الديمقراطية حاضرة تشغل الناس في كل زمن، مهما اختلفت اصطلاحات التعبير عنها بين المصطلح الحديث ومصطلحات الغابرين . وقد عنَّ لمجلة الهلال من نحو قرن إلاَّ قليلاً، أن تخصص عددًا في ديسمبر 1941 إبان الحرب العالمية الثانية، لاستطلاع رأي أدباء ومفكري الجيل الماضي في الديمقراطية . طه حسين كتب الدكتور طه حسين البك آنذاك عن مستقبل الديمقراطية مستهلاًّ مقالته الافتتاحية بمقولة » الطغرائي » التي أطلقها من قرون : » ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل »، ليبدي أنه ليس علي الحضارة الإنسانية خطر حقيقي من هذه الحرب رغم أهوالها، لأنه يثق في أن الديمقراطية هي خير ما عرف الناس من نظم الحكم، وأن الديمقراطية سوف تخرج ظافرة من هذه الحرب، ولا مدعاة للتشاؤم من أن الإنسانية لم تتعظ بالحرب العالمية الأولي فوقعت الثانية . فلغة الأمل باقية طالما لم يطلق الإنسان لنفسه العنان في الأوهام المغالية، واقتصد في الأمل واقتصد في الرجاء . وأن حوادث التاريخ صادقة فيما أنبأتنا به من أن الإنسان يخرج في النهاية ظافرًا ينتفع دائمًا بالحوادث التي مرت . بهي الدين بركات ولكن الدكتور بهي الدين بركات الباشا آنذاك لم يترك قياده للأحلام التي أخذت الدكتور طه حسين، ونري الآن أن حوادث الحاضر لا تتمشي مع هذا التفاؤل الصرف، فغابت الديمقراطية في الحكم الشمولي الذي غلب في منطقتنا العربية حتي صارت أوطانها لقمة سائغة تلتهمها إسرائيل بمباركة أمريكية يومًا بعد يوم، وقطعة وراء قطعة .. معظم فلسطين في البداية، ثم القدس أولي القبلتين وثاني الحرمين، ثم ها هي هضبة الجولان، ولعل الضفة الغربية في الطريق ! لم يستسلم الدكتور بهي الدين بركات للأحلام، واكتفي بتقرير أن النظام الديمقراطي أصلح وأرقي النظم لحكم الشعوب، وأن البشرية ترنو دوامًا إليه ليكون حكم الشعب لنفسه بنفسه بعد أن أمدته الأديان جميعًا بموروث عريض في تحرير الناس من قيود الرق، وتحطيم سلطان الوثنية، وإنكار ألوهية الفرد، وكفالة حرية الإنسان . عباس العقاد أما الأستاذ عباس العقاد، فأجاب عن سؤال : لماذا هو ديمقراطي ؟ .. ليغوص كعادته إلي الأعماق، فيرجع إلي ما تمرس به من أيام الطفولة، ثم ما تراكم من تضاعيف الحياة، فمال بفطرته إلي الحرية، وزادته ممارسة الكتابة وعنايته بالبحث والدراسة، زادته حبًّا أعمق للحرية، واقتناعًا بأنها لازمة للباحث كحاجة الطائر إلي الفضاء، ومن ثم كان حبه للديمقراطية، ولكنه حب العارف بمحاسنها وعيوبها أيضًا . إلاَّ أنه إذا كانت الحرية الديمقراطية ثوبًا واسعًا علي بعض الأمم، فإن ثوب الاستبداد أوالسلطان المطلق ثوب واسع علي كل حاكم .. وأنه لا يوجد الفرد الذي يستحق أن تلغي من أجله حرية عشرين أوثلاثين أوأربعين مليونًا من البشر ! تعدد الكتابات والإسهامات في ذلك العدد الضافي لمجلة الهلال الصادر من نيف وثلاثة أرباع قرن، كتب صفوة المفكرين والأدباء والكتاب، فكتب الأستاذ فريد وجدي عن الإسلام والديمقراطية، والدكتور محمد عوض محمد عن الديمقراطية بين الشعوب، والأستاذ سامي الجريديني عن الديمقراطية الإنجليزية وأغراضها، والدكتور أمير بقطر عن الثقافة بين الديمقراطية والدكتاتورية، والأستاذ عبد العزيز البشري عن ديمقراطية عمر بن الخطاب، والأستاذ محمد عبد الله عنان عن مكانة الأقطار العربية في الحرب الحاضرة ( الحرب العالمية الثانية )، والأستاذ علي أدهم عن قوام الديمقراطية، والدكتور محمود عزمي عن البلاد العربية الحليفة الطبيعية لدول ديمقراطية، والدكتور أحمد محمد إبراهيم عن وحدة التقاليد الديمقراطية، والأستاذ زكي طليمات عن المسرح والديمقراطية، والأستاذ حبيب جاماتي عن العرب في أمريكا الديمقراطية، وتضمن العدد مقالاً عن الديمقراطية للفقيدة ميّ زيادة، ومقالات لآخرين مصريين وغير مصريين ازدان بهم هذا العدد الضافي من أعداد مجلة الهلال . السنهوري والديمقراطية لم يختلف أحد حول قيمة وقامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري في الفكر والقانون، وأقر له الجميع بريادة قانونية رفيعة ليس لها مثيل . ولكن اختلف البعض حول دوره السياسي تحديدًا في السنتين الأوليين لثورة يوليو1952، فتعرض لظنون بل وتجنيات داخلتها السياسة، لتحسب عليه وسليمان حافظ تأييدهما للثورة ودعمهما إيّاها بإمكانياتهما وعلمهما القانوني، وشمت البعض في أن الثورة التي دعمها السنهوري نكلت به ودبرت الاعتداء الغاشم عليه بسراي مجلس الدولة الذي يترأسه في يوم 29 مارس 1954 . وأبعد الناقدون والشامتون، فحسبوا انضمامه سلفًا للهيئة السعدية وليس الوفد معاداةً للديمقراطية، وفات هؤلاء وأولاء أنه طرأ علي الوفد ما دعا كثيرين للخروج منه، لم يكن أولها خروج ماهر والنقراشي ومعهما فصيل كبير سنة 1937 وتكوينهما الهيئة السعدية سنة 1938، وخروج عبد الرحمن فهمي أيقونة ثورة 1919 وقائدها الميداني من الوفد، وسبق هذا وتلاه انشقاقات، لم تكن انقلابًا علي الديمقراطية، وإنما اعتراضًا علي ما طرأ علي سياسة الوفد، حتي ظهرت الطليعة الوفدية وعلي رأسها عزيز فهمي وإبراهيم طلعت وغيرهما، وليس ببعيد الانشقاق التالي للأستاذ مكرم عبيد الذي ألّف الكتلة الوفدية . كان لاختلاف السنهوري مع الوفد، أسباب عديدة يطول فيها الحديث، وهي ليست موضوعنا الآن .. انحياز السنهوري للديمقراطية واضح في أوراقه الشخصية التي كان يكتب فيها خواطره لنفسه لا للنشر، وبعيدة من ثم عن مظنة التورية أوالاستعراض، فنراه يكتب في أغسطس 1954 : » الحرية كالصحة من أكبر نعم الله، وأن الإنسان لا يقدرها حق قدرها إلاَّ بعد أن تزول » ! ويكتب متعجبًا من الدكتاتورية، ساخرًا ممن يحوّلون الأمة إلي » قوالب » تنظر بعين واحدة وتسمع بأذن واحدة وتتكلم جميعها بلسان واحد !!! ويطول الحديث فيما ورد من تأييد للديمقراطية في أوراق الأستاذ السنهوري الشخصية، أما في مجلس الدولة، فقد سجل صفحات ناصعة، تجلي فيها إيمانه بالديمقراطية وحق الشعب إزاء الحكم والحكام، وأدي دورًا رائعًا إبان رئاسته لمجلس الدولة، سواء فيما أصدره من أحكام، أوالتي أصدرتها دوائر المجلس في عهده . لم يكن السنهوري مجرد قانوني كبير أومفكر مرموق، وإنما كان معنيًّا بشئون الوطن، منحازًا للديمقراطية، ومناضلاً من أجل ما يعتقد أنه الحق والصواب . صار مجلس الدولة في عهده حصنًا حصينًا للحريات، وملجأً آمنًا للمواطنين مما عساه يلحق بأيّهم من عسف السلطة، وتواترت أحكامه التي تؤكد علي مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة أمام القانون وصون الحريات الشخصية . صار السنهوري بطلاً قوميًّا لدي الشعب، واشتد عليه غضب القصر الملكي وأعوان الاستبداد، وحينما تصدي لقرارات مصادرة الصحف ولم يتردد في إلغائها، إستشاط غضب الملك، وأصدر في سبتمبر أمرًا إلي الحكومة الوفدية التي كان يرأسها مصطفي النحاس بأن تصدر مرسومًا بإلغاء مجلس الدولة، وكادت الحكومة تنصاع للرغبة الملكية لولا المعارضة القوية التي واجهتها من بعض وزرائها . لم يكن غريبًا هذا الموقف الذي عاناه قبل 1952، ولكن الغريب أن يهاجم في عهد الثورة، في سنة 1954، ويتعرض لاعتداء جسدي غاشم بمقر المجلس ! يطول الحديث في أوراق السنهوري الشخصية، وفي دوره في مجلس الدولة، ولكن الذي لا يقع عليه خلاف، أن الاعتداء الجسدي الغاشم الذي وقع عليه في مجلس الدولة في ذلك اليوم المشئوم، ونداء الدهماء : » يسقط السنهوري الجاهل » هو آية الآيات علي ما يمكن أن تنزلق إليه النظم السياسية حين تغيب عنها الديمقراطية !