د. فوزى فهمى عندما تتسع مسافات الانفصال بين نظام حكم ديمقراطي، ومجتمعه بالقطيعة مع حقوق أفراده وتعطيلها، ولا يصبح أحدهما مرجعاً للآخر، خروجاً عن شروط الديمقراطية وقيمها، عندئذ تواجه الديمقراطية أخطر مآزق عجزها، وذلك ما يعني تحديداً غياب الديمقراطية لغياب قيمتها، ويعني بالتأكيد غياب المجتمع المدني أو محاولة تغييبه، وهو ما يعني افتقار المجتمع الي كل الآليات، والحقول، والمجالات التي تعزز حرية الاشتغال الطوعي للمواطنين علي قضايا المجتمع، بممارسة طرح الرؤي والنقاش، والمراقبة الإيجابية - المشروطة بالوعي - لمسارات الأحداث والقرارات والسياسات، والكشف عن مآلها المنظور إن »فرانك آدلوف« - أستاذ علم الاجتماع بجامعة برلين - في كتابه »المجتمع المدني - النظرية والتطبيق السياسي«، الصادر عام 5002، قد رصد انه في السنوات الأخيرة جري تشخيص »عجز ديمقراطي« ما في أوروبا الموحدة، يؤكد اطراد ازدياده وتبدت النصيحة الغالبة التي طرحت لمواجهة ذلك العجز الديمقراطي في ضرورة تقوية خارطة المجتمع المدني الأوروبي، إذ في اطار مجتمع مدني أوروبي عابر للقوميات، يمكن - فقط - بناء هوية أوروبية تجعل قرار الأغلبية أمراً مقبولاً داخل الاتحاد الأوروبي، وخاصة في شأن الترويض، والتسييج الديمقراطي للتوسع المتسارع لإجراءات العولمة الاقتصادية التي تنفذه حكومات منحازة الي حكم الأقليات المالية، حيث تؤخذ قرارات تلك الإجراءات في أماكن أخري دون أن يكون للمواطنين أي تأثير في اتخاذها، ويفرض عليهم تنفيذها، وذاك ما يمثل لهم إرغاماً مشمولاً بالخسارات، وغياباً للإنصاف والعدالة ولأن المجتمعات المدنية الأوروبية مازالت محصورة داخل دولها القومية، لذا فإن الحال تستوجب شبكة مباشرة للمنظمات الأوروبية، وللرأي العام الأوروبي، سيكون لها التأثير الداعم بتشييد مجتمع مدني أوروبي تضامني مع واجبات وحقوق جماعية. أفصح الكاتب عن أن مشروع المجتمع المدني الأوروبي العابر للقوميات في مواجهته للعجز الديمقراطي، وتداعيات أزماته المدمرة اجتماعياً واقتصادياً الوثيقة الصلة بالعولمة، يستهدف أمرين، أولهما: إعادة اكتساب قدرة الفعل السياسية في مجال العولمة الاقتصادية، وثانيهما: بناء قوة سياسية موازية للتطلعات الأحادية للولايات المتحدة، إذا يؤكد الكاتب أن المجتمع المدني يعد المجال النشط، الذي يحقق فيه المواطنون دورهم كمواطنين، حيث من خلاله يتشابكون أفقياً، ويعملون تضامنياً، يمارسون الموافقة علي المجال السياسي، أو يحتجون عليه، إدراكاً منهم أنهم المنتجون للقوانين التي تحكمهم بوصفهم مواطنين لذا احتفي الكاتب بالوهج المبهر لاحتجاجات المتظاهرين ضد إجراءات العولمة الاقتصادية، المنطلقة بوعي جماعي كمواجهات إدانة غير مهادنة، لا تخدعها مداورات الحكومات، إذ بدأت عام 9991 في سياتل، وفي براغ 0002، وفي جنوا 1002 وامتدت من بعد ذلك زمنياً ومتوالية عبر مدن العالم، تشير الي تشابك قوي المجتمع المدني علي المستوي الدولي في مقاومة الحكومات، وتصديها للشركات العابرة للقارات المتخصصة في نهب الخيرات. إن ظاهرة تشابك قوي المجتمع المدني علي المستوي الدولي، قد استوقفت أيضا »نورينا هريتس«، التي تعمل بجامعة كيمبردج بإنجلترا، إذ في كتابها الصادر عام 2002 بعنوان »السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية«، الذي يوثق علمياً للسيطرة الصامتة للعولمة علي المجتمعات وخيراتها، عن طريق الشركات العابرة للقارات، التي تلقي جانباً بالعدالة والإنصاف، والحقوق، والبيئة، وحتي قضايا الأمن الوطني، تؤكد الكاتبة في رصدها أنه بينما كانت قوة الحكومات تذوب، وتفقد استقلالها، وتتسلم الشركات السيطرة الدائمة، إذ بحركة سياسية جديدة بدأت في البروز، امتدت جذورها في الاحتجاجات التي لم تكن هناك حدود جغرافية تقيد دعاتها، الذين يصل عددهم الي مليون عضو من منظمات المجتمع المدني غير الحكومية بالاضافة الي مجموعات تضم نوعيات مختلفة من أناس عاديين، حيث اختاروا الشارع للإعلان عن احتجاجاتهم، أو الانترنت، أو الأسواق الكبيرة تناولت الكاتبة تلك الاحتجاجات تفصيلاً في جميع بلدان العالم التي تصدت لحكوماتها لانصياعها لإرادة الشركات التي غدت تمارس السياسة صراحة، حيث اعتمد السياسيون علي الشركات الكبيرة لتمويل حملاتهم، وتوفير الوظائف التي يحتاجون اليها لكسب الانتخابات، وأصبح الناس متباعدين بشكل مطرد عن السياسيين، كما ان السياسيين أظهروا أنهم أيضاً فقدوا الاتصال بالجمهور الانتخابي وفي سياق هذه التناقضات التي ترصدها الكاتبة، مازال الناس يوهمون من حكامهم أنهم يعيشون في نظام ديمقراطي، وإن كان يصعب - حقيقة - اصطناع أي تطابق بينهما، إذ تفككت أسس الديمقراطية، وانقضي وجودها، لذا فإن الكاتبة تبلور دلالة تلك الأوضاع فيما أسمته أيضاً ب »العجز الديمقراطي«، الذي يتحول بسرعة الي شرخ ديمقراطي، حيث يبرز الاحتجاج سبيلاً وحيداً للأصوات الأخري لكي تسمع تري هل في تشخيص الكاتبة ثمة حديث عن عبور ممكن في مواجهة هذه التناقضات التي غيبت الديمقراطية؟ صحيح ان الكاتبة تجيب بأن هذه الاحتجاجات تعطي قوة للناس الذين من دونها لم يكن لديهم مصدر مساعدة، وأنها تجعل الديمقراطية أكثر مباشرة، وتضعها في أيدي الناس، لكن الصحيح كذلك ان الكاتبة تعود لتسأل: هل يستطيع الاحتجاج أن يضغط علي الحكومات، ويجعلها تضع مصالح الشعب أولا؟ هل يستطيع ان يجبر السياسيين علي العودة الي الديمقراطية الحقة؟ هل سيعمل علي إعادة تأسيس الحكومة كندوة ديمقراطية؟ هل يستطيع الاحتجاج أن يعيد ابتكار الدولة؟ هل تعني أسئلة الكاتبة أنها مسار العبور الممكن؟