مشكلة الليبرالية في مصر أنه لايوجد ليبراليون بالمعني الاصطلاحي والواقعي للفكرة فهم ليبراليون في حدودهم وحيزهم الضيق وعند اللزوم وحتي نهاية ظلهم تحت الشمس، صدعوا رؤوسنا بدعوتهم للحرية والمساواة وهما الركيزتان الأساسيتان للفكر الليبرالي وكانوا أول من كفر بهما في الممارسة علي أرض الواقع، صنعوا خلطة مصرية لذلك الفكر فتحولوا إلي كائنات هلامية لاصلة لها بأي فكر، دعوتهم للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والإرادة الشعبية وحرية الاعتقاد، جاءت علي طريقة الاستحواذ وعدم القبول بالآخر لجهله أوعدم وعيه وأنهم الأفضل والأكثر فهما، فانعزلوا في أبراجهم العاجية، ولعل نتائج الاستفتاء الأخيرة تبرهن أن الشعب الذي راهنوا علي الكثير من أوجه النقص فيه كان أكثر وعيا بواقعه وظروف بلده من نخبته المتعالية. تناقضات من يدعون أنهم ليبراليون لاتعد ولاتحصي منذ ثورة 52 يناير خاصة أن هذا الفريق يضم مفكرين وخبراء وأساتذة جامعات وفقهاء دستوريين وإعلاميين أي أنهم علي درجة من الفكر والثقافة والوعي تتيح لهم فهم واقع بلدهم لكنهم ابتعدوا عن نبض الشارع وهموم المواطن ومعاناته وطموحاته فجاء أداؤهم رغم الضجيج الذي أحدثوه باهتا هزيلا وخسروا رصيدهم من قبول الناس لهم، راهنوا علي استمرار المؤسسة العسكرية في الحكم فخسروا الرهان، لم يعترفوا بنتائج صناديق الاقتراع بدءا باستفتاء 91 مارس من العام الماضي ومرورا بالانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة وصولا للاستفتاء الأخير رغم أنها بشهادات الداخل والخارج كانت نزيهة وشفافة وتعبيرا عن حرية وإرادة شعب باعتباره مصدر السلطات وأن له إرادته الحرة في الاختيار، لكنهم وبالتعاون مع قوي اليسار أفسدوا كل شيء عبر ساحات القضاء وشاشات الفضائيات والحشد في الميادين وصولا لاستخدام لغة العنف ونشر الفوضي بالتعاون مع من ينتمون للدولة العميقة باعتراف بعض رموزهم بذلك مؤخرا، أغلقوا أبواب الحوار رغم الأيدي الممدودة لهم فصاروا معارضة علي الورق ومعارضين بلا أحزاب حقيقية لها قواعدها الشعبية. والملاحظ أنه طوال فترة مابعد الثورة فإن الشعب والنخبة سارا في خطين متوازيين لايلتقيان وكل منهما عكس اتجاه الآخر، حدث هذا في الاستفتاء الأول ثم في الانتخابات، وأخيرا في استفتاء الدستور وذلك يدل علي أن النخبة إما أنها لم تفهم الشعب جيدا أو أنها لاتلقي بالا له وتستعلي عليه أو أن أفكارها وتوجهاتها لاتجد قبولا في الشارع، من هنا فإن تلك النخبة عليها أن تعيد حساباتها وتبحث عن أسباب عدم تمتعها بقبول شعبي والاقتناع بما تطرحه، فنتيجة الاستفتاء علي الدستور بنسبة تقترب من الثلثين رغم كل الاتهامات التي وجهتها النخبة للشعب رد عليها الأخير في الصندوق بأنه هو الآخر لايلقي بالا لتلك التهم لأنه يدرك جيدا أن تلك الدوامة التي تريد النخبة أن نظل فيها ستقود البلد إلي المجهول لينهار كل شيء وأن الاستقرار رغم ارتباطه في الماضي بالجمود وثبات الأوضاع السيئة للناس إلا أنه صار مطلبا شعبيا للخروج من تلك الدوامة. لقد تابعنا جميعا ممارسات النخبة وأقوالهم المتضاربة التي تضرب الليبرالية في مقتل، فالإرادة الشعبية لامكان لها في قاموسهم والسلطة الشرعية المنتخبة يرفضونها ويطرحون بديلهم الذي لايقنع أحدا وهو المجلس الرئاسي المدني وكأنهم صاروا أوصياء علي قرار الشعب، والتوافق أصبح أشبه بإدارة أسطوانة مشروخة لديهم لينسفوا قاعدة حكم الأغلبية التي تسير عليها كل الأنظمة الديمقراطية في العالم مع الحفاظ علي حرية الأقليات وحرية الاعتقاد والرأي بل والتهديد بعدم الاعتراف بأي قبول شعبي سواء في انتخابات أو استفتاءات، والأغرب تناقض مواقفهم تلك من القضاء فهو عندما تأتي أحكامه في صالح تيارهم فهو قضاء نزيه وعندما تأتي عكس ذلك يشككون في حياديته والموقف من قضية النائب العام السابق ومن قبلها تهريب المتهمين الأمريكيين في قضية التمويل المشبوه لمنظمات المجتمع المدني برهان علي تلك المواقف المرتبكة، والأكثر غرابة أن استقلال البلد ونزعه من قبضة التبعية الخارجية التي استمرت وتعمقت طوال العقود الزمنية الماضية وهي مسألة لايختلف عليها أي مواطن حر، نجد من بعض الرموز الليبرالية من يستعدي الخارج علي مصر ومن يطلب تدخله في الشأن الداخلي بحجة حماية مدنية الدولة، لأن نتائج أي استحقاق سياسي جري لم تأت في صالحهم! لقد ابتعد الليبراليون في مصر عن الكثير من الأسس التي تشكل جوهر الفكرة والحركة ومن أهمها الحرية والمساواة، حريتك فيما تعتقد وفقا لمنظومة القيم السائدة في كل مجتمع وأن يكون الجميع سواء أمام القانون واحترام الدستور والإرادة الشعبية وحماية كافة الحريات السياسية والمدنية وعدم فرض الوصاية علي الآخرين بأي صورة من الصور فأنت حر شريطة ألا تتجاوز حريتك مساحة حرية الآخرين، لكن مارأيناه من تلك النخبة الليبرالية لشهور مضت دلل علي انفلات صارخ في توجهاتها وحركتها وكأنها تحمل تفويضا من الشعب وذلك لم يحدث في يوم من الأيام. لقد قال الشعب كلمته الفاصلة والحاسمة في الاستفتاء علي الدستور رغم الحملات الشرسة في وسائل الإعلام والحشد في الشوارع والميادين والسعي للانقلاب علي الشرعية، وعلي الجميع من كافة الاتجاهات أن ينصاعوا لتلك الإرادة ويحترموا قرار الشعب وأن يبدأ الجميع في ترتيب أوراقه لخوض غمار الاستحقاق السياسي والشعبي القادم في الانتخابات البرلمانية التي ستتم في غضون شهرين لتستعيد مؤسسات الدولة وجودها وتأثيرها وإقالة الاقتصاد من عثراته وإعادة بناء مادمره النظام السابق في كافة مناحي الحياة، وعلي الذين تنادوا.. بخلاف الحقيقة.. أن الصراعات السياسية قسمت الوطن أن يعيدوا تقديرهم للأمور فليس كل خلاف سياسي لابد أن يقود بالضرورة للتقسيم إلا في أذهان مريضة بالوسواس القهري أو جنون العظمة أو الشيزوفرينيا!!