للإسلام ككل دين مجموعة من الفروض والأوامر والنواهي، وإنْ اختلفت بين الأديان، وللإسلام قوة روحية دافقة جاذبة، تميز بها الإسلام، ومثلث مع الفروض ما يشد المؤمنين إلي الله والحق والخير والكمال والجمال. أميز ما في الإسلام هو هذا الاتجاه إلي الله ونحو الحق والخير، والتفطن إلي نور الله في الآدميين . وهم حين يرونه بنوره فيهم، لا يحتاجون بعد ذلك إلي استدلال أو برهان ووعظ. علي أن الناس في غمرة أهوائها ومطامعها ومخاوفها وانطفاء روحها، لا تعبد الله تعالي إلاَّ علي المجاز الذي يسعه فضل الله سبحانه. والدين الحي وسيلة إلهية تحشد أشواقنا وطاقتنا وتقويها عسي أن تبلغ من الحرارة فيما يقول أستاذنا محمد عبد الله محمد في معالم التقريب، ومن العمق والاتساع ما تنفتح له مغاليق النفس لتنهل من فيوض رحمته عز وجل. بيد أننا لم نعد نشعر فيما يقول بقيمة الفضيلة والصدق، والإخلاص والأخلاق، ونشدان الحقيقة إلاَّ في أوقات الشدة والصعوبات والأزمات، فإذا شملنا الرخاء انصرفنا عن الإحساس العميق الصادق بالاحتياج إلي الله، ونسيناه سبحانه وتعالي مثلما ننسي الناس! الدين والاتجاه إلي الله، ليس حزبًا ولا رابطة ندخل إليها ونخرج منها، متي شئنا، وليس مصلحة تجري وراءها أهواؤنا ورغائبنا وأطماعنا. أهم ما في الإسلام هو الإيمان القوي المتين بالله، هذا الإيمان ليس محض فكرة أو نظرية، وإنما هو إحساس داخلي صادق وعميق، ووعي بالخالق البارئ جل شأنه، والتسليم إليه. يقول لنا المولي عز وجل: »كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَن شَاء ذَكَرَهُ » (عبس 11، 12). »لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ» (القمر 40). »ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَي ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَي اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ» (الزمر 23). »وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ» (الرعد 13). »إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَي جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» (السجدة 15، 16 ). هذه وغيرها من آيات القرآن الكريم، توقظ العقل والضمير.. وتتداعي إلي الوجدان بالتشابه والتذكر. يقول أستاذنا محمد عبد الله محمد في معالم التقريب: »نعم. الإيمان ثقة وليس علمًا أو معرفة مما يعلمه العقل أو يتعلمه.. إنه شيء خلف العقل وخلف الإرادة يقويهما في اتجاه معين.. والإيمان لا يجعل المستقبل حاضرًا، ولا يوقع صاحبه في حالة غيبوبة ينسي فيها دوافعه وتوالي أحداثه المؤلمة وغير المؤلمة.. وهو لا يحول الحياة إلي تمثيلية معروفة الخاتمة أو النتيجة مقدمًا.. ومع أنه لا يضمن سلامة البدن وراحة البال ولا عدم انشغال القلب ولكنه يضمن سلامة الإرادة والتصميم والوثوق الهائل في صحة الاتجاه. الإيمان الذي يومئ إليه محمد عبد الله محمد هو أن يمنح الإنسان ثقته كاملة.. بلا شرط ولا تحفظ. وهذا يستوجب أن نكون قادرين علي الاعجاب الشديد والاحترام الشديد والحب الشديد.. قادرين علي أن نملأ بكل ذلك أفقنا». العقيدة اعتناق جاد وليست مجرد كلام وألفاظ، وهذا الاعتناق الجاد يمتزج بشخصية المؤمن وبحياته وسلوكه الجاد. والشيء الجوهري في الإسلام، هو الإرادة والعزم المستمدان من هذه العقيدة، وما يبني عليه الإنسان موقفه إزاء الله عز وجل بصدق ومتانة وإخلاص.. ولا مراء في أن القرآن الحكيم، وما حواه، جزء أساسي في إنشاء هذا الموقف، وتكوين الإرادة والعزم. هذا وموالاة الله عز وجل، بالاتجاه إليه، لا ينطلق من خلفية فكرية نظرية في الإسلام، بل هي الخلفية الحتمية التلقائية لنور الله في الآدميين، ولنسيج المسلم وعقيدته في الإسلام، واتجاهه إلي الله رب العالمين. ولا يماري أحد في أنه نشأ علي هامش الإسلام، شروح الفقهاء وما أنتجوه من فقه، ولكنه فقه بشري لا يحل محل الإلهي، يعطينا الإرشاد ولكنه لا يحل لدينا ولا يجوز أن يحل محل الدين، فالدين إلهي، والفقه بشري. الإسلام حياة موالية لله في اتجاه الله، وكفي به سبحانه وتعالي هاديًا ونصيرًا. والدين قطعة من الحياة، يثري ويغتني من الانفاق في سبيل الله، لا من انفاق الحياة.. صحة العقيدة هي حياتها وحياة المؤمنين بها. وعلاقتنا بالله عز وجل، وبما أنزل إلينا، هدي إلهي.. جاء من الله سبحانه، وهو غيب لا نعرف منه إلاَّ ما عرفنا به في قرآنه المجيد وما عرفنا به رسوله عليه الصلاة والسلام. هذه العلاقة النابعة من العقيدة، حضورٌ دائم ينبغي للمؤمن ألا يغفل عن الالتفات إليه. والشواغل التي تشغلنا عن الله عز وجل، تبعد التفاتنا إليه سبحانه، وتؤدي بنا إلي العمل والسعي بمعزل عن هذا الالتفات لوجود الله تعالي وحضوره. إن الالتفات إلي الله عز وجل لا يلغي القوانين الاجتماعية الطبيعية ولا يتجاهلها.. والالتفات إلي هذه القوانين في ذاتها لا يغني عن الالتفات إلي الله تبارك وتعالي. دون هذا الاتجاه إلي الله، تنحبس أرواحنا وتنطفئ نفوسنا وتخبو. وهذه الطاقة الروحية، ينتسب إليها أصل وتطور كل علم وفن وفكر وابتكار.. بمعونة هذه الطاقة الروحية اكتشف الإنسان معظم ما وصل إليه من قوانين ونواميس، وإليها وعليها ينعقد الأمل في اكتشاف ما يستطيع اكتشافه من باقي أسرار هذا الكون العظيم المعجز للأفهام. ولو تأملنا لوجدنا كل ظواهر الكون، تمضي في فلكها المرسوم وتؤدي دورها، دون أن تعي أو تدرك معني هذا النظام المحكم الذي أبدعه الله، ودورها فيه. ولا يعرف ذلك إلاَّ خالقها سبحانه الذي خلقها وأبدعها علي أكمل وأدق وجه. إن ذكاء وتطلع الإنسان، هو الذي يدفعه إلي محاولاته التي لا تكف لإدراك ما يدور حوله، والانتفاع به. بيد أنه لا غناء في هذا كله عن الاتصال بالحق عز وجل، اتصال العبد بالمعبود، وبالعليم الخبير الحكيم الأعلي.. سبحانه، ليس كمثله شيء، وهو العزيز الحكيم.