يواصل الرئيس الأمريكي سياساته الخارجية التي تتسم بالتضارب في كل القضايا.. بدءاً من كوريا الشمالية وحتي العلاقة مع الحلفاء في أوروبا أو المنافسين وعلي رأسهم الصين. لكن والحق يقال فإن الرجل يبدو واضحاً كل الوضوح في كل ما يتعلق بقضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي. ربما لأن سياساته حتي الآن تجاه هذه القضية ليست إلا انعكاساً للسياسة الإسرائيلية، وتحقيقا لمصالحها وحدها!! قبل القرار الكارثي بشأن القدس.. كنا أمام طريق واضح »لكل من يريد أن يري!!» يقول إن إدارة ترامب تتبني بشكل كامل كل سياسات اليمين الإسرائيلي العنصري وحكومة نتنياهو التي تمثل هذا اليمين بصدق كامل!! لم يكن اختيار الرئيس الأمريكي لصهره »كوشنير» لإدارة ملف الصراع العربي الإسرائيلي إلا خطوة أولي علي هذا الطريق. وبصرف النظر عن يهودية الرجل، فإنه مثل كل عائلته صهيوني متشدد يساهم مع أسرته منذ زمن في »التبرع» لدعم بناء المستوطنات!! ولم يكن اختيار ترامب لصديقه المليونير »ديفيد فريدمان» سفيرا لبلاده لدي الكيان الصهيوني إلا خطوة أخري تؤكد هذا المسار الجديد للسياسة الأمريكية. فالرجل صهيوني متعصب لا يخفي انحيازه الكامل لإسرائيل ودفاعه المستميت عن كل جرائمها. والرجل لم يراع حتي أنه قد أصبح »دبلوماسيا» فأعلن في العام الماضي استغرابه الشديد من الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية. مؤكداً أنه لا يوجد احتلال. وهو ما يعني أن الضفة »في رأيه» هي جزء من الكيان الصهيوني!! صحيح أن الخارجية الأمريكية حاولت يومها التنصل من هذه التصريحات، لكن الرجل بقي في منصبه، وظل علي نفس الطريق فأكد بعد ذلك أن المستوطنين سوف يبقون في مواقعهم في الأرض الفلسطينيةالمحتلة »!!» وواصل العمل لنقل السفارة إلي القدس، ووقف في ذكري النكبة يحتفل بالجريمة الجديدة التي نقلت الصراع إلي مرحلة جديدة لا يعلم إلا الله إلي أين تنتهي!! وقبل أمام كان السفير الأمريكي يسير خطوة أخري في الطريق الكارثي الذي تسير فيه السياسة الأمريكية في المنطقة. وقف السفير المعتز بصهيونيته يتسلم صورة مزورة للقدس العربية أزيلت منها قبة الصخرة المشرفة، ووضع مكانها الهيكل اليهودي المزعوم!!.. وكالعادة، كان التبرير جاهزاً.. بأن السفير لم ينتبه إلي التزوير، ولم يدرك أن قبة الصخرة غير موجودة، وأنه كان مثل الأطرش في الزفة، وهو يقف بين غلاة المتطرفين الصهاينة وهو يزور معهدهم الديني ويقدم دعمه ودعم بلاده لتطرفهم!! بالنسبة لأي عاقل.. لا شيء من ذلك يحدث بالصدفة. لايمكن لسفير الدولة الأقوي في العالم »حتي الآن!!» أن يقدم علي ذلك بالصدفه وحدها، بعد أيام من نقل السفارة إلي القدس، ومع المذبحة التي ارتكبتها إسرائيل بقتل الفلسطينيين من المتظاهرين السلميين في ذكري النكبة!! ولا يمكن أن يذهب الرجل إلي معقل المتطرفين اليهود ليحتفل معهم بخطوة ترامب لاغتصاب القدس، بدلاً من أن يكرس جهوده لتخفيف التوتر، ثم يقال إن خطأ الرجل يعود للجهل، وليس لصهيونيته وعدائه للعرب!! ولا يمكن أن تكون مصادفة أن يحدث ذلك من السفير الأمريكي المتصهين، في وقت يتم فيه تسريب الأنباء عن قرب إعلان الرئيس الأمريكي ترامب لخطته لحل الصراع العربي الإسرائيلي والتي أطلقوا عليها »صفقة القرن» وسماها الرئيس الفلسطيني أبومازن »صفعة القرن» بعد أن عرضوا عليه بعض خيوطها الأساسية التي يقال إنها خضعت بعد ذلك للتعديل!! ليس في الأمر مصادفة، وليس السفير الأمريكي بهذا »الهبل» الذي يقال عنه لتبرير ما فعل. وليس الإسرائيليون الذين قدموا له صورة القدس العربية بغير قبة الصخرة المشرفة أغبياء ليورطوا السفير الأقرب لهم فيما لا يرضاه، أو ما يغضب حكومته.. حتي لو غضب العالم كله!! القصة كلها تتركز علي ممارسة أقسي الضغوط علي الفلسطينيين حتي يقبلوا أي شيء ينقذهم من الموت برصاص الصهاينة أو بالجوع من الحصار الإسرائيلي. وأن يوافقوا علي أن »القدس» قد أصبحت خارج طاولة التفاوض كما يقول ترامب، وأن قضية »اللاجئين والعودة» لابد أن تلحق بقضية القدس وتصبح هي الأخري خارج التفاوض. رهان الإدارة الأمريكية أن العرب في اضعف حالاتهم، وأنهم لايملكون إلا بعض صيحات الاحتجاج ثم القبول بالأمر الواقع، ورهان الإدارة الأمريكية أن »نكبة» الانقسام الفلسطيني تهدر كل تضحيات شعب فلسطين، وتمهد الطريق لفرض المخطط الإسرائيلي الذي تتبناه الإدارة الأمريكية، والتي تواصل خطوات تنفيذه حتي تكون »صفقة القرن» الموعودة، مجرد إعلان بتصفية القضية الفلسطينية!! لكن ذلك كله لا يضع في حسابه أمرين مهمين: كالعادة.. لا تضع الإدارة الإمريكية في حسابها إرادة الشعوب. لا تدرك أن فلسطين ليست »حماس» ولا »فتح» انها قضية شعب لم ولن يتوقف عن تقديم التضحيات لاستعادة حقه المشروع في وطنه، وفي دولته المستقلة، وفي قدسه العربية. وكل ما تفعله السياسة الأمريكية الآن بدعمها لجرائم إسرائيل هو دعوة صريحة لشعب فلسطين بأن يتخطي الواقع الذي يحاصره، وأن يفرز القيادة التي تستعيد الوحدة الوطنية وتقود المرحلة الأخطر في تاريخ القضية. ولا تضع الإدارة الأمريكية في حسابها أنها تقود بتصرفاتها غير المحسوبة المنطقة والعالم إلي ماهو أخطر حين تحول الصراع من قضية استعادة وطن مغتصب، إلي قضية صراع أديان!! ونقول إنها لاتضع في حسابها ذلك.. لأنها لو كانت تفعل ذلك عن عمد وبفهم كامل، فإنها تكون علي وشك ارتكاب الجريمة الأكبر بين ما ارتكب من جرائم في حق فلسطين والعرب.. وذلك حين لا تكتفي بالجريمة التي ارتكبت بقرار ترامب حول القدس، وإنما تلوح بالأخطر حين يقف سفير ترامب وصديقه الحميم سعيدا وسط غلاة الصهاينة يحمل صورة القدس بغير قبة الصخرة!! بالطبع.. نتمني أن يكون الجهل وحده هو السبب في كل ما نراه من قرارات وتصرفات لإدارة ترامب حول فلسطينوالقدس. لكن الواقع يقول إننا أمام مخطط يجري تنفيذه بدقة، وأن علينا أن نثبت لهم أن حساباتهم خاطئة، وأن الضعف العربي لن يدوم، وأن الشعب الفلسطيني قادر علي فرض وحدته وأن المنطقة لن تنجر لحرب دينية كما يريد الصهاينة في إسرائيل وأمريكا، وأن فلسطين ستظل قضية وطن يطلب الحرية والاستقلال والدولة.. والقدس التي ستظل عربية.