أمام أسوار الإسكندرية فى حصارها الطويل "20 21ه" كرر عمرو بن العاص، نفس خطأ مغامرته أمام حصون الروم فى منطقة الرملة بفلسطين، قبل ذلك بأربع سنوات "16ه" عندما لم يسمع نصيحة أبوأيوب الأنصارى.. بألا يغامر باستطلاع حصون العدو لأن تعرضه للخطر، يعد خسارة كبيرة للمسلمين، وعرض أن يذهب بدلا منه.. وقد نجا ابن العاص بأعجوبة بعد حواره الماكر مع أرطبون قائد الروم.. وإيهامه له بإحضار عشرة من أصحابه هم مستشارو القائد الإسلامى ليسمعوا رأى الأرطبون.. فطمع الرومانى وهرب عمرو من عملية قتل مؤكدة وقال فور خروجه: "لن أعود لها أبدا". لكنه فى إحدى الغارات علي أسوار الإسكندرية اندفع مع قواته وحوصر وكاد يتقدم لمبارزة قائد رومانى لولا أن عاتبه مسلمة بن مخلد، لأنه وضع نفسه فى مخاطر، تؤثر فى كل مستقبل معارك رجاله بالخارج، وبارز عنه.. وانتصر وخرجوا سالمين فقد كان معهم جندىين آخريين فى حصار "الحمام" الذى لجئوا إليه. لكن فى الحالتين تثبت الوقائع الحية صدق نصيحة الصحابى الجليل ومدى معرفته بفنون الحرب وأقدار الرجال، وبدوره فى القتال والفدائية فداءا لقائد يجب أن يصان لصالح الجميع. أبوأيوب الأنصارى.. هو خالد بن زيد من الأنصار.. شارك فى بيعة العقبة الثانية مع رسول الله ضمن 70 أنصاريا، وتم اختياره من 12 نقيبا مسئولين عن الأنصار ومتابعتهم دينيا وعسكريا وسلوكيا. نال شرف نزول النبى فى منزله، فى الهجرة إلى المدينة بعدما أقام 14 يوما فى قباء، ثم قاد ناقته حيث بركت فى موقع مسجد الرسول، وذلك أمام بيت خالد.. فأسرع يحمل متاع النبى إلى منزله.. واعتذر النبى لكل المرحبين بأن الضيف مع متاعه، وأقام فى بيت خالد لمدة 7 أشهر حتى تم بناء المسجد وغرف ملحقة به يقيم فيها الرسول وأهله. أقام النبى فى أول الأمر بالدور الأرضى ليسهل له لقاء المسلمين، دون أن يزعج أهل البيت ورفض كل محاولات أبوأيوب لصعوده لأعلى حرجاً من أن يقيم أحد فى مبنى أعلى من النبى، حتى سال يوماً ماء من الغرفة العلوية وفزع أهل البيت مخافة أن تصل إلى النبى بالأسفل فأعادوا الرجاء بصعوده.. فصعد. تعلم أبوأيوب فى مدرسة النبى خلال 7 أشهر من حواراته مع اليهود والمشركين، المقبلين على الإسلام أو الرافضين له واستمر معه بعد ذلك فى مسجده.. وكذا اشترك فى كل غزوات النبى بدءا من غزوة بدر.. وحتى وفاة النبى. واستمر فى كرم ضيافته مع النبى بأن يرسل قصعة طعام يوميا إلى منزل النبى.. حتى توفاه الله.. وجاءت أول قصعة معه من منزل سعد بن عبادة والتى استمرت أيضا حتى بعد وفاة النبى ترسل إلى زوجاته. وقد أخى النبى بين أبوأيوب وبين مصعب بن عمير.. أحد المسلمين الأوائل والمهاجر إلى الحبشة مرتين، ثم أول من أرسله النبى إلى المدينة قبل الهجرة ليفقه أهلها هناك. كان له موقف حاسم فى واقعة حديث الإفك "6ه" عندما اتهم المنافقون السيدة عائشة زوج النبى فى أحد الصحابة، عندما تخلفت عن ركب إحدى الغزوات، فلقيها الصحابى وعاد بها مكرما، لكن المنافقين أشاعوا ما يضر النبى وأهله، حتى نزلت آية قرآنية تحسم الموقف لصالح السيدة عائشة. حديث الإفك من البدء رفض أبوأيوب أقاويل المنافقين.. ودافع عن السيدة عائشة بوضوح، ويذكر له حوار مع زوجته فى الأمر، عند اشتداده.. أكنت أم أيوب فاعلة ذلك؟ - قالت: لا والله ما كنت فاعلة. فقال لها بحسم: عائشة والله خير منك.. بمعنى أنى كنت لا تفعلين.. فالأولى أن لا تفعل عائشة وهى خير منك.. شارك أبوأيوب مجاهدا فى حروب الردة، وفي فتوحات الشام وفلسطين ومصر لكنه دائما يعود لموطنه الأصلى المدينة يجاور رسول الله. فى حصار منزل عثمان بن عفان خليفة المسلمين فى موسم حج 35 ه وقد تجمع حوله حوالى 1000مقاتل منهم 600 من مصر و200من البصرة، ومثلهم من الكوفة.. وقد استمر الحصار من الثائرين المعترضين على تصرفات عثمان وولائه لمدة شهر، فلم يكن هناك من يصلى بالمسلمين، فذهبوا إلى الإمام على فأمر باستدعاء أبوأيوب الأنصارى الذى صلى بالمسلمين طوال هذه الفترة التى انتهت بمقتل عثمان فى 23 جمادى الآخر 35ه. عند اختيار على ابن أبى طالب، خليفة للمسلمين وقف معه قائد فرسان جيشه فى واقعة الجمل "36ه" وكذا صفين "27ه" وجاهد كثيرا قبل المعركتين أن يدعو المسلمين إلى السلام والعودة إلى طريق الله، لكن الفتنة قد اشتعلت، لكنه بعد موقعة الجمل أقنع الإمام على بالذهاب إلى السيدة عائشة فى البصرة ليصفى الأجواء بينهم وهو ما حدث. ساند "على" فى مواجهات مع الخوارج وبذل مجهودا كبيرا لدعوته للسلام بأن رفع رايته وقال كل من جاء حولها فهو آمن، لكن بعضا منهم لم يقبل، وهُزموا شر هزيمة. كما ساند الإمام الحسن بعد مقتل على عام 40 ه وقبل الصلح الذين تم بينه وبين معاوية بن أبى سفيان "41ه" والذى أصبح معاوية من بعده خليفة للمسلمين "41 60 ه". حرص بعد ذلك على المشاركة فى كل غزوات الجهاد.. اللهم إلا عاما واحدا كان قائد القوات شابا، لكنه عاتب نفسه ماذا يعيرنى فى أن يقود شاب، وفى العام التالى خرج فى غزوة القسطنطينية بقيادة يزيد بن معاوية، وشارك فى قتالها لكن المرض جاءه بقوة قبل فتح أسوارها، وعندما اشتد عليه المرض زاره يزيد يسأله عن أى طلب.. فأجابه إذا ما مت سيروا بجثمانى حتى أقصى منطقة يمكنكم بلوغها في أرض العدو.. وادفنونى، فدفنوه عند أسوار القسطنطينية. يبعث رسالة حماس للجنود بأنه لا يخشى العدو.. حيا أو ميتاً.. ليبقى مقامه هناك والذى أقيم له بعد عام 1452م مع دولة العثمانيين، فقد احترم أهل القسطنطينية قبره وهم مسيحيون ورأوا فيه بركة، ثم أقيم له مقام محاط بحدائق، دفن فيها ملوك وسلاطين العثمانيين تبركا بالصحابى الجليل.. الذى يعرفه أهل استانبول حاليا باسم "سلطان أيوب".. فهو سلطان المجاهدين. أبوأيوب الأنصارى أحد خمسة جمعوا القرآن وحفظوه من كبار الصحابة فمعه عبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل، وأبوذر الغفارى وأبوهريرة. ولعل من مواقف المكاشفة لجهاده وهو كبير السن، فى حالة مرضه أنه عند احتدام القتال أمام أسوار القسطنطينية اندفع أحد المقاتلين المسلمين إلى صفوف العدو يخترقها، فقال البعض ألقى بنفسه إلى التهلكة، وقد نهى الله أن يلقى الإنسان نفسه فى التهلكة، ففسر له الآية التى نزلت فى الأنصار، عندما فكروا بعدما استقرت الدعوة، أن يعودوا ليستثمروا أموالهم من جديد، تاركين الجهاد الذى بذلوا فيه الكثير قبل ذلك، فجاءت الآية لتأمره بالإنفاق فى سبيل الله.. وألا يلقوا أنفسهم إلى التهلكة.. بالتوقف عن الجهاد.. فالجهاد يمنع التهلكة.. لأنه يقوض أعداء الإسلام، فعاش طوال حياته مجاهدا، حتى آخر رمق به وآخر رسالة حرب ولو بعد مماته.