يدرك الجميع أن القضية الفلسطينية قد شغلت الساسة والرأي العام العالمي لعدة عقود للتوصل لحل سياسي سلمي مرضٍ لكل الأطراف المعنية. ورغم ذلك لا يعلم الكثير أن جانباً خطيراً من تلك القضية قد امتد ليشغل أيضاً القضاء الجنائي الدولي خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وحتى مطلع هذا الشهر. وترجع العلاقة الفعلية بين القضاء الجنائي الدولي والقضية الفلسطينية، إلى 22 يناير 2009، عندما تقدم وزير العدل علي خشان الفلسطيني بوضع إعلان لدى مسجل المحكمة الجنائية الدولية (المحكمة) مفاده قبول اختصاصها للتحقيق في الجرائم الدولية التي ارتكبت بقطاع غزة في غضون ديسمبر 2008 و يناير 2009. . و في 3 أبريل 2012، قام المدعي العام للمحكمة بكشف الستار عن موقفه تجاه إمكانية التحقيق في تلك الجرائم، عندما جاء بتصريح كتابي ينتابه الغموض والتناقض مكون من ثماني فقرات يشرح فيه كيف توصل إلى نتيجة تقييم المعلومات الأولية التى تلقاها في هذا الشأن. و انتهى إلى قراره السلبي بعدم إمكانية الشروع في التحقيق في الحالة الفلسطينية. و صرح المدعي العام بمقتضى الفقرة الأخيرة من تصريحه الكتابي، بأنه من الممكن في المستقبل قيام مكتبه بالنظر في الادعاءات بشأن الجرائم التي ارتكبت بفلسطين. و يكون ذلك في حال قيام وكالات الأممالمتحدة المتخصصة أو جمعية الدول الأطراف بحل الإشكالية القانونية المتعلقة (باختصاص المحكمة). أو إذا قام مجلس الأمن بالإحالة إليها معطياً إياها اختصاصا، كما حدث في حالتي السودان وليبيا. فجوهر الإشكالية التي استند إليها المدعي العام لعدم الشروع في التحقيق في الحالة الفلسطينية، هو وجود جدل قانوني عن ما إذا كانت فلسطين" دولة" وفقاً لقواعد القانون الدولي العام ولنصوص النظام الأساسي للمحكمة. ووفقاً للمدعي العام، فإنه في حال وجود تعارض أو غموض عما إذا كان الكيان المتقدم يشكل "دولة" من عدمه، فقد جرى العرف على أن يحسم الأمر بواسطة الأمين العام أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، علماً بأن لهما الاختصاص الأصيل في هذا الصدد. علاوة على ذلك، فقد صرح المدعى العام بأنه من الممكن أيضاً لجمعية الدول الأطراف النظر في تلك المسألة في الوقت المناسب. ومما تقدم يثور التساؤل الآتي: إذا كان تفسير نص قانونيا من نصوص النظام الأساسي للمحكمة مرهونا بقرار مسبق من الأمين العام للأمم المتحدة أو الجمعية العامة، أو جمعية الدول الأطراف، فهل كان التوصل إلى هذه النتيجة على فرض صحتها يتطلب الانتظار أكثر من ثلاث سنوات منذ إيداع السلطة الفلسطينية للإعلان؟. بمعنى آخر هل كان على المدعى العام الانتظار حتى 3 أبريل 2012 ليقرر أنه غير مختص بالبت في الحالة الفلسطينية؟ ففي رد مكتب المدعي العام خلال الأعوام الماضية على خطاب مرسل من نائب المفوض السامي لحقوق الإنسان بتاريخ 12 يناير2010 مستفسراً عن قرار المدعي العام بشأن الحالة الفلسطينية. استعرض الأخير الجهود التي بذلت في هذا الصدد والتي من ضمنها إجراء عدة لقاءات في 2009 شملت وزيري العدل والخارجية الفلسطينيين، وكذا الأمين العام لجامعة الدول العربية آنذاك "عمرو موسى" وأعضاء اللجنة المعدة لتقصي الحقائق. بالإضافة إلى ذلك، فقد صرح المدعي العام بأنه تلقى عدة تقارير من فلسطين وإسرائيل ومنظمات غير حكومية وفقهاء القانون الدولي بصدد اختصاص المحكمة. فلماذا إذاً قام المدعي العام بعقد كل هذه الاجتماعات ورحب بتلقي التقارير المقدمة من الأطراف المختلفة عن جوهر الموضوع إذا كانت المحكمة غير مختصة في تفسير إحدى النصوص الواردة فى نظامها الأساسي كما يدعي؟ وبالنظر إلى الفقرة 79 من "وثيقة فيينا" التي استند إليها المدعي العام نجد أن الأمين العام قد اعتبر أن قبول عضوية الدولة محل الخلاف بإحدى وكالات الأممالمتحدة المتخصصة هو في جوهره اعتراف من المجتمع الدولي بكونها "دولة". و لمّا كانت منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة قد قبلت عضوية فلسطين في العام الماضي على اعتبارها دولة معترف بها، فإن ما قرره المدعي العام في تصريحه بات على غير سند. كما أن تعامل المدعي العام مع الحالة الفلسطينية يختلف جوهرياً عن تعامله مع ملفات أخرى متعلقة بالوطن العربي مثل الحالة المتعلقة بليبيا، التي قرر المدعي العام بصددها الشروع في التحقيق فيها في أقل من خمسة أيام. والقول بأن "الاختصاص الأصيل لتفسير مصطلح "دولة" في سياق نصوص النظام الأساسي في المقام الأول يقع على عاتق الأمين العام للأمم المتحدة أو الجمعية العامة وهو قول غير سديد. فالمحكمة الجنائية الدولية هي كيان قضائي كسائر المحاكم الأخرى، مما يعني أن تقدير توافر ولايتها القضائية من عدمه يرجع في المقام الأول والأخير للمحكمة ذاتها وفقاً لمبدأ .“compétence de la compétence” إن تفسير وتطبيق أي من نصوص المواد المتعلقة بالنظام الأساسي والنصوص التابعة له، أمر منوط به المحكمة، ولا يجوز القياس هنا ببعض الممارسات المتعلقة بالأمين العام للأمم المتحدة أو الجمعية العامة بصدد الاتفاقيات الدولية الأخرى. فكان يتعين على المدعي العام أن يقوم بتفسير نص المادة 12 من النظام الأساسي محل الجدل في ضوء كل المعلومات المتاحة، وإذا ما تعذر ذلك فكان يتعين عليه الاستعانة بقرار من الدائرة التمهيدية وفقاً لنصوص النظام الأساسي و قواعد الإجراءات والإثبات ولائحة المحكمة. وبتمحيص قرار المدعي العام نجد أنه في حقيقته قرار ضمني بعدم وجود اختصاص (وبناء عليه فإن فلسطين ليست بدولة)، على الرغم من أن ما يدعيه أنه لا يستطيع حسم مسألة الاختصاص بدون قرار مسبق من الأمين العام أو الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهذه النتيجة يمكن استنتاجها إذا ما نظرنا إلى الفقرة الأخيرة من التصريح الكتابي الذي وردت به الإشارة إلى صلاحية مجلس الأمن في إعطاء المحكمة الاختصاص المطلوب لنظر الحالة الفلسطينية في المستقبل. و هذه العبارة تنص على الآتي: "إذا قام مجلس الأمن بالإحالة إلى المحكمة، معطياً إليها اختصاص". الإشارة إلى عبارة "معطيا إليها اختصاص"، هي تقرير ضمني بأن ما توصل إليه المدعي العام في تصريحه هو في حقيقته أن المحكمة منعدمة اليختصاص للنظر في الحالة الفلسطينية، لكون فلسطين ليست "دولة". وينتج تساؤل: ما هو دور الدبلوماسية العربية وأين كانت قبل صدور هذا القرار؟ أين ذهب دور مصر الرائد تجاه القضية الفلسطينية، و لماذا لم تتدخل بشكل إيجابى إما لعرقلة صدوره، أو على الأقل الحد من آثاره القانونية السلبية التي سوف تنعكس حتماً على الوطن العربي؟. إذا كان أحد الأسباب يستند إلى تسوية سياسية متعلقة بوضع فلسطين في الأممالمتحدة، فقد خسر العرب أداة ضغط كان من الممكن استخدامها فا وقت لاحق إذا لم يتوصل الفيلسطينيون إلى ما تقدموا به. وإذا كان أحد الأسباب هو العبارة الشهيرة إن الغرب دائماً ما يطبق مبدأ ازدواجية المعايير تجاه الدول العربية عندما تتعارض المصالح، و لذا فالأفضل اتخاذ موقف سلبي، فهذا ليس بمبرر كاف للالتفات عن ملف هام كهذا. فالمحكمة الجنائية الدولية أصبحت واقعا لا يمكن تجاهله وتغلغلها في القضايا العربية يتزايد، بعد نظرها قضايا متعلقة بالرئيس عمر البشير والرئيس الراحل معمر القذافي و نجله وكذا رئيس الاستخبارات الليبي السابق، وربما في يوم ما قد تنظر أيضاً الحالة المتعلقة بسوريا. وكل هذا يعني أن الالتفات بعيداعن هذا الواقع خطأ، وكما ذكرت في حديثي للأهرام في 27 مارس 2011، أنه "يجب علينا لدرء أخطار أفكار الغرب أن نشارك، حتى نفهم منهجية الفكر الغربي في هذا المجال المتخصص. فكانت تستطيع الدبلوماسية العربية وعلى الأخص المصرية أن تلعب دورا فعالا على الأقل عن طريق تقديم مقترحات قانونية لتعديل مسودة القرار لضمان الحد من آثاره السلبية المستقبلية ليست فقط على مصر بل على الوطن العربي.