تناقلت الصحف ومواقع التواصل ما نشرته صحيفة »ديلي سكيب« الأمريكية، من تصريحات منسوبة إلي »هنري كيسنجر«، مستشار الأمن القومي الأمريكي، ووزير الخارجية الأسبق، البالغ من العمر 98 عاما. صحيح ان التصريحات تتسم بطابع استعلائي، استفزازي، يكشف عن تهديدات مباشرة سوف تحل بمصائر شعوب بلدان الشرق الأوسط ودولها، وصحيح أيضا أن شظايا التصريحات تطايرت بما تجسده خروجا عن حدود التعامل الدولي وقوانينه، فاستنفرت غضبا واسعا ضدها، لكن الصحيح كذلك ان الصحيفة الناشرة للتصريحات، تصنف علي أنها صحيفة ساخرة، وفقا لدلالة اسمها، ومن أبرز ملامح تحريرها أنها تطرح انتقادات لقضايا تصاغ وفقا لمفهوم السخرية وأساليبها، تستهدف اثارة النفور والغضب، لكن ذلك لم يعف التصريحات من التصدي لها، تعبيرا عن الغضب العام لشعوب المنطقة في مواجهتها، وإن كانت الاستجابة الغاضبة تعني نجاح الصحيفة في اثارة الغضب، بوصفه هدفا من أهداف السخرية. لا خلاف أنه مهما كانت آليات انتاج التصريحات، وأيا ما كان مصدرها الحقيقي، فإن منطلقاتها تتجاوز آليات صناعتها وصياغتها ومصدرها، إلي الدلالة الأبعد لتلك التصريحات التي تعني ان الولاياتالمتحدةالأمريكية هي الشرعية العليا المحددة لمشروعية ما دونها؛ وتنتزع من غيرها مشروعيته وحقوقه، بمعني ان القوة الأمريكية أصبحت بديلا للشرعية وهو الأمر المثير للغضب. عندما يطلع القارئ علي التصريحات لفك شفراتها، يكتشف انه ليس فيها مسكوت عنه، حيث كل الأهداف عارية ومصرح بها، يحكمها تفكير حدي واحد قاطع، يؤكد البنية السلطوية لجموح الاستبداد وغطرسته، متجليا فيما صرح به »كيسنجر« بقوله: »سيطر علي النفط، ستسيطر علي الدول، سيطر علي الغذاء، ستسيطر علي الناس«. ولأن هذه السيطرة تموت أو تحيا بحضور أدواتها أو غيابها، لذا صرح »كيسنجر« ان »لدي الولاياتالمتحدة أفضل الأسلحة، لدينا الأشياء التي لا تملكها دول أخري، وسنقوم بعرض هذه الأسلحة علي العالم عندما يحين الوقت المناسب«. بعد كشفه عن القوة الأمريكية المفرطة، يستطرد ليعلن فعليا برهان موت النظام الدولي وسقوط قانونه؛ من خلال افصاحه العلني بلا مواربة عن الأهداف المدرجة للتنفيذ، إذ يعترف: »أبلغنا العسكريين ان علينا السيطرة علي سبع دول من الشرق الأوسط لمواردها، وهم قريبون من تحقيق عملهم بالكامل«. ولأنه لابد من ترسيخ صدي سياسي ونفسي لتلك القوة المفرطة في نفوس مواطني بلدان الشرق الأوسط؛ لذا يتحول »كيسنجر« ناصحا لهم من هجمة الحرب المكثفة، واستعصاءات تداعياتها، فيخاطبهم محذرا: »إذ كنت إنسانا عاديا فعليك أن تتهيأ للحرب، بأن تنتقل إلي الريف لتعيش في مزرعة، لكن يجب عليك أن تأخذ معك الأسلحة، إذ ستكون هناك جحافل من الجياع، وأيضا سيكون علي النخبة الذين لديهم ملاذات آمنة محمية، أن يأخذوا حذرهم مثل السكان العاديين؛ لأنه من الممكن أن تكتشف ملاذاتهم الآمنة«. ويستمر »كيسنجر« في تلقين شعوب الشرق الأوسط استيعابهم لحالة عجزهم أمام القوة الأمريكية المتفردة عالميا، فيصرح: »ان الولاياتالمتحدة متقدمة علي الصين وروسيا. إننا قد سمحنا للصين أن تطور قدراتها العسكرية، وسمحنا لروسيا أن تتعافي من الحكم السوفيتي، في ظل شعور كاذب صدرناه إليهما بمدي الخوف والرعب منهما، وذلك ما سيسرع بزوالهما«. ويعاود »كيسنجر« الكشف عن المرتقب، مقررا ان »ايران ستكون آخر مسمار يدق في النعش، بوصفها هدفا أساسيا لإسرائيل، وأن الدب الروسي، والمنجل الصيني ستذهب عنهما الغفوة، عندما تقاتل إسرائيل بكل عتادها، فتقتل ما تستطيع من العرب، وإذا ما سارت الأمور علي ما يرام، سيكون نصف الشرق الأوسط إسرائيليا«. لقد برر يوما »فوكوياما« مغامرة تعمد اثارة حرب جديدة، بأنها محض خروج من الملل، اذ لابد من الدفع باتجاه الاشتياق إلي القوة والعظمة. وتأتي التصريحات المنسوبة إلي »كيسنجر« وكأنها تناسلت من فكرته، حيث يؤكد بثقة: »إن الحرب القادمة لن تبقي سوي قوة عظمي واحدة، هي التي ستربح الحرب، وهذه القوة هي نحن أيها الناس. لقد كنت أحلم بهذه اللحظة المبهجة. إننا من بين الرماد، سنبني قوة عظمي واحدة فقط، وستكون هي الحاكمة للعالم«. إن صياغة هذه التصريحات جري تحريرها، انطلاقا من منظور نقدي ساخر، استهدف فضح نظام الشخصانية الأمريكية التي تبغي حكم العالم منفردة، بوصفها القوة العظمي الأقوي. ولأن القوة لا تصبح سلطة إلا حين تتحرك في صدام يؤكدها؛ لذا جاءت التصريحات كاشفة لكل المقاصد المستترة، تحريضا، واثارة، وحروبا، واستباحة لمرجعية سيادة الدول التي تجسد سيادة شعوبها، وقد تجلت علي لسان »هنري كيسنجر«، أحد العرابين من صناع كوارث سياسة الهيمنة، إذ مازالت يداه مخضبتين بدماء جرائمه البشعة، من ابادات جماعية، وحروب مصطنعة، واغتيالات لحكام وطنيين، وانقلابات علي أنظمة شرعية. صحيح أنهم حاولوا غسل عاره فمنحوه جائزة نوبل للسلام، لكن الجوائز لا تمحو كبريات الخطايا، إذ سقطت جائزته أمام التاريخ الذي تجلي علي سبيل المثال في كتاب »محاكمة هنري كيسنجر«، الصادر عام 1002، للكاتب »كرستفر هتشنر«، متناولا جرائمه كافة بالوثائق النادرة، وصحيح أيضا انه لم يحاكم، لكن الصحيح كذلك أن الولاياتالمتحدة لا تمتثل لنصائح مفكريها الكثر، الذين يطالبونها »أن تمارس قوتها بأسلوب منضبط يمكن التنبؤ به، بحيث تنفي عنها تهمة النزوع إلي الهيمنة«. أتراها ستستجيب يوما؟