وكأن اللعنة قد أصابت هذه القرية .. فبين ليلة وضحاها تشتعل المنازل دون أسباب معلنة أو أدلة تشير إلى وجود أطراف مجهولة وراء الحرائق. ورغم مرور فترة زمنية بين حادث اشتعال النيران الأول في منازل قرية فرشوط بمحافظة قنا، وبين تكرار نفس الحادث، إلا أن أهالي القرية، دائما ما يتناولون سيرة الجن السفلي الذي يقوم في أوقات معينة ويضرم النيران في منازلهم، وبعد كل حادث يكون الصمت هو سيد الموقف. لم يتفق الاهالي وعمدة القرية على إجابة يوما مثلما اتفقوا في هذه الأحداث على أن الجاني والمتهم هو "الجان", لينصرف الضباط ووكلاء النيابة المحققين من موقع الحادث في كل مرة، وتصحبهم نظرات الاستغراب والاشفاق على أهالي القرية. إنها اجابات الصعيد الحصرية النادرة والتي قلما تجدها في أي مكان آخر غيره، وهى العصبية القبلية التي مهما تزايدت أخطاؤها وجرائمها وحرائقها تظل هي المحراب الذي يدخله الصعيد ويتضرع فيه ويحتمي به، وأن أي شئ آخر يهون في سبيل الحفاظ على قدسية وهيبة هذه العصبية المقدسة. فبالنظر إلى كل مسلسلات الحرائق الغامضة التي اندلعت في قرى ومراكز سوهاجوقنا وأسوان وأسيوط طيلة السنوات الماضية، لن تجد سببا أو متهما بشريا واحدا يمكن أن يشار إليه بأنه هو الذي كان وراء اشعال الحريق.. كل الجناة "عفاريت"، وهو ما قد يدعو إلى الاستغراب أحياناً من أن هذا "الصعيد المتدين" بطبيعة النشأة فيه، هو نفسه أول من ينحي الدين جانباً إذا ماتعارضت مصالح القبيلة مع العرف والخرافة – الثأر والعفاريت- والعرف يقتضي ألا يتم توجيه أي اتهامات لأي أحد في هذه الجرائم المجهولة حرصا علي تماسك القبيلة والنسيج القبلي من ناحية ودرء الفتن وتجنب الصراعات من جانب آخر، ليتم القاء الاتهامات على "الجان". المفارقة أن الغالبية من أهل الصعيد لا يؤمن بهذه الخرافات وتلك الاجابات الغريبة ولكنهم مضطرون لتصديقها حرصا علي الاستقرار، فالذين قالوا بأن العفاريت هي التي تحرق وتشعل النيران لم يكذبوا ولم يبالغوا, والعفاريت هنا, بمعني الجهل والتخلف الذي يرتقي الي المؤامرة علي العلم, وليس العفاريت التي كانت تحكي عنها جدتي وجدتك وتعني التسالي وسهر الليالي المرعبة. فالخلاصة أن ذلك التهميش والتجاهل الحكومي لمشاكل الصعيد ورعايته على مدى خمسين عاما تقريبا، جعل من قري الصعيد قري أسطورية خارج الزمن وتحول كل شئ في الصعيد إلى خرافة. يذكر أن الحريق الذي شب بفرشوط أواخر شهر أبريل الماضي، أسفر عن تدمير نحو 40 منزلا، ونفوق حوالي 50 رأس ماشية، دون خسائر في الأرواح، وكلف محافظ قنا فريقا من كلية العلوم ببحث غموض حرائق قرية سلام بفرشوط المتهم فيها "الجن".