أتابعه، بدا المتهم وكأنه يؤدي نمرة متفقا عليها أو مرسومة له، أول النمرة انه يتظاهر بأن أفعاله تأتي منه، والكل يعلم أنها مملاة عليه، حتي لو كان معزولاً فإن ما يقوم به من أفعال ناتج عن عقل تابع للمرشد الشاطر الذي يدير الأمور من بعيد في محبسه بطرة، مطلوب أن يرفض ارتداء ملابس السجن البيضاء، تصرف صبياني ولا معني له، الوضع كله ماثل واضح، إطاره زنزانة الحبس التي تضم أول رئيس مصري توجه إليه تهمة جنائية في محكمة عادية بالقتل والتجسس والخيانة، حتي في العصر المملوكي لم يسجل التاريخ خيانة أحد السلاطين، الخيانة جاءت من وزيرين »‬أميرين» هما خاير بك الذي أطلق عليه الشعب المصري خاين بك.. والآخر جان بردي الغزالي وظلا رمزاً لخيانة الوطن، في جميع العصور كان الإخلاص للوطن فرضاً علي المصريين وجزءاً من تكوينهم، لم يهتز هذا المفهوم إلا مع الإخوان عندما تمكنوا من مصر في خطأ تاريخي فادح يجب أن يحاسب الذين تسببوا فيه، جاء المعزول ليؤدي نمرة رئاسية فلم يكن مرشحاً أصلاً، وعندما وصل إلي الرئاسة في غفلة زمنية راح يؤدي النمرة وراء النمرة، نمرة أنه رئيس والرئيس الفعلي في مكان آخر، لأول مرة يصبح لمصر رئيس خفي، في المحكمة بدأ بنمرة الملابس، ثم نمرة الخطابة وإهانة المحكمة والجيش والشعب، نمرة وراء نمرة بعد نمرة ليتشكل أغرب فاصل في التاريخ المصري، كله عبارة عن نمرة دموية سوداء بدأ انقشاعها إلي الأبد، خاصة مع عودة الأمور إلي أصولها، الان أتأمل مرسي النمرة، والشاطر الذي كان أصلاً في حقبة كئيبة من تاريخ الوطن، فلا أكاد أراهما رغم مثولهما أمامي، أما ما يلفت نظري فهي المحاكمة التي طالت أكثر مما ينبغي!
الغزو العثماني
الأحد :
جري ذلك منذ خمسمائة عام وبضع سنوات أُخر.. كانت مصر تحت حكم سلاطين المماليك والذي مرّ بمراحل ثلاث، الأيوبية، والبحرية نسبة إلي جزيرة الروضة التي كانت مقراً للحكم وأسرة قلاوون قبل انتقال مركز السلطة إلي القلعة ثم المماليك البرجية الشراكسة والذي بدأ بالسلطان برقوق وانتهي بالسلطان طومانباي الذي حارب حتي اللحظة الأخيرة وشنق وعلقت رأسه علي باب زويلة مسدلاً الستار علي نهاية الدولة المصرية وطول وتمكين العثمانيين الغزاة الذين دمروا مصر لمدة مائتي عام حتي مجيئ الحملة الفرنسية وظهور محمد علي العظيم الذي أدرك رغم أصوله عبقرية المصريين، كان المماليك ذوي أصول أجنبية، جاءوا إلي مصر أطفالاً مخطوفين من سهوب آسيا وشمال أوروبا، هكذا كانت ظروف العصر، نشأوا في مصر لا يعرفون وطناً غيرها، تعلموا في القلعة، وفقاً لمناهج وبرامج صارمة، حموا العالم الإسلامي من خطرين داهمين، المغول والتتار، وحرروا الشام من الصليبيين، غير أن الفساد نخز في البنية، وكذلك الضعف الاقتصادي بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح، جري ذلك مع صعود الدولة العثمانية، والتي كانت تحارب في اتجاه الغرب، ثم طمع السلاطين في مصر، وبذلك فقدت الدولة العثمانية الأساس الذي قامت عليه، الحرب في اتجاه الغرب والدفاع عن الإسلام، أفتي الفقهاء المنافقون الجاهزون دوما بغزو مصر، ويذكر أوليا جلبي الرحالة التركي »‬نص الرحلة منشور بدار الكتب أثناء ولاية الدكتور صابر عرب في ترجمة كاملة» أن بعضهم قدم أحاديث نبوية إلي السلطان سليم الأول جاء فيها أنه سيتم فتح مصر بواسطته، هُزم السلطان الغوري في مرج دابق شمال حلب، ومنذ أعوام زرت المكان وتوقفت فيه طويلاً فقد تقرر فيه مصير وطني مصر، وفتح الطريق إلي القاهرة ليبدأ أبشع استعمار عرفته مصر، بدأ بتدمير الدولة، وحل العصب الدفين، وتفاصيل ما جري لمصر تحت الاحتلال العثماني مخيفة ما أشد الحاجة إلي التذكير بها واستعادتها، أنصح بقراءة »‬بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس والذي أنشد قصيدة مؤثرة عند دخول العثمانيين:
نوحوا علي مصر لأمر جري
عمت مصيبته كل الوري
أهي مصادفة تاريخية أن أحد مصادر الخطر والعداء الآن السياسة الأردوغانية العثمانية؟
حضارة المصريين
الاثنين :
هذا الكتاب لعالم المصريات الدكتور رمضان عبده علي، أعدت قراءته مرة أخري، إذ يكثر هذه الفترة ترديد نعت الفرعون بمناسبة صدور قرارات معينة، وتكثر علي الألسنة عبارات مثل »‬الفرعون»، »‬الفرعنة».. الخ. وفي هذا إهانة لرموز أعظم حضارة في تاريخ الإنسانية، بل إنها حجر الزاوية في مسار البشرية، إن كثرة ترديد هذا المصطلح سيؤدي إلي تكريس مفهوم سائد الآن في الواقع، يؤكده موقف التيارات الدينية، والتي تنطلق من مفهوم يعتبر أن الحضارة المصرية وثنية، وأن صناع هذه الحضارة من الأجداد كفار مشركون بالله، ويرجع ذلك إلي تعميم لقب »‬الفرعون» الذي ورد في القرآن الكريم خلال ذكر سيدنا موسي عليه السلام علي جميع الفراعين، وهذا غير صحيح لقد أدي شيوع هذا المفهوم إلي موقف عدائي من أحفاد الحضارة المصرية ضدها إلي درجة دعوة البعض إلي تدمير ما وصلنا من آثارها وإبداعاتها، ونلاحظ أن زعماء مصر ورموزها في حقب النهضة المختلفة كانوا يعلون من شأن التاريخ المصري بمراحله المختلفة، فرعونية، قبطية، إسلامية، بل إن الثورة العظمي للمصريين في القرن العشرين »‬1919» أعادت الجسور الروحية بين المصريين وأصولهم البعيدة، وانعكس ذلك علي الأدب والفن من عمارة وموسيقي ورسم، سائر الفروع، خلال العقود الأخيرة تقلصت المساحات التي كانت مخصصة للمراحل التعليمية المختلفة حول مصر القديمة تقلصت حتي في المرحلة الثانوية، كما توقفت الرحلات المدرسية إلي المواقع الأثرية، وكانت جزءاً أساسياً من التربية، من هنا أصبح هناك نقص في الثقافة العامة للمصريين، والأمر له صلة وثيقة بالأوضاع الحالية فالغالبية لا تنتبه إلي الأهمية القصوي للخلفية الثقافية للانتفاضة المصرية في يناير ولبدايات الثورة الشعبية التي ماتزال في طور التكوين، ورغم مضي حوالي العامين علي الحالة الثورية التي تعم مصر إلا أن البعد الثقافي فيها لم يدرس بعد، باستثناء محاولة ماتزال في بدايتها تمثلت في الأعداد الثلاثة التي صدرت من مجلة فصول خلال العام الأخير، الدكتور رمضان عبده علي من أكبر علماء المصريات، أمضي نصف قرن في دراسات ميدانية، شعر بفداحة الظلم الذي لحق بالحضارة المصرية القديمة، فأقدم علي وضع هذا السفر الضخم الذي يقع في خمسمائة صفحة وصدر مؤخراً عن مكتبة الأنجلو العريقة، عنوانه »‬حضارة المصريين القدماء.. مهد الرسل والرسالات وأرض النبوءات»، ولأن الكتاب مهم وفريد، يعتبر تتويجاً لجهود عديدة تمت في هذا الاتجاه، فإنني سأتوقف مطولاً أمام هذه الدراسة، إلا إذا جري في الواقع ما لا يمكن التزام الصمت تجاهه في الأحداث المتلاحقة، المتسارعة، والتي ندعو جميعا أن تمر علي خير حرصاً علي مهد الحضارة الإنسانية وشعبها العظيم.
عمارة المصريين
الاثنين عصراً :
البناء عماد الحضارة المصرية، جوهر ما قدمه المصريون إلي الإنسانية منذ أن بدأ الحكماء القدامي يتأملون مظاهر الكون ويوقنون أن ما يبدو للحواس إنما يخفي قوة أشمل وأعظم، ثمة رسم يرمز إلي هذه القوة رأيته لأول مرة في الأوزيريون التابع لمعبد أبيدوس في صعيد مصر، والذي وصل إلينا سليماً بمعجزة بعد عبور المبني الفريد بمحتواه من فن وكتابة ومعان خلال عصور الاضطراب والتعصب الديني والغزوات الأجنبية المدمرة والتي ماتزال جدران المعبد خاصة الأجزاء السفلية تحمل آثار الدمار الذي لحق بها، الرسم الذي توقفت أمامه طويلاً عبارة عن دائرة تحيط بها أو تلمسها من طرفيها يدان لا تري إلا أصابعهما فقط، الرسوم المصرية القديمة رغم بساطتها الظاهرة إلا أنها تعبر عن أفكار عميقة جداً يمكن القول إنها الأفكار الأساسية للهموم الإنسانية حتي الآن، يعبر هذا الرسم عن القوي الخفية التي تدير العالم، من خلال حركة الشمس اليومية وظهور النجوم وغيابها، من خلال فيضان النيل في وقت معلوم، اكتشف المصريون أن ثمة قوة لا تُري تدبر كل شيء، فرمزوا إليها بما يتفق مع الوعي الإنساني في ذلك الزمن البعيد، هكذا أقدم محاولة إنسانية لإدراك وجود الخالق سبحانه وتعالي، تعني كلمة »‬آمون» الخفي، الذي لا يري، وفي الديانات الثلاث تختتم الصلوات بنفس المعني »‬آمين»، أدرك المصريون أن كل شيء زائل إلا من خلق الوجود كله ويديره، وأن الحياة ليست إلا جسرا يعبر إلي الأبدية، وأن الخلود لمن أحسن عملاً بعد محاكمة يتم فيها وزن القلب، وأن من ثقلت موازينه سيلقي مصيراً مؤلماً، أما من خفت موازينه فإلي الجنة التي أطلقوا عليها اسم »‬حقول يارو» وفي مقبرة الفنان سنجم رع بدير المدينة بالأقصر لوحة متخيلة لها، أدرك المصريون أن كل شيء يزول، من هنا كان اهتمامهم بالبناء، بالعمارة، البناء للذكري، ضد النسيان، ضد المحو، البناء لتجدد الحياة، لتجسيد الفكرة، للعبادة، ما يتصل بالعقيدة والفكرة بقي عبر الأزمنة المضطربة، وما يتعلق بالحياة اليومية اندثر معها، بقيت المعابد والمقابر حيث بيوت الأبدية، وزالت البيوت حتي قصور الملوك، ولولا العمارة ما كان ممكناً أن نعرف شيئاً عن الحضارة المصرية، وبدون العمارة لا يمكن فهم المصريين.
الصلة بالكون
الاثنين ليلاً :
أحد المبادئ الرئيسية الراسخة لفن العمارة الذي أبدعه الشعب المصري لمقاومة العدم، والنسيان، أن يحتفظ بصلته إلي الكون اللانهائي، عندما نمشي في شارع المعز نلاحظ أنه يمضي متعرجاً محاذياً للنيل، للنهر، هكذا جميع الشوارع الرئيسية في المدن المصرية منذ العصور القديمة، تمضي محاذية للنهر، لا تتعامد عليه دائماً من الجنوب إلي الشمال، شارع المعز لا يشذ عن ذلك المبدأ، هكذا تنقسم المدينة إلي جزئين، في الصباح يكون الغربي معرضاً بالكامل لأشعة الشمس، ولهذا نتائج صحية معروفة، في الظهيرة تتعامد الشمس في المنتصف تماماً، ثم تبدأ الميل إلي الغروب، وعندئذ يتعرض النصف الشرقي للأشعة الكونية، هكذا تصبح المدينة كلها مطهرة بالشمس وعلي صلة بها، أمشي في الشارع الأعظم منذ بداية عمري وحتي الآن، لا يمر أسبوع إلا وأقطعه، في معظم الأحيان من الجنوب إلي الشمال، من باب زويلة إلي باب الفتوح، أو من ميدان الرميلة »‬القلعة» إلي الحسينية، مراحل، مراحل، لكل منها تاريخ وعمق وتفاصيل، ثم تاريخ مكتوب سعيت إليه عبر المصادر الكبري بدءاً من فتوح مصر والمغرب لابن عبدالحكم القرن الثاني الهجري وحتي خطط علي باشا مبارك مرورا بالمؤرخين الكبار في العصر الفاطمي، المسبحي، القضاعي، ابن ميسر، وقد أتاح لنا الدكتور أيمن فؤاد سيد هذه النصوص النادرة إما بتحقيقها أو إعادة بناء المفقود منها، ويكفي أنه أتاح لنا أعظم ما كتب في تاريخ القاهرة محققاً، بعد دراسات استغرقت سنوات طويلة، أعني »‬خطط المقريزي» وهذا كتاب عظيم فريد في مضمونه، إنه إحدي الموسوعات الكبري التي أقرأ فيها باستمرار بحثاً عن السر المقدس لمصر والمصريين، أما ما أعانني علي فهم شارع المعز فليس كتاباً، إنما هوامش علي كتاب، أعني موسوعة الأمير ابن تغر بردي »‬النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، أحد عشاق مصر قام بمطابقة الأماكن التي ورد ذكرها في الكتاب علي الواقع الذي عاشه في الأربعينيات، والغريب أنه لم يكن مؤرخاً ولا أستاذاً للتاريخ، إنما كان مفتشاً في وزارة المالية، وله مؤلف نفيس عن المدن والقري المصرية أعيد طبعه في السنوات الأخيرة من الهيئة المصرية العامة للكتاب، ولتلك الهوامش التي أعدها محمد رمزي بك فضل أساسي في تعرفي علي عمق المكان، إنه عمل جليل ألفت إليه النظر وسأعود لشرحه بشكل أوفي.
أنسنة العمارة
الثلاثاء :
عندما دخلت مقبرة رمسيس السادس عند وصولي إليها في رحلة مدرسية عام واحد وستين ذهلت، لم أكن أعرف ما أراه، لكن غزارة النقوش وجمالها وتنوعها أذهلني، منذ ذلك الحين لم أتوقف عن زيارتها، شيئاً فشيئاً من خلال القراءة والتأمل بدأت أتعرف علي البناء المحفور في الصخور إلي عمق كبير يتجاوز المائة متر، اكتشفت بنفسي بروج السماء في أقدم رسم معروف والذي رأيته مكتملاً دقيقاً في معبد دندرة »‬العصر البطلمي» حيث توجد نسخة مقلدة للوحة الزودياك الموجود أصلها في متحف اللوفر وقد انتزعها شامبليون وأرسلها إلي فرنسا وقد توقفت أمامها كثيراً خلال زياراتي للمتحف العالمي، ما اكتشفته عبرالتأمل، خلال هذه السنوات الممتدة، ما لم أقرأه في المراجع ذلك التشابه بين تصميم المقبرة والجسد الإنساني، الفتحة ضيقة، مموهة، لا تكاد تُري، تؤدي إلي ممر طويل لابد أن ينحني الإنسان خلاله، تماماً مثل مدخل الهرم، يدخله الإنسان مقترباً من الزحف، ثم يقف شيئاً فشيئاً إلي أن ينطلق علي قدميه في البهو الأعظم، حتي إذا اقترب من غرفة الدفن يدخلها زاحفاً علي أربع، إنها رحلة الحياة مختصرة في الحيز المحدود، المقر الأبدي، ينتهي الممر الطويل المقطوع أحياناً ببئر بعيدة القرار ربما لصد اللصوص المتوقعين، إلي أن ينتهي إلي غرفة الدفن بيضاوية الشكل وهو هيئة الرحم، عمق الأرض هو الرحم الأكبر، فيه يتفرق الجسد إلي النشأة الأولي، ذرات هائمة تتباعد عن بعضها، أما الروح فتصعد إلي خالقها، وقد رمز إليها المصريون القدماء بطائر غير أن رأسه آدمي، ما يعنيني هنا التكوين الداخلي للمقبرة وهذا متشابه في جميع المقابر العتيقة، وفي العمق البعيد حيث التابوت في الغرفة البيضاوية نجد إشارات محفورة تدل علي الجهات الأربع الرئيسية إنها أوضح في مقبرة حور محب التي ماتزال تحتفظ بزهاء ألوانها، في العمق، في الأرض الحاوية حيث سيصبح الإنسان بكل ما حوي جزءاً من ثراها يجب ألا تغيب اتجاهات الكون ومساراته، فالشمال شمال والجنوب كذلك الشرق والغرب، هذا المبدأ، وهذا التعبير نجده في المساجد المصرية الصميمة .
كتاب الكون
الأربعاء :
يبدو التدرج كمبدأ أصيل في العمارة المصرية الأصيلة واضحاً جلياً في عدة ملاحظات، الشكل الهرمي والذي يعد معراجاً من الحجر، من أسفل إلي أعلي، من البداية إلي النهاية، قاعدة عريضة تواجه الجهات الأربع الأصلية بدقة »‬مبدأ الصلة بالكون» ثم يقل الارتفاع كلما اتجهنا إلي أعلي حتي يصل البناء الضخم إلي نقطة، مجرد نقطة يبدأ عندها كل شيء غير مرئي أو ملموس وينتهي كل شيء مادي، في سقارة هرم جميل مازال يحتفظ بنصوص محفورة علي جدرانه تعد أقدم النصوص المكتوبة في العالم، وتعرف الآن بمتون الأهرام وقد ترجمت ونشرت في المشروع القومي للترجمة، غير أن ما يبهرني ليس الكتابة أو الهرم نفسه رغم إعجازهما، إنما الطريق المؤدي إليه والصاعد من أسفل الهضبة وإلي جانبيه موضع مراكب الشمس، الطريق لا يمكن رؤية الهرم الذي شق من أجله إلا عند نقاط معينة قرب النهاية، هكذا يبدو هرم أوناسي شيئاً فشيئاً للقادم من أسفل إلي أعلي، أو يختفي تدريجياً للمبتعد عنه، من أعلي إلي أسفل، هذا الطريق المخطط له من جانب المصري القديم يحوي رؤية إنسانية وفلسفية، هكذا أيضاً ذلك الشكل الهرمي الذي يصل الأرض بالسماء، يصل المادة بالفراغ، يصل المحدود إلي اللامحدود، الهرم أكمل الأشكال، كما أنه حل عبقري لبقاء البنيان أطول مدة ممكنة، فالثقل يخف كلما اتجهنا إلي أعلي، هكذا يقاوم البناء عناصر الهدم والمحو، يذكر المقريزي في خططه أن الهرم الكبير »‬خوفو»، كان مغطي بالكتابة، ولم تكن الهيلوغريفية معروفة للكتاب منذ دخول العرب إلي مصر فأطلقوا عليها قلم الطير لتكرار شكل الطير، الهرم بأكمله كان مغطي بالكتابة، أي أنه أضخم كتاب عرفته الإنسانية، تري.. ماذا حوي؟، ويقول الرحالة القدامي إن الكتابة كانت محفورة وملونة بغطاء ذهبي حتي إذا أشرقت الشمس تنعكس الحروف فيضيء هذا الكتاب المبهر الجميل، تظهر حروفه تدريجياً مع حركة الشمس، ويمكن قراءة النصوص من شتي الجهات، من أعلي إلي أسفل، من يمين إلي يسار، ومن يسار إلي يمين، العمارة المصرية تعبير عن كتاب الكون، والكتب تقرأ حرفاً حرفاً وكلمة كلمة.
تدرج
الخميس :
التدرج أحد المبادئ الأساسية التي تحكم العمارة المصرية، وهذا نابع من رؤية وتأمل للطبيعة وقوانين الحياة والموت، ربما كان أهمها متابعة فيضان النيل، كانت الحياة في مصر تدور حول هذا الفيضان الذي نسيت مصر وأهلها حدوثه وأهميته منذ اكتمال السد العالي الذي جنب البلاد مخاطره من شح وغمر، منذ الأزل، كان مقياس النيل عنصراً أساسياً في حياة المصريين، يترقبون المياه خاصة اعتباراً من يوليو وترصد أول زيادة في النيل بما يعرف بنزول النقطة، أي وصول أول نقطة مياه من الفيضان، تأتي من الحبشة وتقطع المسافة في أحد عشر يوماً، الأسطورة تقول إنها دمعة إيزيس رمز الأمومة الذي أهدته مصر إلي العالم، إيزيس تبكي حزناً علي زوجها أوزير الذي قتله شقيقه ست إله الشر، واسم ست هو أصل كلمة الشيطان في اللغة اللاتينية، دمعة إيزيس أول قطرة ماء في الفيضان »‬بالمناسبة لم تظهر بوادر الفيضان حتي الآن ونحن ندخل إلي أغسطس وهذا مخيف»، نقطة فنقطة، لحظة بعد لحظة، تتزايد مياه النيل إلي أن يسجل المقياس ستة عشر ذراعاً وشرطتين، هذا يعني اكتمال الفيضان، أو وفاء النيل كما كان يعرف حتي نسيان المصريين للفيضان، ونلاحظ أن تعبير وفاء النيل فيه بُعد إنساني، فمن يفي غير الإنسان؟ ربما هذا تأثير العقيدة في العصور القديمة، كان النيل يرمز إليه بحابي، وصورته موجودة في المعابد المصرية، إنه إنسان له جسد ذكر وصدر أنثي، رمز إلي مصدر الحياة، وكان يرسم دائماً في أول جدران المعابد من أسفل كما نري في معبد أبيدوس، وبعده تتوالي الرموز الأخري، من تدرج الفيضان، من مسار الحياة، الإنسان لا يولد مكتملاً، إنما يتدرج، الشروق لا يجيئ إلا عبر مراحل، كذا الغروب، يسعي الإنسان ثم ينحني شيئاً فشيئاً، هذه الرؤية العميقة النافذة، جعلت المصريين يعبرون عنها في الفنون وأولها العمارة التي جعلوها اداتهم لقهر النسيان، وتجاوز العدم إلي الخلود، هذا التدرج يتجسد في المعبد، والكنيسة، والمسجد، أعني العمارة المصرية الصميمة غير المتأثرة بالأجنبي الوافد، أو القاهر المستعمر.
واجهة
الجمعة :
يمكن القول إنه ما من بناء يشبه الآخر، سواء في المعابد المصرية القديمة، أو الكنائس، أو المساجد، لا يقتصر التنوع علي عصر معين، ولكن تلك سمة غالبة، حتي في العصور التي ساد فيها طراز واحد قادم مع المحتل، مثل الطراز العثماني، ثمة فرق بين مسجد السلحدار في شارع المعز أو مسجد محمد علي باشا في القلعة، الخاصية المصرية تتعلق بالإبداع المصري وسماته، في استانبول نجد معظم المساجد الكبري مثل السلطان أحمد والسليمانية وغيرهما طرز مستنسخة من الأصل، كنيسة أيا صوفيا، خاصة فيما يتعلق بالقباب، في مصر القديمة تتشابه الأهرام في الخطوط العامة لكنها تختلف في الأحجام والزوايا والهيئة العامة، أما المعابد فلكل منها شخصيته المختلفة رغم المبادئ الحاكمة، مثل الواجهة الضخمة المائلة، إن الواجهة أول عناصر الخصوصية المعمارية المصرية، سواء كانت واجهة معبد، أو واجهة قصر، وقد وصلت إلي عصرنا واجهات متكاملة، بل تكاد تكون سليمة، أهمها واجهة معبد الأقصر، وكان أمامه مسلتان، الآن توجد واحدة فقط، أما الأخري فتقوم في ميدان الكونكورد، مركز باريس وقلبها، الواجهة الأخري التي أقف أمامها متأثراً، متأملاً، واجهة معبد هابو في الأقصر أتأمل مهابتها، والمكان المخصص للعلم فوق المدخل، علمان لكل منهما صاري يرتكز إلي حفرة دائرية، معبد هابو شيده آخر فراعنة مصر العظام الذي حارب غزوات ضخمة شنت من شعوب البحر، ويحتفظ المعبد بلوحة ضخمة، لعلها الأعظم في تاريخ الإنسانية عن فظائع الحرب، إنها أقدم من جرنيكا بيكاسو، لوحته الشهيرة عن الحرب الأهلية الاسبانية 1936، الجدارية المصرية أقدم بحوالي ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، والغريب أنها مجهولة، لم يلتفت إليها أحد لا من الفنانين ولا من الأثريين، هناك واجهة الدير البحري القائمة حتي الآن، ثم واجهة معبد أبيدوس والتي تظهر شيئاً فشيئاً للإنسان المتقدم علي الدرج الفسيح صوب المعبد، أتذكر الواجهات العظمي في مصر القديمة كلما وقفت أمام واجهة الكنيسة المعلقة، أو واجهة السلطان حسن الشاهقة، أو المسجد الأزهر المنمنمة بأشجار ماتزال تحتفظ بألوانها، الواجهة في العمارة المصرية فاتحة البناء وأوله.
من العبارات الحاكمة في لغة المصريين ذات الدلالات المتعددة، دا فلان ده طلع حتة نمرة!
للنمرة مفهوم خاص عند المصريين، يقولون مثلاً: فلان دا نمرة، أي ظهر منه ما لا يتوقعه أحد، أو يضمر خبثاً لا يظهر في سلوكه البيّن، أو تعني عدداً ما وهذا هو المفهوم الشائع، وقد تعني الدور في طابور ما غالباً يكون مرتبطاً بحرفة فيها حركة أو انتقال، وتعني أيضاً فقرة في كازينو أو مرقص ليلي أو سيرك أي يرتبط الوضع هنا بالرزق، بأكل العيش ومما يتردد بين أبناء هذه الفئة، »‬أنا عاوز ألحق النمرة بتاعتي»، »‬أنا عاوز أبدع في النمرة»، »‬ربنا يسهلها والنمرة تطلع حلوة»، أول رئيس »‬نمرة» لمصر كان محمد مرسي، في الجلسات الأولي لمحاكمته كنت أتابعه، بدا المتهم وكأنه يؤدي نمرة متفقا عليها أو مرسومة له، أول النمرة انه يتظاهر بأن أفعاله تأتي منه، والكل يعلم أنها مملاة عليه، حتي لو كان معزولاً فإن ما يقوم به من أفعال ناتج عن عقل تابع للمرشد الشاطر الذي يدير الأمور من بعيد في محبسه بطرة، مطلوب أن يرفض ارتداء ملابس السجن البيضاء، تصرف صبياني ولا معني له، الوضع كله ماثل واضح، إطاره زنزانة الحبس التي تضم أول رئيس مصري توجه إليه تهمة جنائية في محكمة عادية بالقتل والتجسس والخيانة، حتي في العصر المملوكي لم يسجل التاريخ خيانة أحد السلاطين، الخيانة جاءت من وزيرين »‬أميرين» هما خاير بك الذي أطلق عليه الشعب المصري خاين بك.. والآخر جان بردي الغزالي وظلا رمزاً لخيانة الوطن، في جميع العصور كان الإخلاص للوطن فرضاً علي المصريين وجزءاً من تكوينهم، لم يهتز هذا المفهوم إلا مع الإخوان عندما تمكنوا من مصر في خطأ تاريخي فادح يجب أن يحاسب الذين تسببوا فيه، جاء المعزول ليؤدي نمرة رئاسية فلم يكن مرشحاً أصلاً، وعندما وصل إلي الرئاسة في غفلة زمنية راح يؤدي النمرة وراء النمرة، نمرة أنه رئيس والرئيس الفعلي في مكان آخر، لأول مرة يصبح لمصر رئيس خفي، في المحكمة بدأ بنمرة الملابس، ثم نمرة الخطابة وإهانة المحكمة والجيش والشعب، نمرة وراء نمرة بعد نمرة ليتشكل أغرب فاصل في التاريخ المصري، كله عبارة عن نمرة دموية سوداء بدأ انقشاعها إلي الأبد، خاصة مع عودة الأمور إلي أصولها، الان أتأمل مرسي النمرة، والشاطر الذي كان أصلاً في حقبة كئيبة من تاريخ الوطن، فلا أكاد أراهما رغم مثولهما أمامي، أما ما يلفت نظري فهي المحاكمة التي طالت أكثر مما ينبغي!
الغزو العثماني
الأحد :
جري ذلك منذ خمسمائة عام وبضع سنوات أُخر.. كانت مصر تحت حكم سلاطين المماليك والذي مرّ بمراحل ثلاث، الأيوبية، والبحرية نسبة إلي جزيرة الروضة التي كانت مقراً للحكم وأسرة قلاوون قبل انتقال مركز السلطة إلي القلعة ثم المماليك البرجية الشراكسة والذي بدأ بالسلطان برقوق وانتهي بالسلطان طومانباي الذي حارب حتي اللحظة الأخيرة وشنق وعلقت رأسه علي باب زويلة مسدلاً الستار علي نهاية الدولة المصرية وطول وتمكين العثمانيين الغزاة الذين دمروا مصر لمدة مائتي عام حتي مجيئ الحملة الفرنسية وظهور محمد علي العظيم الذي أدرك رغم أصوله عبقرية المصريين، كان المماليك ذوي أصول أجنبية، جاءوا إلي مصر أطفالاً مخطوفين من سهوب آسيا وشمال أوروبا، هكذا كانت ظروف العصر، نشأوا في مصر لا يعرفون وطناً غيرها، تعلموا في القلعة، وفقاً لمناهج وبرامج صارمة، حموا العالم الإسلامي من خطرين داهمين، المغول والتتار، وحرروا الشام من الصليبيين، غير أن الفساد نخز في البنية، وكذلك الضعف الاقتصادي بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح، جري ذلك مع صعود الدولة العثمانية، والتي كانت تحارب في اتجاه الغرب، ثم طمع السلاطين في مصر، وبذلك فقدت الدولة العثمانية الأساس الذي قامت عليه، الحرب في اتجاه الغرب والدفاع عن الإسلام، أفتي الفقهاء المنافقون الجاهزون دوما بغزو مصر، ويذكر أوليا جلبي الرحالة التركي »‬نص الرحلة منشور بدار الكتب أثناء ولاية الدكتور صابر عرب في ترجمة كاملة» أن بعضهم قدم أحاديث نبوية إلي السلطان سليم الأول جاء فيها أنه سيتم فتح مصر بواسطته، هُزم السلطان الغوري في مرج دابق شمال حلب، ومنذ أعوام زرت المكان وتوقفت فيه طويلاً فقد تقرر فيه مصير وطني مصر، وفتح الطريق إلي القاهرة ليبدأ أبشع استعمار عرفته مصر، بدأ بتدمير الدولة، وحل العصب الدفين، وتفاصيل ما جري لمصر تحت الاحتلال العثماني مخيفة ما أشد الحاجة إلي التذكير بها واستعادتها، أنصح بقراءة »‬بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس والذي أنشد قصيدة مؤثرة عند دخول العثمانيين:
نوحوا علي مصر لأمر جري
عمت مصيبته كل الوري
أهي مصادفة تاريخية أن أحد مصادر الخطر والعداء الآن السياسة الأردوغانية العثمانية؟
حضارة المصريين
الاثنين :
هذا الكتاب لعالم المصريات الدكتور رمضان عبده علي، أعدت قراءته مرة أخري، إذ يكثر هذه الفترة ترديد نعت الفرعون بمناسبة صدور قرارات معينة، وتكثر علي الألسنة عبارات مثل »‬الفرعون»، »‬الفرعنة».. الخ. وفي هذا إهانة لرموز أعظم حضارة في تاريخ الإنسانية، بل إنها حجر الزاوية في مسار البشرية، إن كثرة ترديد هذا المصطلح سيؤدي إلي تكريس مفهوم سائد الآن في الواقع، يؤكده موقف التيارات الدينية، والتي تنطلق من مفهوم يعتبر أن الحضارة المصرية وثنية، وأن صناع هذه الحضارة من الأجداد كفار مشركون بالله، ويرجع ذلك إلي تعميم لقب »‬الفرعون» الذي ورد في القرآن الكريم خلال ذكر سيدنا موسي عليه السلام علي جميع الفراعين، وهذا غير صحيح لقد أدي شيوع هذا المفهوم إلي موقف عدائي من أحفاد الحضارة المصرية ضدها إلي درجة دعوة البعض إلي تدمير ما وصلنا من آثارها وإبداعاتها، ونلاحظ أن زعماء مصر ورموزها في حقب النهضة المختلفة كانوا يعلون من شأن التاريخ المصري بمراحله المختلفة، فرعونية، قبطية، إسلامية، بل إن الثورة العظمي للمصريين في القرن العشرين »‬1919» أعادت الجسور الروحية بين المصريين وأصولهم البعيدة، وانعكس ذلك علي الأدب والفن من عمارة وموسيقي ورسم، سائر الفروع، خلال العقود الأخيرة تقلصت المساحات التي كانت مخصصة للمراحل التعليمية المختلفة حول مصر القديمة تقلصت حتي في المرحلة الثانوية، كما توقفت الرحلات المدرسية إلي المواقع الأثرية، وكانت جزءاً أساسياً من التربية، من هنا أصبح هناك نقص في الثقافة العامة للمصريين، والأمر له صلة وثيقة بالأوضاع الحالية فالغالبية لا تنتبه إلي الأهمية القصوي للخلفية الثقافية للانتفاضة المصرية في يناير ولبدايات الثورة الشعبية التي ماتزال في طور التكوين، ورغم مضي حوالي العامين علي الحالة الثورية التي تعم مصر إلا أن البعد الثقافي فيها لم يدرس بعد، باستثناء محاولة ماتزال في بدايتها تمثلت في الأعداد الثلاثة التي صدرت من مجلة فصول خلال العام الأخير، الدكتور رمضان عبده علي من أكبر علماء المصريات، أمضي نصف قرن في دراسات ميدانية، شعر بفداحة الظلم الذي لحق بالحضارة المصرية القديمة، فأقدم علي وضع هذا السفر الضخم الذي يقع في خمسمائة صفحة وصدر مؤخراً عن مكتبة الأنجلو العريقة، عنوانه »‬حضارة المصريين القدماء.. مهد الرسل والرسالات وأرض النبوءات»، ولأن الكتاب مهم وفريد، يعتبر تتويجاً لجهود عديدة تمت في هذا الاتجاه، فإنني سأتوقف مطولاً أمام هذه الدراسة، إلا إذا جري في الواقع ما لا يمكن التزام الصمت تجاهه في الأحداث المتلاحقة، المتسارعة، والتي ندعو جميعا أن تمر علي خير حرصاً علي مهد الحضارة الإنسانية وشعبها العظيم.
عمارة المصريين
الاثنين عصراً :
البناء عماد الحضارة المصرية، جوهر ما قدمه المصريون إلي الإنسانية منذ أن بدأ الحكماء القدامي يتأملون مظاهر الكون ويوقنون أن ما يبدو للحواس إنما يخفي قوة أشمل وأعظم، ثمة رسم يرمز إلي هذه القوة رأيته لأول مرة في الأوزيريون التابع لمعبد أبيدوس في صعيد مصر، والذي وصل إلينا سليماً بمعجزة بعد عبور المبني الفريد بمحتواه من فن وكتابة ومعان خلال عصور الاضطراب والتعصب الديني والغزوات الأجنبية المدمرة والتي ماتزال جدران المعبد خاصة الأجزاء السفلية تحمل آثار الدمار الذي لحق بها، الرسم الذي توقفت أمامه طويلاً عبارة عن دائرة تحيط بها أو تلمسها من طرفيها يدان لا تري إلا أصابعهما فقط، الرسوم المصرية القديمة رغم بساطتها الظاهرة إلا أنها تعبر عن أفكار عميقة جداً يمكن القول إنها الأفكار الأساسية للهموم الإنسانية حتي الآن، يعبر هذا الرسم عن القوي الخفية التي تدير العالم، من خلال حركة الشمس اليومية وظهور النجوم وغيابها، من خلال فيضان النيل في وقت معلوم، اكتشف المصريون أن ثمة قوة لا تُري تدبر كل شيء، فرمزوا إليها بما يتفق مع الوعي الإنساني في ذلك الزمن البعيد، هكذا أقدم محاولة إنسانية لإدراك وجود الخالق سبحانه وتعالي، تعني كلمة »‬آمون» الخفي، الذي لا يري، وفي الديانات الثلاث تختتم الصلوات بنفس المعني »‬آمين»، أدرك المصريون أن كل شيء زائل إلا من خلق الوجود كله ويديره، وأن الحياة ليست إلا جسرا يعبر إلي الأبدية، وأن الخلود لمن أحسن عملاً بعد محاكمة يتم فيها وزن القلب، وأن من ثقلت موازينه سيلقي مصيراً مؤلماً، أما من خفت موازينه فإلي الجنة التي أطلقوا عليها اسم »‬حقول يارو» وفي مقبرة الفنان سنجم رع بدير المدينة بالأقصر لوحة متخيلة لها، أدرك المصريون أن كل شيء يزول، من هنا كان اهتمامهم بالبناء، بالعمارة، البناء للذكري، ضد النسيان، ضد المحو، البناء لتجدد الحياة، لتجسيد الفكرة، للعبادة، ما يتصل بالعقيدة والفكرة بقي عبر الأزمنة المضطربة، وما يتعلق بالحياة اليومية اندثر معها، بقيت المعابد والمقابر حيث بيوت الأبدية، وزالت البيوت حتي قصور الملوك، ولولا العمارة ما كان ممكناً أن نعرف شيئاً عن الحضارة المصرية، وبدون العمارة لا يمكن فهم المصريين.
الصلة بالكون
الاثنين ليلاً :
أحد المبادئ الرئيسية الراسخة لفن العمارة الذي أبدعه الشعب المصري لمقاومة العدم، والنسيان، أن يحتفظ بصلته إلي الكون اللانهائي، عندما نمشي في شارع المعز نلاحظ أنه يمضي متعرجاً محاذياً للنيل، للنهر، هكذا جميع الشوارع الرئيسية في المدن المصرية منذ العصور القديمة، تمضي محاذية للنهر، لا تتعامد عليه دائماً من الجنوب إلي الشمال، شارع المعز لا يشذ عن ذلك المبدأ، هكذا تنقسم المدينة إلي جزئين، في الصباح يكون الغربي معرضاً بالكامل لأشعة الشمس، ولهذا نتائج صحية معروفة، في الظهيرة تتعامد الشمس في المنتصف تماماً، ثم تبدأ الميل إلي الغروب، وعندئذ يتعرض النصف الشرقي للأشعة الكونية، هكذا تصبح المدينة كلها مطهرة بالشمس وعلي صلة بها، أمشي في الشارع الأعظم منذ بداية عمري وحتي الآن، لا يمر أسبوع إلا وأقطعه، في معظم الأحيان من الجنوب إلي الشمال، من باب زويلة إلي باب الفتوح، أو من ميدان الرميلة »‬القلعة» إلي الحسينية، مراحل، مراحل، لكل منها تاريخ وعمق وتفاصيل، ثم تاريخ مكتوب سعيت إليه عبر المصادر الكبري بدءاً من فتوح مصر والمغرب لابن عبدالحكم القرن الثاني الهجري وحتي خطط علي باشا مبارك مرورا بالمؤرخين الكبار في العصر الفاطمي، المسبحي، القضاعي، ابن ميسر، وقد أتاح لنا الدكتور أيمن فؤاد سيد هذه النصوص النادرة إما بتحقيقها أو إعادة بناء المفقود منها، ويكفي أنه أتاح لنا أعظم ما كتب في تاريخ القاهرة محققاً، بعد دراسات استغرقت سنوات طويلة، أعني »‬خطط المقريزي» وهذا كتاب عظيم فريد في مضمونه، إنه إحدي الموسوعات الكبري التي أقرأ فيها باستمرار بحثاً عن السر المقدس لمصر والمصريين، أما ما أعانني علي فهم شارع المعز فليس كتاباً، إنما هوامش علي كتاب، أعني موسوعة الأمير ابن تغر بردي »‬النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، أحد عشاق مصر قام بمطابقة الأماكن التي ورد ذكرها في الكتاب علي الواقع الذي عاشه في الأربعينيات، والغريب أنه لم يكن مؤرخاً ولا أستاذاً للتاريخ، إنما كان مفتشاً في وزارة المالية، وله مؤلف نفيس عن المدن والقري المصرية أعيد طبعه في السنوات الأخيرة من الهيئة المصرية العامة للكتاب، ولتلك الهوامش التي أعدها محمد رمزي بك فضل أساسي في تعرفي علي عمق المكان، إنه عمل جليل ألفت إليه النظر وسأعود لشرحه بشكل أوفي.
أنسنة العمارة
الثلاثاء :
عندما دخلت مقبرة رمسيس السادس عند وصولي إليها في رحلة مدرسية عام واحد وستين ذهلت، لم أكن أعرف ما أراه، لكن غزارة النقوش وجمالها وتنوعها أذهلني، منذ ذلك الحين لم أتوقف عن زيارتها، شيئاً فشيئاً من خلال القراءة والتأمل بدأت أتعرف علي البناء المحفور في الصخور إلي عمق كبير يتجاوز المائة متر، اكتشفت بنفسي بروج السماء في أقدم رسم معروف والذي رأيته مكتملاً دقيقاً في معبد دندرة »‬العصر البطلمي» حيث توجد نسخة مقلدة للوحة الزودياك الموجود أصلها في متحف اللوفر وقد انتزعها شامبليون وأرسلها إلي فرنسا وقد توقفت أمامها كثيراً خلال زياراتي للمتحف العالمي، ما اكتشفته عبرالتأمل، خلال هذه السنوات الممتدة، ما لم أقرأه في المراجع ذلك التشابه بين تصميم المقبرة والجسد الإنساني، الفتحة ضيقة، مموهة، لا تكاد تُري، تؤدي إلي ممر طويل لابد أن ينحني الإنسان خلاله، تماماً مثل مدخل الهرم، يدخله الإنسان مقترباً من الزحف، ثم يقف شيئاً فشيئاً إلي أن ينطلق علي قدميه في البهو الأعظم، حتي إذا اقترب من غرفة الدفن يدخلها زاحفاً علي أربع، إنها رحلة الحياة مختصرة في الحيز المحدود، المقر الأبدي، ينتهي الممر الطويل المقطوع أحياناً ببئر بعيدة القرار ربما لصد اللصوص المتوقعين، إلي أن ينتهي إلي غرفة الدفن بيضاوية الشكل وهو هيئة الرحم، عمق الأرض هو الرحم الأكبر، فيه يتفرق الجسد إلي النشأة الأولي، ذرات هائمة تتباعد عن بعضها، أما الروح فتصعد إلي خالقها، وقد رمز إليها المصريون القدماء بطائر غير أن رأسه آدمي، ما يعنيني هنا التكوين الداخلي للمقبرة وهذا متشابه في جميع المقابر العتيقة، وفي العمق البعيد حيث التابوت في الغرفة البيضاوية نجد إشارات محفورة تدل علي الجهات الأربع الرئيسية إنها أوضح في مقبرة حور محب التي ماتزال تحتفظ بزهاء ألوانها، في العمق، في الأرض الحاوية حيث سيصبح الإنسان بكل ما حوي جزءاً من ثراها يجب ألا تغيب اتجاهات الكون ومساراته، فالشمال شمال والجنوب كذلك الشرق والغرب، هذا المبدأ، وهذا التعبير نجده في المساجد المصرية الصميمة .
كتاب الكون
الأربعاء :
يبدو التدرج كمبدأ أصيل في العمارة المصرية الأصيلة واضحاً جلياً في عدة ملاحظات، الشكل الهرمي والذي يعد معراجاً من الحجر، من أسفل إلي أعلي، من البداية إلي النهاية، قاعدة عريضة تواجه الجهات الأربع الأصلية بدقة »‬مبدأ الصلة بالكون» ثم يقل الارتفاع كلما اتجهنا إلي أعلي حتي يصل البناء الضخم إلي نقطة، مجرد نقطة يبدأ عندها كل شيء غير مرئي أو ملموس وينتهي كل شيء مادي، في سقارة هرم جميل مازال يحتفظ بنصوص محفورة علي جدرانه تعد أقدم النصوص المكتوبة في العالم، وتعرف الآن بمتون الأهرام وقد ترجمت ونشرت في المشروع القومي للترجمة، غير أن ما يبهرني ليس الكتابة أو الهرم نفسه رغم إعجازهما، إنما الطريق المؤدي إليه والصاعد من أسفل الهضبة وإلي جانبيه موضع مراكب الشمس، الطريق لا يمكن رؤية الهرم الذي شق من أجله إلا عند نقاط معينة قرب النهاية، هكذا يبدو هرم أوناسي شيئاً فشيئاً للقادم من أسفل إلي أعلي، أو يختفي تدريجياً للمبتعد عنه، من أعلي إلي أسفل، هذا الطريق المخطط له من جانب المصري القديم يحوي رؤية إنسانية وفلسفية، هكذا أيضاً ذلك الشكل الهرمي الذي يصل الأرض بالسماء، يصل المادة بالفراغ، يصل المحدود إلي اللامحدود، الهرم أكمل الأشكال، كما أنه حل عبقري لبقاء البنيان أطول مدة ممكنة، فالثقل يخف كلما اتجهنا إلي أعلي، هكذا يقاوم البناء عناصر الهدم والمحو، يذكر المقريزي في خططه أن الهرم الكبير »‬خوفو»، كان مغطي بالكتابة، ولم تكن الهيلوغريفية معروفة للكتاب منذ دخول العرب إلي مصر فأطلقوا عليها قلم الطير لتكرار شكل الطير، الهرم بأكمله كان مغطي بالكتابة، أي أنه أضخم كتاب عرفته الإنسانية، تري.. ماذا حوي؟، ويقول الرحالة القدامي إن الكتابة كانت محفورة وملونة بغطاء ذهبي حتي إذا أشرقت الشمس تنعكس الحروف فيضيء هذا الكتاب المبهر الجميل، تظهر حروفه تدريجياً مع حركة الشمس، ويمكن قراءة النصوص من شتي الجهات، من أعلي إلي أسفل، من يمين إلي يسار، ومن يسار إلي يمين، العمارة المصرية تعبير عن كتاب الكون، والكتب تقرأ حرفاً حرفاً وكلمة كلمة.
تدرج
الخميس :
التدرج أحد المبادئ الأساسية التي تحكم العمارة المصرية، وهذا نابع من رؤية وتأمل للطبيعة وقوانين الحياة والموت، ربما كان أهمها متابعة فيضان النيل، كانت الحياة في مصر تدور حول هذا الفيضان الذي نسيت مصر وأهلها حدوثه وأهميته منذ اكتمال السد العالي الذي جنب البلاد مخاطره من شح وغمر، منذ الأزل، كان مقياس النيل عنصراً أساسياً في حياة المصريين، يترقبون المياه خاصة اعتباراً من يوليو وترصد أول زيادة في النيل بما يعرف بنزول النقطة، أي وصول أول نقطة مياه من الفيضان، تأتي من الحبشة وتقطع المسافة في أحد عشر يوماً، الأسطورة تقول إنها دمعة إيزيس رمز الأمومة الذي أهدته مصر إلي العالم، إيزيس تبكي حزناً علي زوجها أوزير الذي قتله شقيقه ست إله الشر، واسم ست هو أصل كلمة الشيطان في اللغة اللاتينية، دمعة إيزيس أول قطرة ماء في الفيضان »‬بالمناسبة لم تظهر بوادر الفيضان حتي الآن ونحن ندخل إلي أغسطس وهذا مخيف»، نقطة فنقطة، لحظة بعد لحظة، تتزايد مياه النيل إلي أن يسجل المقياس ستة عشر ذراعاً وشرطتين، هذا يعني اكتمال الفيضان، أو وفاء النيل كما كان يعرف حتي نسيان المصريين للفيضان، ونلاحظ أن تعبير وفاء النيل فيه بُعد إنساني، فمن يفي غير الإنسان؟ ربما هذا تأثير العقيدة في العصور القديمة، كان النيل يرمز إليه بحابي، وصورته موجودة في المعابد المصرية، إنه إنسان له جسد ذكر وصدر أنثي، رمز إلي مصدر الحياة، وكان يرسم دائماً في أول جدران المعابد من أسفل كما نري في معبد أبيدوس، وبعده تتوالي الرموز الأخري، من تدرج الفيضان، من مسار الحياة، الإنسان لا يولد مكتملاً، إنما يتدرج، الشروق لا يجيئ إلا عبر مراحل، كذا الغروب، يسعي الإنسان ثم ينحني شيئاً فشيئاً، هذه الرؤية العميقة النافذة، جعلت المصريين يعبرون عنها في الفنون وأولها العمارة التي جعلوها اداتهم لقهر النسيان، وتجاوز العدم إلي الخلود، هذا التدرج يتجسد في المعبد، والكنيسة، والمسجد، أعني العمارة المصرية الصميمة غير المتأثرة بالأجنبي الوافد، أو القاهر المستعمر.
واجهة
الجمعة :
يمكن القول إنه ما من بناء يشبه الآخر، سواء في المعابد المصرية القديمة، أو الكنائس، أو المساجد، لا يقتصر التنوع علي عصر معين، ولكن تلك سمة غالبة، حتي في العصور التي ساد فيها طراز واحد قادم مع المحتل، مثل الطراز العثماني، ثمة فرق بين مسجد السلحدار في شارع المعز أو مسجد محمد علي باشا في القلعة، الخاصية المصرية تتعلق بالإبداع المصري وسماته، في استانبول نجد معظم المساجد الكبري مثل السلطان أحمد والسليمانية وغيرهما طرز مستنسخة من الأصل، كنيسة أيا صوفيا، خاصة فيما يتعلق بالقباب، في مصر القديمة تتشابه الأهرام في الخطوط العامة لكنها تختلف في الأحجام والزوايا والهيئة العامة، أما المعابد فلكل منها شخصيته المختلفة رغم المبادئ الحاكمة، مثل الواجهة الضخمة المائلة، إن الواجهة أول عناصر الخصوصية المعمارية المصرية، سواء كانت واجهة معبد، أو واجهة قصر، وقد وصلت إلي عصرنا واجهات متكاملة، بل تكاد تكون سليمة، أهمها واجهة معبد الأقصر، وكان أمامه مسلتان، الآن توجد واحدة فقط، أما الأخري فتقوم في ميدان الكونكورد، مركز باريس وقلبها، الواجهة الأخري التي أقف أمامها متأثراً، متأملاً، واجهة معبد هابو في الأقصر أتأمل مهابتها، والمكان المخصص للعلم فوق المدخل، علمان لكل منهما صاري يرتكز إلي حفرة دائرية، معبد هابو شيده آخر فراعنة مصر العظام الذي حارب غزوات ضخمة شنت من شعوب البحر، ويحتفظ المعبد بلوحة ضخمة، لعلها الأعظم في تاريخ الإنسانية عن فظائع الحرب، إنها أقدم من جرنيكا بيكاسو، لوحته الشهيرة عن الحرب الأهلية الاسبانية 1936، الجدارية المصرية أقدم بحوالي ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، والغريب أنها مجهولة، لم يلتفت إليها أحد لا من الفنانين ولا من الأثريين، هناك واجهة الدير البحري القائمة حتي الآن، ثم واجهة معبد أبيدوس والتي تظهر شيئاً فشيئاً للإنسان المتقدم علي الدرج الفسيح صوب المعبد، أتذكر الواجهات العظمي في مصر القديمة كلما وقفت أمام واجهة الكنيسة المعلقة، أو واجهة السلطان حسن الشاهقة، أو المسجد الأزهر المنمنمة بأشجار ماتزال تحتفظ بألوانها، الواجهة في العمارة المصرية فاتحة البناء وأوله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.