اما الأبطال فقد ظلوا أبطالا في السر، انزووا في ظلال النسيان المقصود، وقبلوا بإسدال الستار، واكتفوا بسرد بطولاتهم علي أبنائهم ومجاوريهم!! الاثنين : كان الاحتفال بانتصار 6 أكتوبر هذا العام حقيقياً. اقترب بنا من الأجواء الحقيقية لتلك الأيام الخالدة من تاريخ مصر، بعث الموتي أحياء، واستيقظ الشهداء، وعادت الذكري حية حارة لافحة تليق بما حققت مصر وجيشها وشعبها في الايام التي توارت خلف ضباب المصالح الفردية المقيتة والرغبة في الانفراد بمجد حققه الجميع، فدفن الكذب قصص البطولة الصادقة، والتضحيات الجسام في زمن الرجال الرجال، وانشقت الأرض عن أهل المعجزات الذين ينكرون اعجاز ما فعلوا ولا يرون فيه الا واجبا لو أتيح لأي مصري في ذلك الزمن أن يتواجد في نفس الظروف الوطنية لحقق ربما أكثر مما حقق الابطال، طفقت افكر وأعقد المقارنات بين »البشرين»، ناس تلك الفترة، ونحن وما نحن عليه الآن. أين ذهبت تلك الرجولة؟ لماذا اختلف الرجال؟ التشابه كبير بين النيل والرجال. في ذلك الزمن كان النيل ممتلئا قويا خيرا، بنينا سده لكنه ظل يفيض فنطلقه ليعلم ويسقي ويعطي، اما الآن، فالنيل كأهله، الضحالة والشح والذلة وتعاسة العطاء. ولماذا احتفظ رجال اكتوبر - حتي الان - برجولتهم وفحولة وطنيتهم ولم يغادروا لحظات النضال تلك، ولم ينزلقوا إلي عالم التجارة بالوطن والمكاسب النجسة والمساهمة في قطع طريق الرجولة والبطولة بإعلان ان هذه آخر الحروب، ذلك الشعار الذي اصبح بابا فتح علي مصراعيه للولوج الي عالم الفساد برخصة وبمباركة الدولة، وبيع النصر لتجار الحديد والسيراميك واصحاب التوكيلات المقسمة بينهم بالعدل، لكل نصيبه من جثة الام النبيلة التي اصبح لحمها بثمن يباع في الأسواق فتجمعت عليها ذئاب المكاسب وصقور المتاجرة، وصعد الاغنياء وانخسفت الارض بالفقراء صانعي النصر ومخلصي مصر من ربقة الذل وهوان الهزيمة. أما الأبطال، فقد ظلوا أبطالاً في السر انزووا في ظلال النسيان المقصود وقبلوا باسدال الستار، واكتفوا بسرد بطولاتهم علي ابنائهم ومجاوريهم ولم ينظروا لمرور السنوات ليوقظهم زمن السيسي بعد 41 عاماً، ليجدوا انفسهم امام الكاميرات، ويشاهد أحدهم الآخر بعد ازالة الاتربة والصدأ عن تجربتهم العبقرية في مسابقة عشق الوطن. منهم من مات تقريبا وحمله زملاؤه في بطولة تنتظر صناع فيلم عشقوا مصر كما عشقها هؤلاء الأبطال (عبدالعاطي) ملهمي في قصيدتي المتواضعة عنه، الذي مات بفيروس (سي) والذي ظل ينبح إلي ان بح صوته مطالبا بزيادة (شوال دقيق) علي ما تصرفه له وزارة التموين في المحل الذي كان يبيع فيه هذا الدقيق للناس، بينما من استثمر شجاعة عبد العاطي غرق في بحار المليارات والملايين من الدولارات والجنيهات، وغرق تجار النصر في المضاربات والعمولات والبورصات ومات امثال عبد العاطي مكلومين مظلومين لكنهم لم يندموا يوما علي ما قدموا، بل كانوا شديدي الفخر وفي عيونهم نظرة خاصة تحتفل، وزهو لا يدركه الا من يجيد قراءة الوطن وحين تسأل يقولون : »لو عادت اللحظة لعدنا» لم يفقدوا إيمانهم بمصر فلم يكونوا يعملون لحساب أحد أو ليرضي عنهم أحد أو ليقدرهم أحد، وإنما فعلوا ما فعلوا عشقا في عيونها، هذه التي تجري في دمائهم كما يجري النيل في ارض مصر. القادة الجدد عاد القادة القدامي أيا كانت رتبهم في ذلك الزمن - ليقصوا علينا ما رأوه بعيونهم، وكيف لاعبوا الموت ولاعبهم. وجوه طيبة تحمل ملامح وجوه ستينيات القرن الماضي وبعضا من سبعينياته. عادوا متواضعين كأنهم لم يفعلوا شيئاً، يعيدون رسم الخرائط في الذهن ويرون العدو رؤيا العين ويستحضرون اللحظة بقلقها بل بخوفها وشجاعتها وحماس حقيقي وطمأنينة ينزلها الله والوطن في القلوب فتصفو العقول وتلمع العيون. يتحدثون في طيبة وتواضع يدعوك لمقارنتهم بمطرب غث يبيع الغث وهو يحدثك عن انجازاته كأنما قد بني الهرم ثم يذيع عليك هذا الغثاء سبب شهرته »ومجده».. ابطال هم في مثل عمري الآن أو اقل، غضن الجباه مرور الزمن، ولكنه لم يفقد الوجوه بساطتها وبشاشتها، هم يداعبون الان احفادهم، وكانوا يرون كيف تحولت الحرب إلي بطولة شخص واحد محا وجوده وجود الآخرين الحقيقيين فيصمتون. كانوا يرون انفلات الغيلان من كهوفها بربطات عنقها الانيقة الغالية التي يمكن للفقير ان يبني غرفة تلمة بثمن الواحدة منها، فلا يتحسرون.. لقد حاربوا من اجل مصر، مصر التي عرفوها واحبوها، مصر عبد الناصر وأحمد إسماعيل والشاذلي و..............و............. مصر القيم، والحرية، والتي لديها الف دافع لان تحيا، وليست مصر المضيعة قصدا، والمتخلفة عمدا، والتي يعمل العملاء الشرهون علي سلبها كل معني لعلاقة المواطن بالوطن، وفتح باب الهيافة والضياع في الفنون التي كانت عماد مصر في دعم القيم وإيضاح الافق البعيد امام أعين البشر، رغم ضلام نكسة يونيو ومرارة هزيمتها، وعسر الأحوال. لقد عادوا ليفتحوا أبواب »الفهلوة واخطف واجر، واللي تطوله ابصر ايه». (ان باعوا توب أمك الحق لك منه حتة) صعد من لم يقاتل، وتواري من جاء بالنصر، واختلت الاحوال، وانقلبت المعاني، ومات اكتوبر العظيم، بل لقد كان يموت في كل عام وحتي تلك الاغنيات التي تمجد الجندي المصري: المواطن الجندي.. دفنت، وكما كان صديقي يسميها (اغنيات الليلة الواحدة). وفي أكتوبر من كل عام تسألك مذيعة الراديو والمذيع: »اين كنت في السادس من أكتوبر الساعة الثانية ظهراً.. وينتظران إجابة كمن يسألك »أي الألوان تفضل»: هذا العام استيقظ أكتوبر وقام مادا جسده رافعاً هامته، يوقد في القلوب نيرانا خبت، ويعيد رسم الذاكرة وذكرياتها المجيدة، ومن جديد تذكرت شيئا من أشعاري. الحرب مش كلمة ساهلة تتنطق وخلاص تلات حروف بتقولوها بسرعة وبإهمال الحرب أهوال. ودم وخوف وموت ورصاص بتخوضها بضمير .. أمين علي مصير أجيال *** ولو كان يا صاحبي الكفاح غنوة علي أوراق ولا قصيدة يطير فيها الخيال »ويشت» صراع مميت ضد من بيفرقوا العشاق سينا.. وشعبي اللي عاني في »السنين الست»!! *** أكتوبر اللي اترسم - يومها - في غناويكم. غير اللي عشناه هناك ومتنا.. وحيينا ويا ما شبان عزاز ولا حد قال: »هية فين اصلا تكون سينا»!! *** أنا بوست ابني الصغير لما سد الباب وقلت له: »سيبني». بينادي الوطن يا ابني رايح أرد ابتسامة سينا للأحباب حوش ابتسامتك وحبك.. مش حيمنعني!! *** أتذكر اليوم وأهواله اللي فاجئتنا ثانية في ثانية في ثانية اتغير الإحساس وساعتها.. لما واجهنا الموت بشواربنا كنا إحنا والموت بقينا اخوات شققا ياناس مرحي بأكتوبر.. وبرجاله. كان وجودكم حولنا هذا العام، نتذكره ودافعا لنا بالنظر إلي أخطار الغد الذي قد يعوزه أكثر من أكتوبر واحد!! القديم والجديد لقد خدمناهم حين طردناهم، وأنرنا طريق مستقبلهم معنا ومع غيرنا حين ثرنا عليهم. ولذلك فلا سبيل للمقارنة بين احوالهم قديماً وأحوالهم الآن لقد خلصنا لهم اهدافهم من الشوائب ليتسلموا الاهداف »مقشرة». لاسبيل للمقارنة بين الاستعمار القديم والحديث الاستعمار (البدني) والاستعمار (الورقي). يا.......ه كم تحمل المستعمرون من جهد وأرهاق حين كان الاستعمار بدنيا أي بالجيوش والعتاد والحياة الكاملة في بلاد كبلادنا: بناء الثكنات واقامة المعسكرات واحاطتها بأبراج حراسة وأسلاك شائكة، المطاعم - ميس الجنود وميس الضباط - والمطابخ وأدواتها، والتعامل مع باعة اللحوم وباعة الخضروات والفاكهة، الحرس الذي يتغير، السفن التي تأتي محملة بالشاي والملابس والصابون والبسكويت والسكر وكل احتياجات تلك الجحافل من الجنود والضابط بخلاف الرواتب الكبيرة، اموال، اموال، أموال ،إن خصم كل تلك التكلفة الي جانب »الرشاوي» للعملاء من ناتج ما كانت الارض تنتجه من باطنها وظاهرها، لم يكن ليبقي للمستعمر الغلبان شئياً، اضف اليكل ذلك شق الطرق وتمهيدها وسفلتتها واصلاح احوال السكك الحديدية الي جانب تلك الملابس التي كان العرق يبللها فيبليها وأحذية لا تصمد طويلاً في اراضي الرمال والصخور أو طمي للنيل، الي جانب السيارات والمدرعات والأعلام والأفلام. ماذا يتبقي للمستعمر الغلبان بعد كل ذلك وغيره؟ ثم إذ بعد ذلك يبدأ التململ الذي يتحول الي غضب ثم الي ثورة واغتيالات وسرقات مخازن وسرقات ترسانات السلاح ليقاوموا المستعمر المنهك بسلاحه. لاشك انه كان استعمارا قاسيا علي المستَعمَرين والمستعمِرين معا الحمد لله لقد ساعدناهم علي التطور، وعلي ان يجدوا طريقهم الواضحة للتخلص من كل تلك الاعباء، ومع تطور العلم طوروا فكرة استعمارنا ليظهر ما يسمي بالاستعمار الجديد. لا سفن تنتقل ولا طيارات تزوم أو مدرعات تستفز، ولا سيارات تتلقي الغضب حجارة مؤذية يختفي من يلقي بها كأنه لم يكن. لا يقتل جندي خارج من حانة، أو في مزرعة قريبة من »بيت خنا» ،الا هتاف امام القصر الذي يسكنه كبير المستعمرين في البلاد مطالبين بسقوطه صار كل ذلك سطوراً في كتب التاريخ، الدول الثورية تظهره، والانظمة التي تخاف شعوبها تطمسه وانتهي الي غير رجعة. صارت الورقة تكفي، ما يسمي بالمعاهدات والاتفاقيات الاقتصادية و»الثقافية»، والسياسية وفرت كل التعب والحمول القديمة. ثلاثة أو أربعة من لابسي الكرافتات المهندمين،واجتماعات سرية مع القائمين علي حياة المواطنين وهكذا. لم تعد للسلاسل أصوات بعد أن تحولت إلي ورق، ولم يعد الغول تشبعه الوجبة وجبة ويريد التهام المائدة بكل ما عليها وبأصحابها إن أمكن وهكذا صار يخلق الوسائط ويفتعل الاسباب لنساعده جميعاً في مص دمائنا، هذا ما نراه في العراق وفي سوريا الآن، ولاشك ان حساباته السياسية لا تنام ليلا ولا نهاراً بعد ان ابطلناها بضربة مدوية في 30 يونيو، تدبر لنا اسلوبا ثالثا للالتفاف حول رقابنا التي مازالت آثار الحبال القديمة بادية عليها حتي الان، ولا أظن أن شعبنا مستعد لقبول حبال قديمة أو جديدة مرة أخري مهما كان الثمن، ويا من حلمت بالخدمة عند السادة الاجانب، وراهنت علي غفلة الشعب الطيب قل لأمك: (غطيني وصوتي عليّ)..!! المنجة طابت الخميس : في مناطق الإسماعيلية الريفية أقدم مزارع المانجو في مصر، استقرت مباديء لا يستطيع احد اختراقها أو العبث بها منها أنك لا تستطيع ان تقتطف ثمرة مانجو من مزرعة غيرك. ادخل الي (الفرش) لتجد الرجل يفرز »المانجة» ويكومها حسبا لاصنافها التي كانت مائة وثمانين صنفا - كما يدعي قدامي المزارعين - لتصبح الآن ليس أكثر من عشرين صنفاً لم تبقه علي قيد الحياة. ثم جاء الوباء الامريكي بنوع من الثمار، الواحدة منها تزن عشرين حبة من »منجتنا» المصرية النحيلة لتتجه إليها المزارع الكبيرة كما عرف الفلاحون كذلك طريقهم إليها فراحوا يجزون اشجارهم ويطعمونها بالصنوف الجديدة. لم يعد يهم المزارعين »طعم» إنتاجهم. لكن كم ما تعطيه الشجرة صار الان مقصدهم ومبغاهم. نحن مازلنا نتعامل مع شجرة المانجو كأنها شجرة جوافة أو برتقال، نلقي إليها بالسماد والماء ونمضي »شجرة المنجة» هي امرأة حقيقية تحب أن تعاودها وتزورها وتدخل عليها بشيء وتسأل عن أحوالها وتداعبها وتمسحها ببصرك صاعداً هابطاً هي امرأة بكل المعاني، فإذا شاهدت اصفرارا في الخد الذي كان متوهجا عليك أن تبحث عن العلة وأن تعدها بالطبيب والدواء فوراً والا حرنت ولوت بوزها وأعطتك جنباً وفي موسم العطاء تعرف كيف تعامل الجبناء بجفاء. كنت قد شريت هذا الفدان الذي أقيم فيه الآن، لم يكن ارضا صالحة لزراعة، وبخبرتي »الابنودية» القديمة استنهضت ما فيها من بقية عزم وبثثت الثقة في عروقها مرة ومرة ومرات فاختشت واستسلمت لجهودي، ثم زرعتها اشجار مانجو كيفما اتفق ، فلإن كانت لي خبرة بالارض فإن خبرتي بالمانجو في ذلك الوقت كانت معدومة. بعد سنوات حين أثمرت، اكتشفت أن (المانجة) الوحيدة التي تحبها زوجتي هي (المنجة العويسي، من جديد جززت الاشجار التي أخذت أنتظرها لأكثر من ست سنوات، وطعمتها كلها بأعواد العويسي الاصيل ورحم الله (عويس) هذا، من أدخل هذا الصنف إلي بلادنا ليصبح الطعم الاهم في الفاكهة المصرية قاطبة. رحمه الله باشا كان أو فلاحاً فلقد انتصر علي كل منجة أخري. طبعاً من المعروف أن كثيراً من اصناف المانجو نسبت إليمن أدخلها إلي مصر، مثل المنجة (التيمور) مثلاً فهي تنسب إلي آل تيمور وبشواتهم وكذلك (البربري) الذي لا أعرفه.. اما عن اسماء بقية الاصناف فلا مجال هنا لتعدادها.. أما »العويسي» فتمتاز بأن ثمرتها التي لا يكتمل نضجها تصبح (فص)، ذلك الفص المشهور الذي يحمل في حجمه الصغير حلاوة ثمرة كبيرة فكأنه التقطير الاصفي للثمرة المحبوبة.. ولكن بتحويل الاشجار إلي صنف واحد قلت الانتاجية لأن الاشجار تطرح بعضها. كيف انسقت هكذا وراء كل ذلك ولم يكن موضوعي من الاساس؟ الامر أنني قرأت في جريدة الاخبار اليوم خبرا يخصّ المانجو ولكن في بلاد الاسبان، فعرفت ان اقتصاد البلاد ليس لعبة، وأن الدنيا تأخذ الأمور بجدية لا تملكها حكوماتنا المتعاقبة التي لا تدري من أمر بلادها شيئاً، شوف يا سيدي الخبر: من أجل الحفاظ علي محصول المانجو من السرقة، تقوم الشرطة الاسبانية بارسال مروحيات هليوكوبتر للقيام بدوريات ووضع نقاط تفتيش لحراسة اغلي محصول نقدي في البلاد والذي حان موسم حصاده. كما تقوم (الشرطة) بعمليات تفتيش عشوائية في المتاجر المحلية والاسواق. لاثبات أن المانجو المعروضة مشروعة او غير مشروعة. يذكر أن اللصوص يحصلون علي ثلاثة يوروهات للكيلو من فاكهة المانجو المسروقة. قلت لنفسي، إذا كان الكيلو المسروق بحوالي ثلاثين جنيها مصريا، فكم ثمن الكيلو الشرعي؟. ولماذا يتضور فلاحو المانجو في بلادنا عوزا وغلبا ولماذا لا يجعلني فداني ثريا، ذلك الفدان الذي وقف شاعر أو ما يشبه الشاعر في »الجزائر» يجيب حين سئل عني: لديه مزرعة علي شاطيء قناة السويس في مساحة الجزائر العاصمة، إنه ملياردير فكيف يصبح ثوريا؟». ولو أتيتم لزيارتي لهالكم حجم ما يتخلص منه أصحاب حدائق المانجو الآن الذين يتخلصون من عبئها ليزرعوا بدلاً منها »غيطان» كوسة!! هاتفني الرئيس الجمعة : أعرف جيدا ان لا علاج للرئة، ولا اسمح لذلك بأن يقترب من الروح أو العزيمة ثم أن اصدقائي لا ينقطعون عن الزيارة رغم مشقة المشوار ولا يهدأ جرس الهاتف عن الهتاف. وامس كان يوما خيرا محصوله وفير ولا يقدر بثمن، فقد استقبلت فيه صوت استاذنا محمد حسنين هيكل: استاذية ممتدة في الأجيال مهما حاول العبث العابثون!! أما المكالمة المفاجأة فقد كان صوت الرئيس: عبدالفتاح السيسي. جاءني صوته ودودا طيبا كعادته، يسأل بجدية وليس اسئلة فض المجالس، فسرت له موضوع الرئة وتاريخها وأنهم بالمستشفي الأمريكي بباريس حيث أقمت ثلاثة أشهر قال لي زمرة الاطباء مجتمعين: »لقد فعلنا كل ما يمكن لأطباء أن يفعلوا في مثل حالتك. لا تأت مرة أخري فليس لدينا ما نقدمه، واذا ما اكتشف العلم شيئا في أمرك سنبلغك. ونصحوني بالاقامة في مكان شجري وبعيدا تماما عن القاهرة التي يعرفون جميعا مقدار تلوث أجوائها، ويعتبرون من يعيشون فيها ويقبلون بشروطها مجانين لا شك. والتزمت واقمت في هذه القرية علي اطراف المدينة الخضراء سبع سنوات حتي الآن، إلا أن هذا لم يشفع للرئة. قال السيد الرئيس: »لدينا أطباؤنا ومستشفياتنا ودعنا نعيد النظر». وافقته وأنا اعرف واقع الحال. لكن أهم ما في الأمر هو أني استمعت إليه واستمع لي وما أن استعددت للنوم حتي فوجئت بضجيج رهيب، فخرجت لأجد عربة إسعاف ضخمة - أو قل مستشفي مجهز في عربة - وأهالي القرية قد تجمعوا أمام الباب، بل ان بعضهم حين رأي الاسعاف تطوع وقفز من فوق البوابة العالية ليفتح لها الباب.. خرجت فوجدت هذا الكرنفال الإنساني، انفردت بالطبيب الجميل دمث الخلق الذي صاحب العربة، شرحت له الحال، وقلت إني لا استطيع أن اسلمهم نفسي قبل يومين وإذا بمكالمة من القائد العام للقوات المسلحة فريق أول صدقي صبحي وزير الدفاع والانتاج الحربي.. اتصل ليطمئن لوصول الانقاذ، وكانت مكالمة جادة صادقة فله كل الشكر. أنا أعرف أحوال رئتي، وأعرف مبلغ الضرر والعطب الذي أصابها، ولكن من باب طمأنة الأحباب، فإنني »أهاودهم» حتي يكتشفوا أنه لم يعد لدي رئة، وأن أنفاسي التي تجهدني هي هبة من الله، تعطنيها الحياة لأنتظر فقط تباشير صباح تشق أشعته هذا الحصار الذي تتكالب عليه وعلينا كل زبانية الشّر في الدنيا ونحن لاهون، بل إن كلّامنا يربط السندسية بحبل وكل منا يشد الحبل إليه دون نظر إليها أو خوف عليها نعتصرها ونمزقها ولا نستمع لمعاناتها التي لا تخفي!! أتمني ان يري أبناؤنا مصر المزدهرة، وأن يهزموا المهزومين الذين يعتقدون انهم الابطال الساعون لانقاذها.. شكرا للسيد الرئيس، وشكرا للقائد العام للقوات المسلحة، وشكرا لأصدقائي المخلصين ولشعبنا الذي لن يغلبه غلاب!! اما الأبطال فقد ظلوا أبطالا في السر، انزووا في ظلال النسيان المقصود، وقبلوا بإسدال الستار، واكتفوا بسرد بطولاتهم علي أبنائهم ومجاوريهم!! الاثنين : كان الاحتفال بانتصار 6 أكتوبر هذا العام حقيقياً. اقترب بنا من الأجواء الحقيقية لتلك الأيام الخالدة من تاريخ مصر، بعث الموتي أحياء، واستيقظ الشهداء، وعادت الذكري حية حارة لافحة تليق بما حققت مصر وجيشها وشعبها في الايام التي توارت خلف ضباب المصالح الفردية المقيتة والرغبة في الانفراد بمجد حققه الجميع، فدفن الكذب قصص البطولة الصادقة، والتضحيات الجسام في زمن الرجال الرجال، وانشقت الأرض عن أهل المعجزات الذين ينكرون اعجاز ما فعلوا ولا يرون فيه الا واجبا لو أتيح لأي مصري في ذلك الزمن أن يتواجد في نفس الظروف الوطنية لحقق ربما أكثر مما حقق الابطال، طفقت افكر وأعقد المقارنات بين »البشرين»، ناس تلك الفترة، ونحن وما نحن عليه الآن. أين ذهبت تلك الرجولة؟ لماذا اختلف الرجال؟ التشابه كبير بين النيل والرجال. في ذلك الزمن كان النيل ممتلئا قويا خيرا، بنينا سده لكنه ظل يفيض فنطلقه ليعلم ويسقي ويعطي، اما الآن، فالنيل كأهله، الضحالة والشح والذلة وتعاسة العطاء. ولماذا احتفظ رجال اكتوبر - حتي الان - برجولتهم وفحولة وطنيتهم ولم يغادروا لحظات النضال تلك، ولم ينزلقوا إلي عالم التجارة بالوطن والمكاسب النجسة والمساهمة في قطع طريق الرجولة والبطولة بإعلان ان هذه آخر الحروب، ذلك الشعار الذي اصبح بابا فتح علي مصراعيه للولوج الي عالم الفساد برخصة وبمباركة الدولة، وبيع النصر لتجار الحديد والسيراميك واصحاب التوكيلات المقسمة بينهم بالعدل، لكل نصيبه من جثة الام النبيلة التي اصبح لحمها بثمن يباع في الأسواق فتجمعت عليها ذئاب المكاسب وصقور المتاجرة، وصعد الاغنياء وانخسفت الارض بالفقراء صانعي النصر ومخلصي مصر من ربقة الذل وهوان الهزيمة. أما الأبطال، فقد ظلوا أبطالاً في السر انزووا في ظلال النسيان المقصود وقبلوا باسدال الستار، واكتفوا بسرد بطولاتهم علي ابنائهم ومجاوريهم ولم ينظروا لمرور السنوات ليوقظهم زمن السيسي بعد 41 عاماً، ليجدوا انفسهم امام الكاميرات، ويشاهد أحدهم الآخر بعد ازالة الاتربة والصدأ عن تجربتهم العبقرية في مسابقة عشق الوطن. منهم من مات تقريبا وحمله زملاؤه في بطولة تنتظر صناع فيلم عشقوا مصر كما عشقها هؤلاء الأبطال (عبدالعاطي) ملهمي في قصيدتي المتواضعة عنه، الذي مات بفيروس (سي) والذي ظل ينبح إلي ان بح صوته مطالبا بزيادة (شوال دقيق) علي ما تصرفه له وزارة التموين في المحل الذي كان يبيع فيه هذا الدقيق للناس، بينما من استثمر شجاعة عبد العاطي غرق في بحار المليارات والملايين من الدولارات والجنيهات، وغرق تجار النصر في المضاربات والعمولات والبورصات ومات امثال عبد العاطي مكلومين مظلومين لكنهم لم يندموا يوما علي ما قدموا، بل كانوا شديدي الفخر وفي عيونهم نظرة خاصة تحتفل، وزهو لا يدركه الا من يجيد قراءة الوطن وحين تسأل يقولون : »لو عادت اللحظة لعدنا» لم يفقدوا إيمانهم بمصر فلم يكونوا يعملون لحساب أحد أو ليرضي عنهم أحد أو ليقدرهم أحد، وإنما فعلوا ما فعلوا عشقا في عيونها، هذه التي تجري في دمائهم كما يجري النيل في ارض مصر. القادة الجدد عاد القادة القدامي أيا كانت رتبهم في ذلك الزمن - ليقصوا علينا ما رأوه بعيونهم، وكيف لاعبوا الموت ولاعبهم. وجوه طيبة تحمل ملامح وجوه ستينيات القرن الماضي وبعضا من سبعينياته. عادوا متواضعين كأنهم لم يفعلوا شيئاً، يعيدون رسم الخرائط في الذهن ويرون العدو رؤيا العين ويستحضرون اللحظة بقلقها بل بخوفها وشجاعتها وحماس حقيقي وطمأنينة ينزلها الله والوطن في القلوب فتصفو العقول وتلمع العيون. يتحدثون في طيبة وتواضع يدعوك لمقارنتهم بمطرب غث يبيع الغث وهو يحدثك عن انجازاته كأنما قد بني الهرم ثم يذيع عليك هذا الغثاء سبب شهرته »ومجده».. ابطال هم في مثل عمري الآن أو اقل، غضن الجباه مرور الزمن، ولكنه لم يفقد الوجوه بساطتها وبشاشتها، هم يداعبون الان احفادهم، وكانوا يرون كيف تحولت الحرب إلي بطولة شخص واحد محا وجوده وجود الآخرين الحقيقيين فيصمتون. كانوا يرون انفلات الغيلان من كهوفها بربطات عنقها الانيقة الغالية التي يمكن للفقير ان يبني غرفة تلمة بثمن الواحدة منها، فلا يتحسرون.. لقد حاربوا من اجل مصر، مصر التي عرفوها واحبوها، مصر عبد الناصر وأحمد إسماعيل والشاذلي و..............و............. مصر القيم، والحرية، والتي لديها الف دافع لان تحيا، وليست مصر المضيعة قصدا، والمتخلفة عمدا، والتي يعمل العملاء الشرهون علي سلبها كل معني لعلاقة المواطن بالوطن، وفتح باب الهيافة والضياع في الفنون التي كانت عماد مصر في دعم القيم وإيضاح الافق البعيد امام أعين البشر، رغم ضلام نكسة يونيو ومرارة هزيمتها، وعسر الأحوال. لقد عادوا ليفتحوا أبواب »الفهلوة واخطف واجر، واللي تطوله ابصر ايه». (ان باعوا توب أمك الحق لك منه حتة) صعد من لم يقاتل، وتواري من جاء بالنصر، واختلت الاحوال، وانقلبت المعاني، ومات اكتوبر العظيم، بل لقد كان يموت في كل عام وحتي تلك الاغنيات التي تمجد الجندي المصري: المواطن الجندي.. دفنت، وكما كان صديقي يسميها (اغنيات الليلة الواحدة). وفي أكتوبر من كل عام تسألك مذيعة الراديو والمذيع: »اين كنت في السادس من أكتوبر الساعة الثانية ظهراً.. وينتظران إجابة كمن يسألك »أي الألوان تفضل»: هذا العام استيقظ أكتوبر وقام مادا جسده رافعاً هامته، يوقد في القلوب نيرانا خبت، ويعيد رسم الذاكرة وذكرياتها المجيدة، ومن جديد تذكرت شيئا من أشعاري. الحرب مش كلمة ساهلة تتنطق وخلاص تلات حروف بتقولوها بسرعة وبإهمال الحرب أهوال. ودم وخوف وموت ورصاص بتخوضها بضمير .. أمين علي مصير أجيال *** ولو كان يا صاحبي الكفاح غنوة علي أوراق ولا قصيدة يطير فيها الخيال »ويشت» صراع مميت ضد من بيفرقوا العشاق سينا.. وشعبي اللي عاني في »السنين الست»!! *** أكتوبر اللي اترسم - يومها - في غناويكم. غير اللي عشناه هناك ومتنا.. وحيينا ويا ما شبان عزاز ولا حد قال: »هية فين اصلا تكون سينا»!! *** أنا بوست ابني الصغير لما سد الباب وقلت له: »سيبني». بينادي الوطن يا ابني رايح أرد ابتسامة سينا للأحباب حوش ابتسامتك وحبك.. مش حيمنعني!! *** أتذكر اليوم وأهواله اللي فاجئتنا ثانية في ثانية في ثانية اتغير الإحساس وساعتها.. لما واجهنا الموت بشواربنا كنا إحنا والموت بقينا اخوات شققا ياناس مرحي بأكتوبر.. وبرجاله. كان وجودكم حولنا هذا العام، نتذكره ودافعا لنا بالنظر إلي أخطار الغد الذي قد يعوزه أكثر من أكتوبر واحد!! القديم والجديد لقد خدمناهم حين طردناهم، وأنرنا طريق مستقبلهم معنا ومع غيرنا حين ثرنا عليهم. ولذلك فلا سبيل للمقارنة بين احوالهم قديماً وأحوالهم الآن لقد خلصنا لهم اهدافهم من الشوائب ليتسلموا الاهداف »مقشرة». لاسبيل للمقارنة بين الاستعمار القديم والحديث الاستعمار (البدني) والاستعمار (الورقي). يا.......ه كم تحمل المستعمرون من جهد وأرهاق حين كان الاستعمار بدنيا أي بالجيوش والعتاد والحياة الكاملة في بلاد كبلادنا: بناء الثكنات واقامة المعسكرات واحاطتها بأبراج حراسة وأسلاك شائكة، المطاعم - ميس الجنود وميس الضباط - والمطابخ وأدواتها، والتعامل مع باعة اللحوم وباعة الخضروات والفاكهة، الحرس الذي يتغير، السفن التي تأتي محملة بالشاي والملابس والصابون والبسكويت والسكر وكل احتياجات تلك الجحافل من الجنود والضابط بخلاف الرواتب الكبيرة، اموال، اموال، أموال ،إن خصم كل تلك التكلفة الي جانب »الرشاوي» للعملاء من ناتج ما كانت الارض تنتجه من باطنها وظاهرها، لم يكن ليبقي للمستعمر الغلبان شئياً، اضف اليكل ذلك شق الطرق وتمهيدها وسفلتتها واصلاح احوال السكك الحديدية الي جانب تلك الملابس التي كان العرق يبللها فيبليها وأحذية لا تصمد طويلاً في اراضي الرمال والصخور أو طمي للنيل، الي جانب السيارات والمدرعات والأعلام والأفلام. ماذا يتبقي للمستعمر الغلبان بعد كل ذلك وغيره؟ ثم إذ بعد ذلك يبدأ التململ الذي يتحول الي غضب ثم الي ثورة واغتيالات وسرقات مخازن وسرقات ترسانات السلاح ليقاوموا المستعمر المنهك بسلاحه. لاشك انه كان استعمارا قاسيا علي المستَعمَرين والمستعمِرين معا الحمد لله لقد ساعدناهم علي التطور، وعلي ان يجدوا طريقهم الواضحة للتخلص من كل تلك الاعباء، ومع تطور العلم طوروا فكرة استعمارنا ليظهر ما يسمي بالاستعمار الجديد. لا سفن تنتقل ولا طيارات تزوم أو مدرعات تستفز، ولا سيارات تتلقي الغضب حجارة مؤذية يختفي من يلقي بها كأنه لم يكن. لا يقتل جندي خارج من حانة، أو في مزرعة قريبة من »بيت خنا» ،الا هتاف امام القصر الذي يسكنه كبير المستعمرين في البلاد مطالبين بسقوطه صار كل ذلك سطوراً في كتب التاريخ، الدول الثورية تظهره، والانظمة التي تخاف شعوبها تطمسه وانتهي الي غير رجعة. صارت الورقة تكفي، ما يسمي بالمعاهدات والاتفاقيات الاقتصادية و»الثقافية»، والسياسية وفرت كل التعب والحمول القديمة. ثلاثة أو أربعة من لابسي الكرافتات المهندمين،واجتماعات سرية مع القائمين علي حياة المواطنين وهكذا. لم تعد للسلاسل أصوات بعد أن تحولت إلي ورق، ولم يعد الغول تشبعه الوجبة وجبة ويريد التهام المائدة بكل ما عليها وبأصحابها إن أمكن وهكذا صار يخلق الوسائط ويفتعل الاسباب لنساعده جميعاً في مص دمائنا، هذا ما نراه في العراق وفي سوريا الآن، ولاشك ان حساباته السياسية لا تنام ليلا ولا نهاراً بعد ان ابطلناها بضربة مدوية في 30 يونيو، تدبر لنا اسلوبا ثالثا للالتفاف حول رقابنا التي مازالت آثار الحبال القديمة بادية عليها حتي الان، ولا أظن أن شعبنا مستعد لقبول حبال قديمة أو جديدة مرة أخري مهما كان الثمن، ويا من حلمت بالخدمة عند السادة الاجانب، وراهنت علي غفلة الشعب الطيب قل لأمك: (غطيني وصوتي عليّ)..!! المنجة طابت الخميس : في مناطق الإسماعيلية الريفية أقدم مزارع المانجو في مصر، استقرت مباديء لا يستطيع احد اختراقها أو العبث بها منها أنك لا تستطيع ان تقتطف ثمرة مانجو من مزرعة غيرك. ادخل الي (الفرش) لتجد الرجل يفرز »المانجة» ويكومها حسبا لاصنافها التي كانت مائة وثمانين صنفا - كما يدعي قدامي المزارعين - لتصبح الآن ليس أكثر من عشرين صنفاً لم تبقه علي قيد الحياة. ثم جاء الوباء الامريكي بنوع من الثمار، الواحدة منها تزن عشرين حبة من »منجتنا» المصرية النحيلة لتتجه إليها المزارع الكبيرة كما عرف الفلاحون كذلك طريقهم إليها فراحوا يجزون اشجارهم ويطعمونها بالصنوف الجديدة. لم يعد يهم المزارعين »طعم» إنتاجهم. لكن كم ما تعطيه الشجرة صار الان مقصدهم ومبغاهم. نحن مازلنا نتعامل مع شجرة المانجو كأنها شجرة جوافة أو برتقال، نلقي إليها بالسماد والماء ونمضي »شجرة المنجة» هي امرأة حقيقية تحب أن تعاودها وتزورها وتدخل عليها بشيء وتسأل عن أحوالها وتداعبها وتمسحها ببصرك صاعداً هابطاً هي امرأة بكل المعاني، فإذا شاهدت اصفرارا في الخد الذي كان متوهجا عليك أن تبحث عن العلة وأن تعدها بالطبيب والدواء فوراً والا حرنت ولوت بوزها وأعطتك جنباً وفي موسم العطاء تعرف كيف تعامل الجبناء بجفاء. كنت قد شريت هذا الفدان الذي أقيم فيه الآن، لم يكن ارضا صالحة لزراعة، وبخبرتي »الابنودية» القديمة استنهضت ما فيها من بقية عزم وبثثت الثقة في عروقها مرة ومرة ومرات فاختشت واستسلمت لجهودي، ثم زرعتها اشجار مانجو كيفما اتفق ، فلإن كانت لي خبرة بالارض فإن خبرتي بالمانجو في ذلك الوقت كانت معدومة. بعد سنوات حين أثمرت، اكتشفت أن (المانجة) الوحيدة التي تحبها زوجتي هي (المنجة العويسي، من جديد جززت الاشجار التي أخذت أنتظرها لأكثر من ست سنوات، وطعمتها كلها بأعواد العويسي الاصيل ورحم الله (عويس) هذا، من أدخل هذا الصنف إلي بلادنا ليصبح الطعم الاهم في الفاكهة المصرية قاطبة. رحمه الله باشا كان أو فلاحاً فلقد انتصر علي كل منجة أخري. طبعاً من المعروف أن كثيراً من اصناف المانجو نسبت إليمن أدخلها إلي مصر، مثل المنجة (التيمور) مثلاً فهي تنسب إلي آل تيمور وبشواتهم وكذلك (البربري) الذي لا أعرفه.. اما عن اسماء بقية الاصناف فلا مجال هنا لتعدادها.. أما »العويسي» فتمتاز بأن ثمرتها التي لا يكتمل نضجها تصبح (فص)، ذلك الفص المشهور الذي يحمل في حجمه الصغير حلاوة ثمرة كبيرة فكأنه التقطير الاصفي للثمرة المحبوبة.. ولكن بتحويل الاشجار إلي صنف واحد قلت الانتاجية لأن الاشجار تطرح بعضها. كيف انسقت هكذا وراء كل ذلك ولم يكن موضوعي من الاساس؟ الامر أنني قرأت في جريدة الاخبار اليوم خبرا يخصّ المانجو ولكن في بلاد الاسبان، فعرفت ان اقتصاد البلاد ليس لعبة، وأن الدنيا تأخذ الأمور بجدية لا تملكها حكوماتنا المتعاقبة التي لا تدري من أمر بلادها شيئاً، شوف يا سيدي الخبر: من أجل الحفاظ علي محصول المانجو من السرقة، تقوم الشرطة الاسبانية بارسال مروحيات هليوكوبتر للقيام بدوريات ووضع نقاط تفتيش لحراسة اغلي محصول نقدي في البلاد والذي حان موسم حصاده. كما تقوم (الشرطة) بعمليات تفتيش عشوائية في المتاجر المحلية والاسواق. لاثبات أن المانجو المعروضة مشروعة او غير مشروعة. يذكر أن اللصوص يحصلون علي ثلاثة يوروهات للكيلو من فاكهة المانجو المسروقة. قلت لنفسي، إذا كان الكيلو المسروق بحوالي ثلاثين جنيها مصريا، فكم ثمن الكيلو الشرعي؟. ولماذا يتضور فلاحو المانجو في بلادنا عوزا وغلبا ولماذا لا يجعلني فداني ثريا، ذلك الفدان الذي وقف شاعر أو ما يشبه الشاعر في »الجزائر» يجيب حين سئل عني: لديه مزرعة علي شاطيء قناة السويس في مساحة الجزائر العاصمة، إنه ملياردير فكيف يصبح ثوريا؟». ولو أتيتم لزيارتي لهالكم حجم ما يتخلص منه أصحاب حدائق المانجو الآن الذين يتخلصون من عبئها ليزرعوا بدلاً منها »غيطان» كوسة!! هاتفني الرئيس الجمعة : أعرف جيدا ان لا علاج للرئة، ولا اسمح لذلك بأن يقترب من الروح أو العزيمة ثم أن اصدقائي لا ينقطعون عن الزيارة رغم مشقة المشوار ولا يهدأ جرس الهاتف عن الهتاف. وامس كان يوما خيرا محصوله وفير ولا يقدر بثمن، فقد استقبلت فيه صوت استاذنا محمد حسنين هيكل: استاذية ممتدة في الأجيال مهما حاول العبث العابثون!! أما المكالمة المفاجأة فقد كان صوت الرئيس: عبدالفتاح السيسي. جاءني صوته ودودا طيبا كعادته، يسأل بجدية وليس اسئلة فض المجالس، فسرت له موضوع الرئة وتاريخها وأنهم بالمستشفي الأمريكي بباريس حيث أقمت ثلاثة أشهر قال لي زمرة الاطباء مجتمعين: »لقد فعلنا كل ما يمكن لأطباء أن يفعلوا في مثل حالتك. لا تأت مرة أخري فليس لدينا ما نقدمه، واذا ما اكتشف العلم شيئا في أمرك سنبلغك. ونصحوني بالاقامة في مكان شجري وبعيدا تماما عن القاهرة التي يعرفون جميعا مقدار تلوث أجوائها، ويعتبرون من يعيشون فيها ويقبلون بشروطها مجانين لا شك. والتزمت واقمت في هذه القرية علي اطراف المدينة الخضراء سبع سنوات حتي الآن، إلا أن هذا لم يشفع للرئة. قال السيد الرئيس: »لدينا أطباؤنا ومستشفياتنا ودعنا نعيد النظر». وافقته وأنا اعرف واقع الحال. لكن أهم ما في الأمر هو أني استمعت إليه واستمع لي وما أن استعددت للنوم حتي فوجئت بضجيج رهيب، فخرجت لأجد عربة إسعاف ضخمة - أو قل مستشفي مجهز في عربة - وأهالي القرية قد تجمعوا أمام الباب، بل ان بعضهم حين رأي الاسعاف تطوع وقفز من فوق البوابة العالية ليفتح لها الباب.. خرجت فوجدت هذا الكرنفال الإنساني، انفردت بالطبيب الجميل دمث الخلق الذي صاحب العربة، شرحت له الحال، وقلت إني لا استطيع أن اسلمهم نفسي قبل يومين وإذا بمكالمة من القائد العام للقوات المسلحة فريق أول صدقي صبحي وزير الدفاع والانتاج الحربي.. اتصل ليطمئن لوصول الانقاذ، وكانت مكالمة جادة صادقة فله كل الشكر. أنا أعرف أحوال رئتي، وأعرف مبلغ الضرر والعطب الذي أصابها، ولكن من باب طمأنة الأحباب، فإنني »أهاودهم» حتي يكتشفوا أنه لم يعد لدي رئة، وأن أنفاسي التي تجهدني هي هبة من الله، تعطنيها الحياة لأنتظر فقط تباشير صباح تشق أشعته هذا الحصار الذي تتكالب عليه وعلينا كل زبانية الشّر في الدنيا ونحن لاهون، بل إن كلّامنا يربط السندسية بحبل وكل منا يشد الحبل إليه دون نظر إليها أو خوف عليها نعتصرها ونمزقها ولا نستمع لمعاناتها التي لا تخفي!! أتمني ان يري أبناؤنا مصر المزدهرة، وأن يهزموا المهزومين الذين يعتقدون انهم الابطال الساعون لانقاذها.. شكرا للسيد الرئيس، وشكرا للقائد العام للقوات المسلحة، وشكرا لأصدقائي المخلصين ولشعبنا الذي لن يغلبه غلاب!!