فى شوال 36ه وصل معاوية بن أبى سفيان، والى الشام، علي رأس قواته إلى منطقة سلمنت قرب عين شمس، يطلب قتله "عثمان بن عفان" خليفة المسلمين الراحل.. بعد عشرة أشهر من مقتله في 7 ذى الحجة عام 35ه. خرج جنود مصر بقيادة واليها محمد بن أبي حذيفة لمنعه من دخولها، فأرسل له معاوية: إنا لا نريد قتال، لكن نطلب قتلة عثمان، خاصة عبدالرحمن بن عديس، وكنانة بن بشر فرفض ابن حذيفة، فقال معاوية: جعل بيننا وبينكم رهنا.. فلا يكون بيننا حرب.. فقبل بن حذيفة.. بل وخرج مع رجال الرهن والذين قد أضيف لهم أبو شمر بن أبرهة الصباح وعدد آخر ممن شاركوا في الفتنة. فى منطقة اللد بفلسطين قام معاوية بسجن مجموعة منهم هناك منها عبدالرحمن بن عديس ثم سار إلى دمشق وهناك سجن الباقيين ومنهم ابن حذيفة نفسه.. وهو ابن عمة معاوية،.. نجحت مجموعة اللد من الهرب من سجنها، إلا أبو شمر بن أبرهة الذى قال لا أدخله أسيراً وأخرج منها هاربا، فتتبع جند معاوية الهاربين وقتلوهم جميعا.. لم تستمر مجموعة سجن دمشق فى حبسها إلا شهرا أو يزيد قليلاً، وفى ليلة 7 ذى الحجة 36ه قال ابن حذيفة: "هذه هى الليلة التى قتل فى صباحها عثمان، فإن يكن القصاص، نقتل غدا.. وقد كان". محمد بن أبى حذيفة والى مصر للامام علىّ وقد بدأ دور ابن حذيفة منذ بداية الفتنة فى موسم حج 35ه عندما ازدادت الاضطرابات، وتوافدت وفود من مصر والكوفة والبصرة على خليفة المسلمين "عثمان" تشكوا له تصرفات ولاته، خاصة أقرباؤه، أما الكوفة ومعظم أهلها من الموالى أى المسلمين غير العرب، فقد بدأوا يطرحوا أحقيتهم فى التساوى بالعرب فى العطايا والمناصب القيادية، وأن يتم استثمار بعض من ناتج أراضيهم فى الكوفة بدلا من إرسالها لبيت المال فى المدينة. عند ذلك قرر عثمان جمع ولاته للتشاور، فخرج إليه عبدالله بن سعد فانقلب ابن حذيفة على الحكم وطرد الوالى بالنيابة الصحابى عقبة بن عامر، الذى ذهب إلى معاوية فى الشام، واستمر ابن حذيفة فى تحريض مقاتلى مصر على عثمان وولاته، حتى وصولوا إلى درجة الغليان، فاختار منهم 600 مقاتل للذهاب إلى عثمان فى المدينة، وكان هناك وفد سابق قد خرج للعمرة والحج، وهم من شاركوا فى الفتنة وقتل عثمان، ومعهم عبدالرحمن بن عديس، وكنانة بن بشر، وعروة الليثى، وعمرو بن بديل، وسودان الأصبحى وذرع بن يشكر.. مجموعة الرفض هذه تجمعت فى منطقة ذات الخشب، مدخل طريق مصر إلى المدينة، وتفاوض معها محمد بن مسلمة، نيابة عن عثمان، وسمع مطالبهم وأهمها تولية محمد بن أبى بكر على مصر بدلاً من ابن أبى سرح، ووافق عثمان، وعادوا به إلى مصر لولا أنهم لاقوا عبداً لعثمان مسافر إلى مصر، ويخفى رسالة من عثمان إلى واليه هناك يأمر بقتل ابن أبى بكر، وقادة التمرد.. فعادوا ثائرين للمدينة، يحاصرون عثمان شهرا، ومعهم رجال البصرة والكوفة ثم يقفز ابن أبى بكر ومعه كنانة بن بشر وعدد آخر من منزل مجاور لمنزل عثمان.. ويقتل أمير المؤمنين، ويبايع عليا بن أبى طالب بعد خمسة أيام.. وتعود الوفود لمصر الملفت أن محمد بن حذيفة قد تربى فى حضن عثمان بن عفان، الذى تكفل به بعدما قتل والده فى معركة اليمامة عام 12ه فى خلافة أبوبكر، وزوج أمه سهلة بنت عمير.. من الصحابى عبدالرحمن بن عوف. فقد كان والداه من أقرباء عثمان، وكانا من المهاجرين للحبشة فى الهجرة الأولى، وأنجبا "محمد" هناك، فبقى "محمد" بذلك في كنف عثمان من سن 13سنة، حتى سن 24عاما على أقرب تقدير.. فعثمان تولى من "24 35ه" أو قد يكون أكثر قليلا.. لأن أبى حذيفة بعد ذلك، طلب من عثمان أن يوليه أحد مناصب الدولة، فرفض وأمره بالذهاب إلى مصر، ليبقي هناك مع المرابطين لحراسة حدود الدولة على السواحل، أو مشاركته فى جيوش قتال وفتوحات النوبة وأفريقيا ومعركة ذات الصوارى "27 32 34 ه" لكن يبدو أن كل ذلك لم يعجب ابن حذيفة، فآنضم للمعارضين لابن أبى سرح وعثمان، فى خربتا، ثم انقلب على الحكم وأخرج الجنود ثائرين على عثمان، ثم أعلن ولائه للإمام علىّ، الذى أقره والياً لمصر. نتوقف هنا، عند موقف خروج ابن حذيفة في رهن معاوية لمقتله عثمان، ولا أجد لها إلا تفسير واحد، فهو قد أراد أن يعطى ثقة لرجاله، على أساس أن الأمر سيتم فيه محاكمة قضائية، عندما ينتهى أمر الخلافة بين علىّ ومعاوية، والأهم أن معاوية أصلاً ابن خاله ويبدو أنه توقع ألا يغدر به وهو ابن عمته، لكن للسياسة شئون أخرى. لم يبق ابن حذيفة فى الولاية أكثر من عشرة أشهر، لكنها كانت حافلة بالأحداث.. بدأت فور انقلابه.. إذ وصل إلى مصر الصحابى سعد بن أبى وقاص مندوباً عن عثمان يناقش أهل مصر، فخاف ابن حذيفة من تأثيره على الناس فهاجم فسطاطه خيمته فور وصوله إلى مصر وشج رأسه وطرده من البلاد. ثم دخل في خصومة شديدة مع عدد من كبار قادة القبائل، المؤيدين لعثمان ومنهم معاوية بن حديج، ومسلمة بن مخلد، وعمر بن قحزم، وحمزة بن كلال، وسعد بن مالك وخالد بن ثابت الفهمى، والملفت بعد ذلك أن معظمهم تولى مناصب قيادية فى دولة بنى أمية، منها ولاية مصر "ابن حديج وابن مخلد"، وقيادة الجيوش البحرية "بسر بن أبى أرطاء، وخالد بن ثابت" وهم من قال فيهم بعد ذلك بأشهر "قيس بن سعد" والى مصر للإمام علىّ، أنهم أسود العرب ووجهائها والذى هادنهم واحترمهم طوال ولايته التي لم تزد على خمسة أشهر، وقد أرسل هؤلاء القادة مندوبا عنهم إلى عثمان "هو مسلمة بن مخزمة"، وقال له إنهم رفضوا عطايا بن حذيفة.. فقال عثمان بل هو حقكم فخذوه! ولعل أبرز ما فى أمر خصومته أنه أرسل رجاله إلى هؤلاء القادة، وكانوا مستقرين في خربتا، ليفرض عليهم البيعة له على مصر لخلافة الإمام علىّ، ومنهم معاوية بن حديج والذى كان مريضا آنذاك، فلم يجد كنانة بن بشر وكان من أكبر معارضى عثمان ومؤيدى ابن حذيفة، إلا أن يقف بقوة ضد رجال ابن حذيفة، دفاعا عن جاره هناك، واحتراما لقدره، وهو الأمر الذى بقى طيباً فى نفس ابن حديج، حتى إنه بعد ذلك بسنوات عندما أخذ محمد ابن أبى بكر ليقتله بعدما أسروه وهم يدخلون مصر، كرجال معاوية وحاول عبدالرحمن بن أبى بكر وعمرو بن العاص حماية محمد، أجابهم أيقتل كنانة بن بشر وقد قتله معاوية فيمن أخذهم من مصر رهينة وأترك أنا ابن أبى بكر. لما وصل وفد مصر قادماً من المدينة بعد مقتل عثمان دخلوا مسجد الفسطاط وتصايحوا: "لسنا قتلة عثمان..لسنا قتلة عثمان.. بل قتله الله". لم يعجب الأمر شيعة عثمان فى مصر، فاجتمعوا وقرروا البيعة إلى معاوية بن حديج للطلب بدم عثمان، فجمع مقاتليه وخرج من خربتا إلى صعيد مصر. فأرسل لهم ابن حذيفة جيشا مضادا، ليلتقى الجيشان فى "دقناش" قرب البهنسا "تتبع مركز ببا فى بنى سويف"، لكن جيش ابن حذيفة هُزم، وتقدم بعدها جيش بن حديج إلى طبرق في ليبيا، ثم عاد إلى الإسكندرية ليلاقيهم جيش ابن حذيفة من جديد فى خربتا "أول رمضان عام 36ه" وهُزم جيش ابن حذيفة من جديد، بل وقُتل قادة جنوده قيس ابن حرمل، وابن الجثما البلوى. وبات ابن حذيفة ولديه جيش مناهض له فى خريتا، ليجد نفسه أيضا فى مواجهة جيش معاوية فى عين شمس، فيقبل التفاوض.. ويذهب للرهن "قد يكون هربا من الأحداث إلى عشم أمان ابن خالته" لكنه يجد الموت فى القصاص، بعد مرور عام على مقتل عثمان وبعد أيام قليلة من عشرة أشهر قضاها فى اضطرابات مستمرة فى مصر.. فقد اندلعت أحداث الفتنة، وأمامها 6 أعوام أخرى قبل أن تستقر خلافة الدولة كلها لمعاوية بن أبى سفيان بعد مقتل علىّ عام 40ه وتنازل الحسن عام 41ه وأصبحت الدولة الإسلامية أموية .. وقد استخلف ابن حذيفة علي مصر الصحابى "الحكم بن الصلت بن مخرمة بن عبدالمطلب القرشى"، وهو قد شارك فى غزوة خيبر مع الرسول، كما شارك فى فتح مصر وقد استمر فى ولاية مصر لمدة 3 أشهر، حتى تسلمها من قيس بن عبادة في أول ربيع أول 37ه والياً لمصر عن الإمام علىّ بن أبى طالب.