سيل من الذكريات لا ينقطع أجتاحني بمجرد علمي أن الكاتب الرائع محمود سالم " وافتة المنية " الأحد 24 فبراير . فهو لم يكن لي مجرد كاتب لسلسلة مغامرات " المغامرون الخمسة " فقط , بل كان بمثابة الوحي لمعظم الخبرات الحياتية التي أكسبتها . كان أسلوبه السلس الذي يتميز بالمرونة والجاذبية والعبقرية في شرح التفاصيل , يدخلني عالم أخر من المغامرة والإثارة . كنت من سكان المعادي , وكان لدي خمسة أصدقاء لا نفترق ابدا وهم " نوسة ولوزة عاطف ومحب " وسادسهم كلبهم " زنجر " هم في الحقيقة ابطال روايات محمود سالم التي لم تكن تفارق جيبي لحظة واحدة , عشت معهم أجمل أيام طفولتي .. شبابي , وكأن بيننا رباط مقدس لا تحلة الأيام . وتأكد ذلك الرباط عندما عرض علي الشاعر ورجل الاعمال " مصطفي أبو جمر " كتابة مسلسل المغامرون خمسة كحلقات مسلسلة في التلفزيون المصرية بحيث يتم تحويلها إلي شخصيات كرتونية . وقتها جلست معه لأول مرة وتناقشنا وجمع بيني وبين استاذ مصطفي أبو جمر جلسات عمل كثيرة لنضع الخطوط العريضة للشخصيات وأفكار الحلقات حتى اكتملت 6 مواسم من المغامرات سواء كانت في الواقع أو سلسلة الخيال العلمي والمغرون الخمسة وآلة الزمن . اختار محمود سالم أعمار شخصيات أبطاله في منطقة تقع بين الطفولة المتأخرة والمراهقة من حيث العلاقات التي تربط المغامرين: أسس المؤلف وجودهم على علاقتي الأخوة والصداقة. من حيث الأسماء: وضع لهم علامات خاصة بهم.. فكل شخصية لها الاسم الذي يشير إليها في السياق الاجتماعي العام.. خصوصية المكان الذي يجمع الشخصيات للتفكير وتبادل الآراء وهو حديقة منزل عاطف التي سيرتبط بها القارئ معهم طوال السلسلة. أجمل ما في الألغاز أنها تعلمنا فن البحث عن الحقيقة.. تعلمنا أن خلف الواقع الذي نراه أسرارا تكتمها النفوس.. تختفي وراء ستار يكاد يكون محكما من الأكاذيب التي تنشر الضباب أمام العيون.. لكن الأرواح اليقظة لا تنقاد لخداع الحواس, إن في أعماقنا بصيرة فيها طاقة يسري منها شعاع قد يكون وحيدا لكنه صاف كاشف يخترق الظلام بإصرار حتى يصل إلى قلب الحقائق فنراها واضحة وكأننا عشنا هذه اللحظة التي يخفيها الشرير, ذاك البطل المضاد الذي ضللنا وخدعنا. إن المغامر رحال في فضاء مسكون بالأسرار والأشرار, وقدر الإنسان الذي منحه الله الذكاء الروحي والذهني أن يظل ساعيا من أجل الاكتشاف.. تلك هي الحياة في ألغاز محمود سالم.. في الكوخ المحترق والبيت الخفي والحقيبة السوداء واللص الشبح والفارس المقنع وملك الشطرنج والكلب ذو الرأسين وجاسوس السويس وعين السمكة والقفاز الأحمر والرسائل الغامضة والفهود السبعة. تلك هي المعادي التي احتضنت الأبطال الصغار الذين مازلنا نحبهم ربما أكثر مما أحببنا "مسيو بوارو" في عالم إجاثا كريستي المثير. ولد محمود سالم في الإسكندرية عام 1929، لأب يعمل ضابطًا بحريًا في خفر السواحل، ما أتاح له التنقل والعيش أثناء طفولته في عدة مدن ساحلية كالإسكندرية والمنزلة وبلطيم وغيرها، إلى أن حصل على شهادة الثانوية العامة متنقلاً بين المنصورة ودمياط وبني سويف. بعد حصوله على الثانوية العامة، انضم إلى الكلية الحربية، غير أن انضمامه إلى حركة «حدتو»، التي كانت إحدى المجموعات اليسارية السريّة في مصر، حال دون أن يستكمل دراسته فيها، رغم أنه لم يكن عضوًا ناشطًا في الحركة. انتقل «سالم» بعد ذلك إلى كلية الحقوق ثم كلية الآداب، ولكنه لم يستكمل دراسته إذ استغرقت القراءة العامة، بالإضافة إلى هوايته الأثيرة، صيد السمك، كل وقته، إلى أن ساعده أحد أقاربه وتوسّط لتعيينه موظفًا في وزارة الشؤون الاجتماعية. بدأت رحلته مع الصحافة عند تعرفه على الصحفيين صبري موسى، وجمال سليم، والد رسام الكاريكاتير عمرو سليم، اللذين كانا يعملان في مجلة «الرسالة الجديدة» التي كانت تصدر عن دار «التحرير». عمل بعد ذلك مراسلاً عسكريًا لصحيفة «الجمهورية» أثناء العدوان الثلاثي عام 1956، وبعد أن حقق نجاحًا في تغطيته الصحفية للحرب، استقال من وظيفته الحكومية وتفرغ للعمل الصحفي، حتى أصبح رئيسًا لقسم الحوادث في «الجمهورية» قبل أن ينتقل للعمل في دار الهلال. في مجلة «سمير»، التي تصدرها دار الهلال اكتشف محمود سالم موهبته في الكتابة للأطفال، وأصبح مسؤولاً عن تحرير المجلة، إلى أن غادرت نادية نشأت، رئيسة تحرير المجلة، دار الهلال لدى تأميمها عام 1961، لتنتقل إلى دار المعارف، وينتقل «سالم» إلى مجلة «الإذاعة والتليفزيون». عام 1968 اقترحت «نادية» على «سالم» إصدار سلسلة مغامرات شهرية للأطفال، فقام بتعريب سلسلة إنجليزية تُدعى «The Five»، تحكي عن خمسة أطفال يتعرضون لمغامرات ويحلون ألغازًا ويتعقبون لصوص ومجرمين، ليظهر «المغامرون الخمسة»، وهم خمسة أطفال مصريين (تختخ، محب، عاطف، نوسة، لوزة)، يعيشون في المعادي ويساعدون الشرطة في ضبط الجناة وحل الألغاز، للمرة الأولى عام 1968 في «لغز الكوخ المحترق». استمرت هذه السلسلة في الصدور شهريًا حتى عام 1972، إذ فُصل «سالم» من وظيفته لميوله الناصرية، ثم صدر قرار بمنعه عن الكتابة في مصر، لينتقل إلى بيروت، ويبدأ إصدار سلسلة «الشياطين ال13» التي تضم مغامرين من كل أنحاء الوطن العربي يتصدون لمؤامرات تقودها أجهزة مخابرات أجنبية تهدد سلامته. عاد «سالم» إلى مصر في ثمانينيات القرن الماضي، واستمرت سلسلة «الشياطين ال13» تصدر من القاهرة عن دار الهلال، حتى منتصف التسعينيات.