تحت سمع وبصر النيابة العامة…تعذيب وصعق بالكهرباء في سجن برج العرب    ارتفاع سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن الخميس 20 يونيو 2024    تراجع سعر الفراخ البيضاء واستقرار البيض بالأسواق اليوم الخميس 20 يونيو 2024    عالم السكين والساطور| الأنواع الحديدية لتسهيل السلخ وسرعة تقطيع اللحوم    كندا تصنف الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية    استطلاع رأي: 15% من الإسرائيليين يفكرون بمغادرة إسرائيل    «زي النهارده».. اليوم العالمي للاجئين 20 يونيو 2001    «زي النهارده».. برويز مشرف رئيسًا لباكستان 20 يونيو 2001    يورو 2024، ترتيب المجموعة الأولى بعد ختام الجولة الثانية    خاص.. موقف الزمالك من خوض مباراة الأهلي بالدوري    اتحاد الكرة يتحدى الزمالك| الغندور والبنا يديران مباراتي اليوم    مصدر من مودرن فيوتشر ل في الجول: تم إخطارنا بإيقاف القيد.. وهذه خطوتنا المقبلة    «من أجل كايزر تشيفز».. بيرسي تاو يضع شرطًا مُثيرًا للرحيل عن الأهلي (تفاصيل)    مشهد يدمي القلوب، تشييع جثامين أم وبناتها الثلاث لقين مصرعهن في انقلاب سيارة بالشرقية (صور)    طلب التحريات في مصرع طالب شنقا بأوسيم    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 20 - 6 -2024    تشييع جنازة أم وبناتها الثلاثة بعد مصرعهن في حادث انقلاب ملاكي بترعة بالشرقية    "تاتو" هيفاء وهبي وميرهان حسين تستعرض جمالها.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    حمدي الميرغني يوجه رسالة ل علي ربيع بعد حضوره مسرحية "ميمو"    تامر حسني يشعل حفله بكفر الشيخ رابع أيام عيد الأضحى (صور)    الحلم الأوروبي يهدد الصفقة.. يلا كورة يكشف موقف الأهلي من ضم بلعيد في الصيف    وزير الرياضة ينعي مشجع نادي الزمالك    هآرتس: قيادات أمنية وعسكرية انتقدوا في اجتماعات مغلقة مطلب إسقاط حكم حماس وتدمير قدراتها    أرقام قياسية من توقيع نوير وشاكيري ضمن أبرز لقطات سادس أيام يورو 2024    معظم الحجاج المتوفين خلال موسم حج هذا العام من المخالفين    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 20 يونيو 2024 في البنوك    تفاصيل جريمة قتل اب لأبنته فى المنيا    تفاصيل انتشال جثة غريق بسبب الهروب من الحرارة بالمنيا    مصادر: معظم الحجاج المتوفين من غير النظاميين ولم يحصلوا على تراخيص    المركزي الكندي يدرس الانتظار حتى يوليو لخفض معدل الفائدة    هجوم سيبراني على شركة سي دي كي جلوبال مزود البرمجيات لتجار السيارات في أنحاء أمريكا    الخارجية الروسية تنفى وجود اتصالات منتظمة حول قمة السلام    وفاة الناقد الأدبي محمود عبدالوهاب    فرقة أعز الناس.. سارة جمال تغني "ألف ليلة وليلة" في "معكم منى الشاذلي"    توني كروس بعد التأهل: من النادر أن نفوز بأول مباراتين في بطولة كبرى    إقامة نهائى كأس الجزائر بين المولودية وشباب بلوزداد فى عيد الاستقلال    ضبط مسجل خطر بحوزته 2 كيلو «حشيش» و200 جرام «شابو» في الأقصر    ارتفاع رصيد الذهب فى الاحتياطى الأجنبى لمصر إلى 456 مليار جنيه    حظك اليوم| برج الجدي الخميس 20 يونيو.. «ثق بقدراتك»    حظك اليوم| برج الدلو 20 يونيو.. « الابتكار يزدهر بالأصالة»    حظك اليوم| برج الحوت 20 يونيو.. «يومًا مثاليًا للمهام الفنية»    هيئة الداوء تحذر من 4 أدوية وتأمر بسحبها من الأسواق لعدم مطابقتها للمواصفات (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية: تلقينا 1500 شكوى واستفسار منذ مطلع الأسبوع الجاري    مشروبات صحية يجب تناولها عقب لحوم العيد (فيديو)    تعرف علي المبادرات التي أطلقتها الدولة المصرية لتدريب الشباب وتأهيلهم وتمكينهم    إحالة مديرى مستشفى "ساقلتة" و"أخميم" للتحقيق لتغيبهما عن العمل فى العيد    بخطوات سهلة.. طريقة عمل كفتة داود باشا    بعد انتهاء أعمال الحج.. علي جمعة يكشف عن آداب زيارة مقام النبي والمسجد النبوي    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج بكالوريوس الطب والجراحة (الشعبة الفرنسية) جامعة الإسكندرية    إجازات شهر يوليو 2024.. تصل إلى 11 يومًا    النائب العام يلتقي نظيره الصيني على هامش زيارته للعاصمة الروسية موسكو    ما حكم ترك طواف الوداع لمن فاجأها الحيض؟.. الإفتاء توضح    هل ينتهي الغياب المتكرر دون إذن إلى فصل الموظف من العمل؟    مايا مرسي تستقبل رئيس الوكالة الإسبانية للتعاون الإنمائي    ما هي علامات قبول الحج؟.. عالم أزهري يجيب    تنسيق الثانوية العامة 2024.. تعرف على درجات القبول في جميع المحافظات    علي جمعة ينصح: أكثروا في أيام التشريق من الذكر بهذه الكلمات العشر    ما هي الأشهر الحرم وسبب تسميتها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وداعاً..نعمان جمعة..الثائر الذي انقلب على الثورة
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 28 - 10 - 2014

لم يكن اختيار د. نعمان جمعة، ليكون الرئيس الرابع لحزب الوفد العريق، قد أتي من فراغ، أو مصادفة، فقد كان الذراع اليمنى للزعيم فؤاد سراج الدين، وكان الرجل الثاني الفعلي لسنوات طويلة.. بالإضافة إلى هذا وذاك، كان نعمان هو مهندس عودة الوفد عام 1984 بعد تجميد الحزب عام 1978.
وكان فؤاد سراج الدين وكوكبة من رجالات الوفد قد أعادوه إلي الحياة السياسية بعد غياب استمر 25 عاماً، عاشها في الظل عقب حل الأحزاب السياسية عام 1953، فمنذ إعلان الرئيس أنور السادات عن إنشاء المنابر عام ،1977 والتي تحولت فيما بعد إلي أحزاب، كان الدكتور نعمان جمعة ملازماً لفؤاد سراج الدين في كل تحركاته وقراراته، وكان هو المسئول عن إعداد الأوراق والوثائق ورفع القضايا، ثم فيما بعد أعلن عودة الوفد في مؤتمر صحفي عالمي، حيث كان فؤاد سراج الدين وإبراهيم باشا فرج، معزولين سياسياً.
ولد نعمان جمعة في 22 يونيو ،1934 والده كان مهندساً زراعياً، وكان رجلاً مكافحاً، يعيش من جهده وعرقه، وكان وفدياً صميماً.. وكانت والدته سيدة متعلمة ومحافظة جداً، لذا غرست في أبنائها كل صفات الخير والمحبة والإخلاص والاجتهاد.. وفوق كل هذا صفة القناعة، كما حرصت علي أن تجعل أبناءها متدينين منذ الصغر، يحرصون علي الصوم والصلاة.
وفي منزل الأسرة بشبين الكوم عاصمة محافظة المنوفية، تلك الأرض الطيبة، تربي نعمان جمعة بين عشرة أبناء، خمسة أولاد، وخمس بنات، وكان هو أصغرهم جميعاً.
جاء نعمان من قلب الطبيعة التي أعطته كل مزايا القرويين في سعة المحيط، وقوة التربية، وسلامة المناخ ليدرك من الصفات التي تهيئ له سبل النجاح، وتفتح له الطريق إلي التفوق وتعينه علي التمرس بالشدائد، والتجلد للصعاب والمشاق، واحتمال كبار الأعباء، والصبر علي عظائم المحن.
وفدي من الصغر
وفي شبين الكوم التحق نعمان بمدرسة المساعي المشكورة، من المراحل الأولي في الابتدائي وحتى الثانوي، وفي عام 1948 عندما كان عمره 14 عاماً انضم الطالب نعمان جمعة إلي لجنة الطلبة الوفديين، فقد كان والده يشجعه علي الانضمام للوفد، وعلي المشاركة في المظاهرات التي تندد بالاستعمار وتطالب بجلاء الإنجليز عن مصر.. وفي تلك المظاهرات تفجرت كمائن الوطنية داخل الشاب نعمان.. لذا عندما تخرج في الثانوية، أصر علي الالتحاق بمدرسة الوطنية التي تخرج فيها ثوار مصر وزعماؤها سعد زغلول ومصطفي النحاس، التحق نعمان بكلية الحقوق جامعة القاهرة، ورغم ذلك لم تنقطع صلته بالوفد، ففي الجامعة أيضاً انضم إلي لجنة الطلبة الوفديين، فقد كان يري أن مثله الأعلي بعد والده، هو مصطفي النحاس زعيم الأمة، تأثر بخطبه، وشجاعته في مواجهة الإنجليز والقصر، ودفاعه عن الحرية والدستور.. وكان الشاب الثائر يري أن الوفد هو أمل الأمة في تحقيق الاستقلال ورفعة الوطن وإعلاء شأنه.
وعندما قامت حركة يوليو ،1952 فرح الشاب الثائر كان مؤيداً لها، مثلما أيدها رجال الوفد وزعيمه مصطفي النحاس، لكن سرعان ما تحول هذا الفرح والتأييد إلي ثورة غضب، فقد خرجت الثورة عن أهدافها وعن طموحات الشعب المصري وتم إلغاء الأحزاب السياسية بما فيها حزب الوفد.. وتحول الشاب نعمان من مؤيد للثورة إلى معارض لها.
عندما التحق نعمان بكلية الحقوق، كان يؤمن بأن دراسة القانون هو فن البحث عن الحق والعدل، مهما كان من صعوبة القضايا وتعقدها.. وكان يؤمن بأن المحامي الباحث عن الحق والعدل لا يترافع ضد ضميره، ولا يغلبه الطمع في الكسب على التطلع إلى الفوز بإزهاق الباطل وجعل كلمة الحق هي الغالبة، لا أن يعمد إلى التعمية أو يلجأ إلي إخفاء الحقائق، كما أن بلاغته وقوة منطقه وكفاءته وبراعته ينبغي أن تنصرف جميعاً لخدمة الحق والعدل، وهذا لا يتعارض بلا ريب مع واجب الدفاع باعتباره حقاً مقدساً لكل متهم، وإنما يجب أن يلبس المحامي كل حالة ثوبها الحقيقي، ويصورها في صادق صورها، ويصرف همه وعنايته إلي شرح الظروف الصحيحة المحيطة بالقضية وملابساتها، فإن هذه قد تكون عوامل تقتضي الرحمة، أو ظروف توجب التخفيف.
على هذه المبادئ درس نعمان جمعة القانون، واستطاع أن يتفوق علي أقرانه في الجامعة، وبعد التخرج عمل وكيلاً للنائب العام، وتنقل بين نيابات جنوب القاهرة، وباب الشعرية، والمخدرات، وقد أتاحت له فرصة العمل في النيابات، أن يتعرف أكثر علي أوجاع المجتمع ومشاكله ومعاناته، ودوافع ارتكاب الجريمة.
نعمان فدائي
وفي ديسمبر ،1956 وقع العدوان الثلاثي علي مصر، ثلاث دول هي: إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، هاجمت مصر أغارت عليها بالطائرات، وزحفت بالدبابات لاحتلال أرضها، لم يقف وكيل النيابة ابن الوفد مكتوف الأيدي، كان عمره وقتها 22 عاماً، لم يخش أن يفقد وظيفته المرموقة ومصدر رزقه الوحيد، ترك عمله ولبي نداء الوطن مدافعاً عن تراب بلده.. وفي معسكر جيش التحرير بالهرم تلقي التدريب، ثم انطلق مع عشرين من الفدائيين إلي قلب المعركة، إلي سيناء وهناك ظلوا يتغلغلون فيها نحو 50 كيلو متراً لمواجهة القوات الإسرائيلية الغاشمة، وحدث اشتباك بين الدوريات الإسرائيلية والفدائيين المصريين في منطقتي "كليانة" و"البرج" واستطاعوا مقاومة تقدم تلك الدوريات عدة أيام.. ولأن العدو الإسرائيلي كان يملك من العتاد ما يصعب مقاومته بتلك الأسلحة الخفيفة التي في أيدي فدائيينا، فقد صدرت إليهم التعليمات بالتوجه إلي جزيرة "أم خلف" التي تقع علي بعد كيلو مترين من منطقة "الكاب" في بحيرة المنزلة.. وكانت المهمة المكلفون بها هي مراقبة تحركات القوات المعتدية عند الكاب بطريق القناة، وأن يتولوا حماية هذه الجزيرة، وفي يوم 8 ديسمبر 1956 تخفي الفدائي نعمان جمعة في ملابس صياد، للوقوف علي تحركات العدو، ركب مع أحد زملائه الفدائيين وكان ضابطاً بالبوليس المصري، زورقاً صغيراً يقوده صيادان للأسماك هما: أحمد مرايا وحسن الخولي، لكنهم فوجئوا بوابل من الرصاص ينهال عليهم، في البداية ظنوا أن البوليس الدولي يرابط هناك وفقاً لما سبق أن أعلنته قوات الطوارئ الدولية، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن القوات الفرنسية هي التي تحاصرهم.. ووقع الفدائيان ومعهما الصيادان في الأسر.. وتم ترحيلهم إلي بورفؤاد، واحتجازهم داخل معسكرات الجيش الفرنسي بعد استجوابهم.. وبعد ثلاثة أيام تمت مبادلة ضابط البوليس المصري بجندي بريطاني، كان الفدائي يس محمد علي، قد تمكن من أسره.
تعرضه للتعذيب
وبقي نعمان جمعة والصيادان في الأسر، وانضم إليهم في المعسكر عدد من الأسري المصريين، وداخل المعتقل تعرض نعمان وزملاؤه لأبشع أنواع التعذيب البدني والنفسي علي أيدي الفرنسيين، وتعرضوا للإهانة والحرمان من الطعام والشراب.
كان الفرنسيون يعاملون هؤلاء الأسري معاملة قاسية، كانوا يتركونهم للنوم علي الأرض، ودون غطاء، وفي العراء، رغم قسوة البرد.. لم يكن يقدم لهم الطعام إلا مرة واحدة في اليوم، ولا يزيد ما يقدم عن ربع رغيف لكل شاب، لقد أرادوا قتلهم جوعاً، بعد أن تأكد الفرنسيون أن هؤلاء الأسري من الفدائيين والمقاومين.
كان الشبان المصريون في الأسر، أشد قوة وأكثر صلابة، لم تلن عزيمتهم، ولم تنحن رؤوسهم، وكان نعمان يحثهم علي الصبر والصمود، وفشل الفرنسيون في تحطيم أعصابهم، وإذلالهم، فلجأوا إلي إرهابهم، كان الجنود الفرنسيون يصوبون فوهات بنادقهم إلي صدور الفدائيين الأسري، وقتلوا ثلاثة منهم بهدف إشاعة الذعر والرعب بين الآخرين، لكن نعمان ورفاقه لم يرهبهم رصاص العدو، ولم يخفهم أن يموتوا في سبيل الوطن وعزته وكرامته، وقد ازدادوا قوة وقدرة علي تحمل كل أساليب الإرهاب والبطش التي مارسها الجنود الفرنسيون ضدهم في الأسر.
وبعد حوالي شهرين، تم الإفراج عن الشاب الثائر نعمان جمعة ورفاقه، ولم ينقذهم من هذا الأسر سوي البوليس الدولي الذي سلمهم إلي البوليس المصري.
وقد تناولت جريدة "الأهرام" في عددها الصادر بتاريخ 26 ديسمبر 1956 بطولة وكيل النيابة نعمان جمعة علي صدر صفحتيها الأولي والثالثة، ونشرت صورته.
شهادة كمال الدين حسين
كما كشفت مذكرات كمال الدين حسين نائب رئيس الجمهورية السابق، ووزير التربية والتعليم الأسبق، وعضو مجلس قيادة الثورة وقائد المقاومة الشعبية خلال العدوان الثلاثي سنة 1956 عن الدور الوطني للدكتور نعمان جمعة رئيس الوفد.
قال كمال الدين حسين: "لا أنسي نعمان جمعة الذي قرأت له عدة مقالات يلمس فيها كبد الحقيقة في موضوع الديمقراطية، وكشف الديكتاتورية وما يواكبها من فساد، وحكم الفرد المطلق الذي لا يمكن محاسبته ولا محاسبة من يتسترون تحت عباءته من المفسدين، واستشراء الفساد وتخريب كل ما هو جميل في الوطن، وسألت عنه ووجدت أحد الأصدقاء يعرفه، وفعلاً استقبلته في منزلي وأعربت له عن إعجابي بشجاعته التي لا تخشي في الحق لومة لائم.. وقال لي: إنه كان وهو وكيل نيابة يتدرب متطوعاً في معسكر جيش التحرير في الهرم.. ثم انتقل إلي معسكر أنشاص الخاص، ثم كان ضمن كتائب الجامعة المتطوعة ضمن جيش التحرير التي حضرت وقت العدوان الثلاثي إلي منطقة الإسماعيلية تحت قيادتي".
الدكتوراه من فرنسا
بعد عدة أشهر من الإفراج عن وكيل النائب العام نعمان جمعة سافر إلي فرنسا في بعثة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة باريس.. لم تؤثر تجربة السجن في معسكر الجيش الفرنسي داخل الشاب نعمان سلباً تجاه الفرنسيين، لأن العدوان كان من الجيش، والسجن كان لدي الجيش الفرنسي، ولم يوافق الشعب علي ما قام به الجيش في ذلك الوقت.
وحصل نعمان جمعة علي الدكتوراه في القانون المدني بتفوق، وحرصت جامعة باريس علي أن تضمه إلي صفوف هيئة التدريس للاستفادة بكفاءته، وهناك أيضاً عمل بالمحاماة.. وبعد عشر سنوات قضاها في باريس قرر نعمان العودة إلي مصر، ليدرس لأجيالها القانون، والتحق للعمل بالتدريس في حقوق القاهرة، وتدرج استاذ الجامعة في المناصب حتي انتخب عميداً لكلية الحقوق مرتين متتاليتين.
ويذكر هنا، أن لجوء الحكومة إلي تعديل قانون الجامعات ليصبح تولي عمداء الكليات مناصبهم بالتعيين بدلاً من الانتخاب، كان أحد أسبابه الرئيسية، المواقف المستقلة التي اتخذها الدكتور نعمان جمعة داخل الجامعة، والتي أغضبت الحكومة حين كان عميداً لكلية الحقوق بعد أن فاز في انتخابات العمادة مرتين متتاليتين وباكتساح.
الوفد لا ييأس
في عام ،1953 أي بعد قيام حركة يوليو بعام واحد فقط، تم حل الأحزاب السياسية، وكان المقصود هو حل حزب الوفد، وتصفية رموزه وقياداته، لكن لم يستطع أحد انتزاع الوفد ومبادئه من قلوب المصريين، وكان وقتها فؤاد سراج الدين سكرتيراً عاماً للوفد، وتعرض الوفديون علي أيدي ثوار يوليو للتنكيل والسجن والاعتقال وتلفيق القضايا، لم تنحن رؤوس الرجال، ولم يستسلموا لليأس، كانوا علي يقين أن لكل ظالم نهاية، ولكل ليل نهاراً.. ونجح فؤاد سراج الدين وكوكبة من الوفديين الكبار في الحفاظ علي وفديتهم، وعلي مدي ربع قرن كامل من القهر السياسي، عاشوه في الظل، ونجح سراج الدين بهؤلاء، وكانوا عصبة قليلة، ولكن شديدة البأس، نجحوا في إعادة الوفد إلي ساحة العمل السياسي.
وكان من بين هؤلاء العصبة القليلة، أحد الشباب الوفديين الثائرين، كان الدكتور نعمان جمعة استاذ القانون بحقوق القاهرة، وكان عمره وقتها 42 عاماً.. وداخل منزله بحي الزمالك عقد اجتماعاً لمناقشة خطة عودة الوفد، وكان هذا الاجتماع يضم فؤاد باشا سراج الدين، وإبراهيم باشا فرج، ومصطفي بك مرعي، ومحمد باشا صلاح الدين، والكاتب الكبير الاستاذ مصطفي أمين.. ثم توالت الاجتماعات، ودب الأمل في النفوس لعودة الوفد إلي الساحة السياسية.
منذ ذلك الاجتماع، ظل الدكتور نعمان جمعة ملازماً لفؤاد باشا في تحركاته، وفي المرور علي منازل الأصدقاء، الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، والدكتور سعيد النجار، والدكتور حامد سلطان، والدكتور يوسف والي، الذي انضم فيما بعد للحزب الوطني الديمقراطي، وعين وزيراً للزراعة، وأميناً عاماً للحزب، ثم نائباً لرئيس الحزب الوطني.
حكم تاريخي بعودة الوفد
وفي أحد هذه الاجتماعات، اقترح بعض الحضور، أن يكون الدكتور نعمان جمعة رئيساً لحزب الوفد، وأن يكون فؤاد سراج الدين وباقي الكبار هم الآباء الروحيين والموجهين لسياسة الوفد.. إلا أن الشاب الوفدي الثائر رفض قبول ذلك، وأصر علي أن يعود الوفد وعلي رأسه الزعيم فؤاد سراج الدين.. كان نعمان حافظاً للجميل، مقدراً لدور الكبار الذين دفعوا من أموالهم وحرياتهم الكثير من أجل الوفد ومبادئه.. وظل رجال الوفد منذ عام 1978 في صراع مع السلطة داخل أروقة المحاكم، وتمكن الدكتور نعمان جمعة من الحصول علي حكم تاريخي بعودة الوفد إلي الحياة السياسية عام 1984.
كان الدكتور نعمان ينظم عملية ترشيح الوفد لقائمة انتخابات المحليات في شمال القاهرة بالتعاون مع كرم زيدان وأحمد طه، وذلك للحصول علي قرار سليم يمكنه من الطعن أمام القضاء الإداري.. كان يعد الأوراق، ويجمع الوثائق ، ويرفع الدعاوي، ويترافع أمام القضاء مطالباً بعودة الوفد.. ونجح نعمان وأعلن العودة في مؤتمر صحفي عالمي، لأن فؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج كانا معزولين سياسياً.
منذ ذلك التاريخ 1984 والدكتور نعمان هو الذراع اليمني، والرجل الثاني لفؤاد باشا، ظل ملاصقاً له، يشاركه تحركاته، وقراراته، وكل معارك الوفد.. ومع عودة الوفد وصدور صحيفته في 22 مارس ،1984 خصص الدكتور نعمان جمعة له زاوية بالصحيفة بعنوان "نبضات" يكتب فيها كل خميس مقالة يعبر فيها عن رأيه، ،وبكل حرية، ودون خوف من سلطان.. وخاض من خلال مقاله الأسبوعي معارك شرسة مع النظام الحاكم. طالب بتعديل الدستور الذي أصبح كسيحاً علي حد تعبيره وغير قادر علي ضبط إيقاع الحكم في مصر، بعد التحول من النظام الاشتراكي إلي النظام الرأسمالي، من نظام الحزب الواحد إلي التعدد الحزبي.. وطالب الدكتور نعمان بإلغاء القوانين الاستثنائية وسيئة السمعة ومن بينها قانون الطوارئ الذي تحول إلي سيف علي رقاب المعارضين لنظام الحكم.. وطالب بإطلاق الحريات العامة، وحرية الرأي والتعبير وحرية إصدار الصحف، وإنشاء الأحزاب السياسية، بما لا يتعارض مع وحدة الأمة ومبادئ الشريعة الإسلامية السمحة.. وطالب بوضع ضمانات حقيقية تكفي اجراء الانتخابات العامة بما يضمن لها النزاهة بعيداً عن العبث والتزوير وتقفيل الصناديق لتعبر عن إرادة الأمة.. وطالب بضرورة أن يكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب الحر المباشر، وليس بالتعيين أو الاستفتاء.. ومن خلال مقالاته حارب الدكتور نعمان الفساد بكل ضراوة، وطالب بضرورة تطبيق قانون محاكمة الوزراء الذي ناضل من أجله الزعيم مصطفي النحاس.. وكتب يطالب بالمزيد من الديمقراطية والحرية، والحفاظ علي حقوق الإنسان المصري، وهي المبادئ التي قام وعاش عليها الوفد طوال تاريخه النضالي.
ترشحه للرئاسة
وفي عام 2005 خاض نعمان جمعة تجربة الترشح في الانتخابات الرئاسية، أمام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، ورغم أن تجربة انتخاب الرئيس كانت بمثابة تجربة جديدة على الشعب المصري الذي لم يعهدها، إلا أن الجميع كان يتوقع نتيجتها مسبقا، وهى فوز مبارك، وهزيمة نعمان جمعة.
لم يكن اختيار د. نعمان جمعة، ليكون الرئيس الرابع لحزب الوفد العريق، قد أتي من فراغ، أو مصادفة، فقد كان الذراع اليمنى للزعيم فؤاد سراج الدين، وكان الرجل الثاني الفعلي لسنوات طويلة.. بالإضافة إلى هذا وذاك، كان نعمان هو مهندس عودة الوفد عام 1984 بعد تجميد الحزب عام 1978.
وكان فؤاد سراج الدين وكوكبة من رجالات الوفد قد أعادوه إلي الحياة السياسية بعد غياب استمر 25 عاماً، عاشها في الظل عقب حل الأحزاب السياسية عام 1953، فمنذ إعلان الرئيس أنور السادات عن إنشاء المنابر عام ،1977 والتي تحولت فيما بعد إلي أحزاب، كان الدكتور نعمان جمعة ملازماً لفؤاد سراج الدين في كل تحركاته وقراراته، وكان هو المسئول عن إعداد الأوراق والوثائق ورفع القضايا، ثم فيما بعد أعلن عودة الوفد في مؤتمر صحفي عالمي، حيث كان فؤاد سراج الدين وإبراهيم باشا فرج، معزولين سياسياً.
ولد نعمان جمعة في 22 يونيو ،1934 والده كان مهندساً زراعياً، وكان رجلاً مكافحاً، يعيش من جهده وعرقه، وكان وفدياً صميماً.. وكانت والدته سيدة متعلمة ومحافظة جداً، لذا غرست في أبنائها كل صفات الخير والمحبة والإخلاص والاجتهاد.. وفوق كل هذا صفة القناعة، كما حرصت علي أن تجعل أبناءها متدينين منذ الصغر، يحرصون علي الصوم والصلاة.
وفي منزل الأسرة بشبين الكوم عاصمة محافظة المنوفية، تلك الأرض الطيبة، تربي نعمان جمعة بين عشرة أبناء، خمسة أولاد، وخمس بنات، وكان هو أصغرهم جميعاً.
جاء نعمان من قلب الطبيعة التي أعطته كل مزايا القرويين في سعة المحيط، وقوة التربية، وسلامة المناخ ليدرك من الصفات التي تهيئ له سبل النجاح، وتفتح له الطريق إلي التفوق وتعينه علي التمرس بالشدائد، والتجلد للصعاب والمشاق، واحتمال كبار الأعباء، والصبر علي عظائم المحن.
وفدي من الصغر
وفي شبين الكوم التحق نعمان بمدرسة المساعي المشكورة، من المراحل الأولي في الابتدائي وحتى الثانوي، وفي عام 1948 عندما كان عمره 14 عاماً انضم الطالب نعمان جمعة إلي لجنة الطلبة الوفديين، فقد كان والده يشجعه علي الانضمام للوفد، وعلي المشاركة في المظاهرات التي تندد بالاستعمار وتطالب بجلاء الإنجليز عن مصر.. وفي تلك المظاهرات تفجرت كمائن الوطنية داخل الشاب نعمان.. لذا عندما تخرج في الثانوية، أصر علي الالتحاق بمدرسة الوطنية التي تخرج فيها ثوار مصر وزعماؤها سعد زغلول ومصطفي النحاس، التحق نعمان بكلية الحقوق جامعة القاهرة، ورغم ذلك لم تنقطع صلته بالوفد، ففي الجامعة أيضاً انضم إلي لجنة الطلبة الوفديين، فقد كان يري أن مثله الأعلي بعد والده، هو مصطفي النحاس زعيم الأمة، تأثر بخطبه، وشجاعته في مواجهة الإنجليز والقصر، ودفاعه عن الحرية والدستور.. وكان الشاب الثائر يري أن الوفد هو أمل الأمة في تحقيق الاستقلال ورفعة الوطن وإعلاء شأنه.
وعندما قامت حركة يوليو ،1952 فرح الشاب الثائر كان مؤيداً لها، مثلما أيدها رجال الوفد وزعيمه مصطفي النحاس، لكن سرعان ما تحول هذا الفرح والتأييد إلي ثورة غضب، فقد خرجت الثورة عن أهدافها وعن طموحات الشعب المصري وتم إلغاء الأحزاب السياسية بما فيها حزب الوفد.. وتحول الشاب نعمان من مؤيد للثورة إلى معارض لها.
عندما التحق نعمان بكلية الحقوق، كان يؤمن بأن دراسة القانون هو فن البحث عن الحق والعدل، مهما كان من صعوبة القضايا وتعقدها.. وكان يؤمن بأن المحامي الباحث عن الحق والعدل لا يترافع ضد ضميره، ولا يغلبه الطمع في الكسب على التطلع إلى الفوز بإزهاق الباطل وجعل كلمة الحق هي الغالبة، لا أن يعمد إلى التعمية أو يلجأ إلي إخفاء الحقائق، كما أن بلاغته وقوة منطقه وكفاءته وبراعته ينبغي أن تنصرف جميعاً لخدمة الحق والعدل، وهذا لا يتعارض بلا ريب مع واجب الدفاع باعتباره حقاً مقدساً لكل متهم، وإنما يجب أن يلبس المحامي كل حالة ثوبها الحقيقي، ويصورها في صادق صورها، ويصرف همه وعنايته إلي شرح الظروف الصحيحة المحيطة بالقضية وملابساتها، فإن هذه قد تكون عوامل تقتضي الرحمة، أو ظروف توجب التخفيف.
على هذه المبادئ درس نعمان جمعة القانون، واستطاع أن يتفوق علي أقرانه في الجامعة، وبعد التخرج عمل وكيلاً للنائب العام، وتنقل بين نيابات جنوب القاهرة، وباب الشعرية، والمخدرات، وقد أتاحت له فرصة العمل في النيابات، أن يتعرف أكثر علي أوجاع المجتمع ومشاكله ومعاناته، ودوافع ارتكاب الجريمة.
نعمان فدائي
وفي ديسمبر ،1956 وقع العدوان الثلاثي علي مصر، ثلاث دول هي: إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، هاجمت مصر أغارت عليها بالطائرات، وزحفت بالدبابات لاحتلال أرضها، لم يقف وكيل النيابة ابن الوفد مكتوف الأيدي، كان عمره وقتها 22 عاماً، لم يخش أن يفقد وظيفته المرموقة ومصدر رزقه الوحيد، ترك عمله ولبي نداء الوطن مدافعاً عن تراب بلده.. وفي معسكر جيش التحرير بالهرم تلقي التدريب، ثم انطلق مع عشرين من الفدائيين إلي قلب المعركة، إلي سيناء وهناك ظلوا يتغلغلون فيها نحو 50 كيلو متراً لمواجهة القوات الإسرائيلية الغاشمة، وحدث اشتباك بين الدوريات الإسرائيلية والفدائيين المصريين في منطقتي "كليانة" و"البرج" واستطاعوا مقاومة تقدم تلك الدوريات عدة أيام.. ولأن العدو الإسرائيلي كان يملك من العتاد ما يصعب مقاومته بتلك الأسلحة الخفيفة التي في أيدي فدائيينا، فقد صدرت إليهم التعليمات بالتوجه إلي جزيرة "أم خلف" التي تقع علي بعد كيلو مترين من منطقة "الكاب" في بحيرة المنزلة.. وكانت المهمة المكلفون بها هي مراقبة تحركات القوات المعتدية عند الكاب بطريق القناة، وأن يتولوا حماية هذه الجزيرة، وفي يوم 8 ديسمبر 1956 تخفي الفدائي نعمان جمعة في ملابس صياد، للوقوف علي تحركات العدو، ركب مع أحد زملائه الفدائيين وكان ضابطاً بالبوليس المصري، زورقاً صغيراً يقوده صيادان للأسماك هما: أحمد مرايا وحسن الخولي، لكنهم فوجئوا بوابل من الرصاص ينهال عليهم، في البداية ظنوا أن البوليس الدولي يرابط هناك وفقاً لما سبق أن أعلنته قوات الطوارئ الدولية، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن القوات الفرنسية هي التي تحاصرهم.. ووقع الفدائيان ومعهما الصيادان في الأسر.. وتم ترحيلهم إلي بورفؤاد، واحتجازهم داخل معسكرات الجيش الفرنسي بعد استجوابهم.. وبعد ثلاثة أيام تمت مبادلة ضابط البوليس المصري بجندي بريطاني، كان الفدائي يس محمد علي، قد تمكن من أسره.
تعرضه للتعذيب
وبقي نعمان جمعة والصيادان في الأسر، وانضم إليهم في المعسكر عدد من الأسري المصريين، وداخل المعتقل تعرض نعمان وزملاؤه لأبشع أنواع التعذيب البدني والنفسي علي أيدي الفرنسيين، وتعرضوا للإهانة والحرمان من الطعام والشراب.
كان الفرنسيون يعاملون هؤلاء الأسري معاملة قاسية، كانوا يتركونهم للنوم علي الأرض، ودون غطاء، وفي العراء، رغم قسوة البرد.. لم يكن يقدم لهم الطعام إلا مرة واحدة في اليوم، ولا يزيد ما يقدم عن ربع رغيف لكل شاب، لقد أرادوا قتلهم جوعاً، بعد أن تأكد الفرنسيون أن هؤلاء الأسري من الفدائيين والمقاومين.
كان الشبان المصريون في الأسر، أشد قوة وأكثر صلابة، لم تلن عزيمتهم، ولم تنحن رؤوسهم، وكان نعمان يحثهم علي الصبر والصمود، وفشل الفرنسيون في تحطيم أعصابهم، وإذلالهم، فلجأوا إلي إرهابهم، كان الجنود الفرنسيون يصوبون فوهات بنادقهم إلي صدور الفدائيين الأسري، وقتلوا ثلاثة منهم بهدف إشاعة الذعر والرعب بين الآخرين، لكن نعمان ورفاقه لم يرهبهم رصاص العدو، ولم يخفهم أن يموتوا في سبيل الوطن وعزته وكرامته، وقد ازدادوا قوة وقدرة علي تحمل كل أساليب الإرهاب والبطش التي مارسها الجنود الفرنسيون ضدهم في الأسر.
وبعد حوالي شهرين، تم الإفراج عن الشاب الثائر نعمان جمعة ورفاقه، ولم ينقذهم من هذا الأسر سوي البوليس الدولي الذي سلمهم إلي البوليس المصري.
وقد تناولت جريدة "الأهرام" في عددها الصادر بتاريخ 26 ديسمبر 1956 بطولة وكيل النيابة نعمان جمعة علي صدر صفحتيها الأولي والثالثة، ونشرت صورته.
شهادة كمال الدين حسين
كما كشفت مذكرات كمال الدين حسين نائب رئيس الجمهورية السابق، ووزير التربية والتعليم الأسبق، وعضو مجلس قيادة الثورة وقائد المقاومة الشعبية خلال العدوان الثلاثي سنة 1956 عن الدور الوطني للدكتور نعمان جمعة رئيس الوفد.
قال كمال الدين حسين: "لا أنسي نعمان جمعة الذي قرأت له عدة مقالات يلمس فيها كبد الحقيقة في موضوع الديمقراطية، وكشف الديكتاتورية وما يواكبها من فساد، وحكم الفرد المطلق الذي لا يمكن محاسبته ولا محاسبة من يتسترون تحت عباءته من المفسدين، واستشراء الفساد وتخريب كل ما هو جميل في الوطن، وسألت عنه ووجدت أحد الأصدقاء يعرفه، وفعلاً استقبلته في منزلي وأعربت له عن إعجابي بشجاعته التي لا تخشي في الحق لومة لائم.. وقال لي: إنه كان وهو وكيل نيابة يتدرب متطوعاً في معسكر جيش التحرير في الهرم.. ثم انتقل إلي معسكر أنشاص الخاص، ثم كان ضمن كتائب الجامعة المتطوعة ضمن جيش التحرير التي حضرت وقت العدوان الثلاثي إلي منطقة الإسماعيلية تحت قيادتي".
الدكتوراه من فرنسا
بعد عدة أشهر من الإفراج عن وكيل النائب العام نعمان جمعة سافر إلي فرنسا في بعثة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة باريس.. لم تؤثر تجربة السجن في معسكر الجيش الفرنسي داخل الشاب نعمان سلباً تجاه الفرنسيين، لأن العدوان كان من الجيش، والسجن كان لدي الجيش الفرنسي، ولم يوافق الشعب علي ما قام به الجيش في ذلك الوقت.
وحصل نعمان جمعة علي الدكتوراه في القانون المدني بتفوق، وحرصت جامعة باريس علي أن تضمه إلي صفوف هيئة التدريس للاستفادة بكفاءته، وهناك أيضاً عمل بالمحاماة.. وبعد عشر سنوات قضاها في باريس قرر نعمان العودة إلي مصر، ليدرس لأجيالها القانون، والتحق للعمل بالتدريس في حقوق القاهرة، وتدرج استاذ الجامعة في المناصب حتي انتخب عميداً لكلية الحقوق مرتين متتاليتين.
ويذكر هنا، أن لجوء الحكومة إلي تعديل قانون الجامعات ليصبح تولي عمداء الكليات مناصبهم بالتعيين بدلاً من الانتخاب، كان أحد أسبابه الرئيسية، المواقف المستقلة التي اتخذها الدكتور نعمان جمعة داخل الجامعة، والتي أغضبت الحكومة حين كان عميداً لكلية الحقوق بعد أن فاز في انتخابات العمادة مرتين متتاليتين وباكتساح.
الوفد لا ييأس
في عام ،1953 أي بعد قيام حركة يوليو بعام واحد فقط، تم حل الأحزاب السياسية، وكان المقصود هو حل حزب الوفد، وتصفية رموزه وقياداته، لكن لم يستطع أحد انتزاع الوفد ومبادئه من قلوب المصريين، وكان وقتها فؤاد سراج الدين سكرتيراً عاماً للوفد، وتعرض الوفديون علي أيدي ثوار يوليو للتنكيل والسجن والاعتقال وتلفيق القضايا، لم تنحن رؤوس الرجال، ولم يستسلموا لليأس، كانوا علي يقين أن لكل ظالم نهاية، ولكل ليل نهاراً.. ونجح فؤاد سراج الدين وكوكبة من الوفديين الكبار في الحفاظ علي وفديتهم، وعلي مدي ربع قرن كامل من القهر السياسي، عاشوه في الظل، ونجح سراج الدين بهؤلاء، وكانوا عصبة قليلة، ولكن شديدة البأس، نجحوا في إعادة الوفد إلي ساحة العمل السياسي.
وكان من بين هؤلاء العصبة القليلة، أحد الشباب الوفديين الثائرين، كان الدكتور نعمان جمعة استاذ القانون بحقوق القاهرة، وكان عمره وقتها 42 عاماً.. وداخل منزله بحي الزمالك عقد اجتماعاً لمناقشة خطة عودة الوفد، وكان هذا الاجتماع يضم فؤاد باشا سراج الدين، وإبراهيم باشا فرج، ومصطفي بك مرعي، ومحمد باشا صلاح الدين، والكاتب الكبير الاستاذ مصطفي أمين.. ثم توالت الاجتماعات، ودب الأمل في النفوس لعودة الوفد إلي الساحة السياسية.
منذ ذلك الاجتماع، ظل الدكتور نعمان جمعة ملازماً لفؤاد باشا في تحركاته، وفي المرور علي منازل الأصدقاء، الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، والدكتور سعيد النجار، والدكتور حامد سلطان، والدكتور يوسف والي، الذي انضم فيما بعد للحزب الوطني الديمقراطي، وعين وزيراً للزراعة، وأميناً عاماً للحزب، ثم نائباً لرئيس الحزب الوطني.
حكم تاريخي بعودة الوفد
وفي أحد هذه الاجتماعات، اقترح بعض الحضور، أن يكون الدكتور نعمان جمعة رئيساً لحزب الوفد، وأن يكون فؤاد سراج الدين وباقي الكبار هم الآباء الروحيين والموجهين لسياسة الوفد.. إلا أن الشاب الوفدي الثائر رفض قبول ذلك، وأصر علي أن يعود الوفد وعلي رأسه الزعيم فؤاد سراج الدين.. كان نعمان حافظاً للجميل، مقدراً لدور الكبار الذين دفعوا من أموالهم وحرياتهم الكثير من أجل الوفد ومبادئه.. وظل رجال الوفد منذ عام 1978 في صراع مع السلطة داخل أروقة المحاكم، وتمكن الدكتور نعمان جمعة من الحصول علي حكم تاريخي بعودة الوفد إلي الحياة السياسية عام 1984.
كان الدكتور نعمان ينظم عملية ترشيح الوفد لقائمة انتخابات المحليات في شمال القاهرة بالتعاون مع كرم زيدان وأحمد طه، وذلك للحصول علي قرار سليم يمكنه من الطعن أمام القضاء الإداري.. كان يعد الأوراق، ويجمع الوثائق ، ويرفع الدعاوي، ويترافع أمام القضاء مطالباً بعودة الوفد.. ونجح نعمان وأعلن العودة في مؤتمر صحفي عالمي، لأن فؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج كانا معزولين سياسياً.
منذ ذلك التاريخ 1984 والدكتور نعمان هو الذراع اليمني، والرجل الثاني لفؤاد باشا، ظل ملاصقاً له، يشاركه تحركاته، وقراراته، وكل معارك الوفد.. ومع عودة الوفد وصدور صحيفته في 22 مارس ،1984 خصص الدكتور نعمان جمعة له زاوية بالصحيفة بعنوان "نبضات" يكتب فيها كل خميس مقالة يعبر فيها عن رأيه، ،وبكل حرية، ودون خوف من سلطان.. وخاض من خلال مقاله الأسبوعي معارك شرسة مع النظام الحاكم. طالب بتعديل الدستور الذي أصبح كسيحاً علي حد تعبيره وغير قادر علي ضبط إيقاع الحكم في مصر، بعد التحول من النظام الاشتراكي إلي النظام الرأسمالي، من نظام الحزب الواحد إلي التعدد الحزبي.. وطالب الدكتور نعمان بإلغاء القوانين الاستثنائية وسيئة السمعة ومن بينها قانون الطوارئ الذي تحول إلي سيف علي رقاب المعارضين لنظام الحكم.. وطالب بإطلاق الحريات العامة، وحرية الرأي والتعبير وحرية إصدار الصحف، وإنشاء الأحزاب السياسية، بما لا يتعارض مع وحدة الأمة ومبادئ الشريعة الإسلامية السمحة.. وطالب بوضع ضمانات حقيقية تكفي اجراء الانتخابات العامة بما يضمن لها النزاهة بعيداً عن العبث والتزوير وتقفيل الصناديق لتعبر عن إرادة الأمة.. وطالب بضرورة أن يكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب الحر المباشر، وليس بالتعيين أو الاستفتاء.. ومن خلال مقالاته حارب الدكتور نعمان الفساد بكل ضراوة، وطالب بضرورة تطبيق قانون محاكمة الوزراء الذي ناضل من أجله الزعيم مصطفي النحاس.. وكتب يطالب بالمزيد من الديمقراطية والحرية، والحفاظ علي حقوق الإنسان المصري، وهي المبادئ التي قام وعاش عليها الوفد طوال تاريخه النضالي.
ترشحه للرئاسة
وفي عام 2005 خاض نعمان جمعة تجربة الترشح في الانتخابات الرئاسية، أمام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، ورغم أن تجربة انتخاب الرئيس كانت بمثابة تجربة جديدة على الشعب المصري الذي لم يعهدها، إلا أن الجميع كان يتوقع نتيجتها مسبقا، وهى فوز مبارك، وهزيمة نعمان جمعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.